في صباح 14 من يناير/كانون الثاني 2019، خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مهددًا الاقتصاد التركي بالتهديد والتدمير، في حال أقدمت تركيا على مهاجمة الأكراد، لكن في المساء خرج الطرفان، بعد لقاءٍ هاتفي بتصريحات تشير إلى توافقهما في تأسيس منطقة آمنة.
هكذا اعتادت تغريدات ترامب التناقض، فتغريدة المساء تمحوها تغريدة أو مشاورات الصباح، والعكس صحيح، لكن ليس تناقض تصريحات وتضارب أفعال الرئيس ترامب وحدهها الكافية لتفسير ما حدث بين الطرفين، بل إن المنطقة الآمنة هي كلمة السر في إعادة الطرفين إلى التوافق، بعدما كانا على شفا السقوط في وحل التوتر الذي انهك الاقتصاد التركي في يوليو/تموز المنصرم.. إذًا، ما تفاصيل هذه المنطقة؟
لقد طرحت تركيا فكرة إنشاء المنطقة الآمنة منذ اللحظات الأولى لاستشعار خطر مشروع وحدات حماية الشعب الذي بدأ بالظهور مطلع عام 2013، الذي كان قائمًا على تأسيس ممرٍ بريٍ يصل شرق الفرات بمناطق قريبة من المتوسط، وكاد المشروع يتحول إلى واقع، لولا توافق أنقرة مع موسكو، وتدخلها عسكريًا تحت مُسمى عملية “درع الفرات”.
تفاصيل المنطقة الآمنة
وفيما تتعلق المنطقة الآمنة التي ترمي أنقرة لإنشائها في مناطق غرب الفرات، أي في بعض مناطق ريف حلب الشمالي وشمالي مدينة إدلب، بالتوافقات التركية ـ الروسية التي حددت هذه المنطقة بعمق 15 إلى 20 كيلومترًا بحسب مُخرجات اتفاق أردوغان ـ بوتين، قامت المنطقة الآمنة المُتفق عليها بين أردوغان وترامب على إنشاء منطقة آمنة بعمق 32 كيلومترًا وطول 460 كيلومترًا.
التحالف التكاملي الذي يعني إشراك جميع الفواعل المحلية والإقليمية والدولية، في سبيل تقاسم التكاليف وإكساب تحركها الروح الإستراتيجية البعيدة عن محاولة طرف ما إفساد خطتها
لقد طرح الرئيس أردوغان فكرة المنطقة الآمنة في مايو/أيار 2013، حينما كان في زيارةٍ رفيعة المستوى إلى واشنطن، وجاء اقتراح المنطقة الآمنة في إطار فكرة متكاملة تقوم على فرض حظر على طيران النظام على طول الحدود الشمالية، وتأسيس منطقة آمنة يسبقها عملية مشتركة بين قوى التحالف الدولي، غير أن واشنطن، بإدارتها السابقة، لم تُبدِ الكثير من الحماس للخطة.
وفي تصريحات الرئيس التركي أردوغان، على هامش الاجتماع الدولي لنواب حزبه 15 من يناير/كانون الثاني 2019، بأن “أنقرة عرضت على الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، فكرة إنشاء المنطقة الآمنة بعرض 32، لكنه ماطل في التعاون معنا”، دليل صارخ على اقتفاء الرئيس ترامب أثر سلفه، ولكن طبقًا لإستراتيجية مُختلفة قليلًا عن توجه الرئيس أوباما، إنها إستراتيجية “التحالف التكاملي”.
التحالف التكاملي الذي يعني إشراك جميع الفواعل المحلية والإقليمية والدولية، في سبيل تقاسم التكاليف وإكساب تحركها الروح الإستراتيجية البعيدة عن محاولة طرف ما إفساد خطتها، وأخيرًا في سبيل تسخير جهود جميع الحلفاء في إطار خدمة مصالحها القائمة على محاولة صياغة توازن قوى صلب ضد النفوذين الروسي والإيراني في سوريا.
وبالتمعن في المُنطلقات الفكرية والشخصية للرئيس ترامب وأعضاء إدارته، يُلاحظ أنها تنبع من فكر الانعازلية النسبية، وتقاسم التكاليف البشرية والمادية والعسكرية مع الحلفاء، وإقامة التحالفات البراغماتية التشاركية بعيدًا عن التحالف الثنائي، وهذا ما يعني التحالف التكامي الذي يخدم مصالح أنقرة الرامية إلى استجداء التعاون الأمريكي، ومنح واشنطن لها دور مهم في إدارة الخط الحدودي منذ فترة طويلة من الزمن.
وتُظهر الخريطة أدناه تفاصيل المحاور الجغرافية التي ستتشارك فيها الولايات المتحدة وتركيا إدارة الانتشار الأمني في المنطقة الحدودية.
وبحسب الخريطة التي كشفت عنها صحيفة حرييت التركية، فإن المنطقة الآمنة تمتد من نهر الساجور إلى المالكية، حيث تبدأ من شمال صرين وعين العرب، مرورًا بتل الأبيض ورأس العين وتل تمر، لتشمل أيضًا درباسية وعامودا وقامشلي، وتتجاوز مناطق وجود النظام السوري في القامشلي، وصولًا إلى تل حميس والقحطانية ويعروبية، انتهاءً بالمالكية، وفيما تخضع بعض مناطق منبج لهذه المنطقة، يبقى مركز المدينة خارج إطارها.
القوات المتشاركة في إدارة المنطقة
يبدو أن السيناريو الأكثر رجوحًا بخصوص الكيانات المدينة والقوات الأمنية التي قد تتشارك في إدارة هذه المنطقة، هو سيناريو الانتشار التشاركي على صعيد محلي، بمعنى أن تستجدي تركيا جميع الفواعل المحلية لمنحها فرصة الانتشار، ومساندتها في إدارة هذه المنطقة ذات المساحة الكبيرة.
ومن المُحتمل أن تكون الهيئات والقوات أدناه في مُقدمة الجهات الفاعلة
ـ المجلس الوطني الكردي وقواتها “البشميركة”: لقد سعت تركيا، منذ عملية تحرير “عين العرب” التي تمت في يناير/كانون الثاني 2014، إلى تأسيس قواعد انتشار مدنية وأمنية قوية للمجلس الوطني و”البشميركة”، حيث فتحت حدودها، وإن كان هناك مُساهمة دولية في تحقيق تركيا لذلك، أمام هذه القوات، واليوم، في ظل توافق توجه المجلس وقواته مع الخطط التركية، فإن أنقرة قد تركن إليها في إطار إيجاد عنصر محلي موازن لوحدات الحماية وخطرها.
ـ قوات “الصناديد”: تأسست هذه القوات عام 2013، من أبناء عشيرة “شمر”، وتوجد غالبيتها في مناطق تل حميس وتل كوجر واليعربية في القامشلي، وجميع هذه المناطق تقع ضمن المنطقة الآمنة، ويقود القوات حميدي دهام الهادي الجربا ـ شمر الذي يرمي إلى إقامة “إمارة” خاصة به في المثلث الحدودي بين سوريا وتركيا والعراق، ويبلغ قوام هذه القوات 4500 عنصرًا.
أظهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، رغم التفجير الذي استهدف عناصر من القوات الأمريكية في منبج، إصراره على المُضي قدمًا في تطبيق إستراتيجية “التحالف التكاملي” التي تحظى تركيا بموقعٍ جيدٍ ضمنها
ويمكن أن تستغل أنقرة طموحه، انطلاقًا من رغبتها في الوقوف أمام النفوذ العربي المُتوقع إنشاؤه على طول الحدود العراقية ـ السورية، وفي بعض المناطق السورية، حيث إن حميدي حاول، عام 2003، استجداء الدعم الإيراني والليبي ضد السعودية، رغبةً في الاستفادة من عداء هذه الدول للسعودية في الحصول على الأموال التي تمكّنه من تحصين مكانة وقدرات عشيرته، لكنه لم يفلح في تحقيق ذلك.
وتخشى تركيا من الدعم العربي لوحدات حماية الشعب على نحوٍ يُشكّل لها تحديًا مستقبليًا، لذا قد تميل لقوات “الصناديد” في بناء عنصر توازن آخر ضد الوحدات، ولأنّ “حميدي” يخشى من تقلص نفوذه أو دوره في حال دعمت الدول العربية وحدات الحماية ضد تركيا وضد نفوذه، فقد يجد في التعاون مع تركيا للانتشار في بعض المناطق التابعة للمنطقة الآمنة مكسبًا له ولطموحه.
ـ قوات النخبة السورية: تأسست قوات النخبة السورية التابعة لتيار الغد السوري الذي يتزعمه أحمد العاصي الجربا، مطلع يناير/كانون الثاني 2016، وعلى الرغم من إعلان القوات هدفها لتحرير دير الزور من هيمنة “داعش”، وعلى الرغم من تنسيق تيار الغد تحركاته مع السعودية والإمارات على نحوٍ وثيق، فإن القوات تضم عددًا من أهالي منطقة تل الأبيض التي تقع ضمن المنطقة الآمنة، كما أنها على علاقة جيدة مع القوات الأمريكية، وهدفها ليس الارتباط بقوة عربية أو غيرها، بل الحصول على نفوذٍ ولو جزئي في إدارة بعض مناطق شرق الفرات، لذا قد يُلامس لها انتشار في بعض المناطق، لا سيما مناطق الرقة والقامشلي، فأحمد الجربا هو ابن عم حميدي الجربا، وقد تُبدي تركيا حذرًا أكبر في التعاطي معها.
ـ المجالس الإدارية المحلية: ساهمت تركيا، بشكلٍ أو بآخر، في تأسيس عدد من مجالس الإدارة المحلية الخاصة ببعض مناطق شرق الفرات، وأيضًا بعض التجمعات الاجتماعية، أبرزها “تجمع العشائر الشرقي”، وكان الهدف الأساسي من هذه المجلس والتجمعات، إدارة المرحلة المحلية في المناطق التي قد تُسيطر عليها تركيا، لذا يُتوقع دور ملموس لهذه المجالس والتجمعات خلال المراحل الأولى من سيطرة تركيا.
في الختام، أظهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، رغم التفجير الذي استهدف عناصر من القوات الأمريكية في منبج، إصراره على المُضي قدمًا في تطبيق إستراتيجية “التحالف التكاملي” التي تحظى تركيا بموقعٍ جيدٍ ضمنها، وقد انبلج هذا الموقع من خلال منحها دور تأسيس منطقة آمنة على طول حدودها مع منطقة شرق الفرات، وعلى الأرجح، يقوم الهدف التركي في إدارة المنطقة الآمنة المذكورة بواسطة القوات العربية والكردية المحلية المحالفة لها.