تمر السياسة الخارجية الأمريكية بتحولات كبيرة منذ بدء فترة الرئيس باراك أوباما الثانية، أبرزها “الارتكاز الآسيوي” (Asian Pivot) الذي أعلنه أوباما عام 2011، والذي بمقتضاه تصبح منطقة شرق آسيا المنطقة ذات الأولوية الأولى للسياسة الأمريكية عالميًا، خصوصًا وهي تشهد صعودًا غير مسبوق للصين، وتوسعها في منطقة بحر جنوب الصين، بما يهدد التوازن الاستراتيجي في المنطقة مع دول مثل اليابان وأستراليا، وهو التوازن الذي تمثل الولايات المتحدة عماده الأساسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. التغيّرات في المنطقة وصلت لأوجها بإعلان الصين لنطاق دفاع جوي جديد (ADIZ) يشمل جزءًا من المياه الإقليمية اليابانية. صعود الخلافات في تلك المنطقة من المحيط الهادي يهدد بطبيعة الحال الولايات المتحدة، ليس عسكريًا واستراتيجيًا فقط، باعتبار المحيط الهادي ساحة إقليمية بالنسبة لها، ولكن اقتصاديًا أيضًا، لا سيما وأن الصين هي شريكها الاقتصادي الأول، ودول مثل اليابان وأستراليا ومجموعة الأسيان تمثل ركائز مهمة للاقتصاد العالمي.
انسحاب من الشرق الأوسط؟
هذا الالتفات الأمريكي نحو شرق آسيا انطوى على انسحاب جزئي من منطقة الشرق الأوسط، خصوصًا ونفط الخليج فيها لم يعد يمثل الأهمية القصوى التي مثَلها للولايات المتحدة حتى مطلع العقد الحالي، وذلك بسب ثورة “شيل”، أو الغاز الصخري، الذي من المتوقع أن يجعل من الولايات المتحدة لاعبًا مهمًا في عالم النفط والغاز، ومصدّرًا خلال عقود، وهو ما يعني تحرّرًا من أعباء الإدارة اليومية لشؤون الشرق الأوسط، والتي فرضتها حيوية النفط الخليجي للاقتصاد الأمريكي، ودافعًا آخر لسياسة الارتكاز الآسيوي.
يستتبع هذا الانسحاب من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، المملكة العربية السعودية وإسرائيل بالأساس، إعادة الحسابات فيما يخص اعتمادهما على الولايات المتحدة، وفي نفس الوقت، حرية أكبر في التصرّف في”الإرث الاستراتيجي” الأمريكي في المنطقة، مما يعني تغييرًا في العديد من السياسات الأمريكية المتبناه في العقد المنصرم دون رضاهما الكامل، لصالح سياسات أكثر اتفاقًا مع رؤيتيهما، وإن اختلفتا.
الإرث الاستراتيجي الأمريكي في العقد الأخير يشمل، أولًا، دعم التحول الديمقراطي في العالم العربي (عدا الخليج)، ثانيًا، دعم الإسلاميين المعتدلين بشكل عام باعتبارهم رافد شعبي أساسي، وفي نفس الوقت بديل حقيقي لإسلاميين أكثر تطرفًا، ثالثًا، انتهاج نهج الاحتواء مع إيران لا المواجهة، رابعًا، الحفاظ على تماسك مجلس التعاون الخليجي لاعتبارات تأمين النفط والتوازن مع إيران. بتحرُّر الولايات المتحدة من مسؤولياتها تجاه المنطقة، ولو جزئيًا، بدأت تغيُّرات عدة تطال هذه الركائز الأربعة، نابعة بالأساس من تولي حلفائها لزمام الأمور. في هذا المقال، نتناول النقطتين الأولى والثانية، والمرتبطتَين بالربيع العربي وما تلاه، وفي المقال التالي نتناول النقطتين الثالثة والرابعة، والمرتبطتين بالوضع الجيوسياسي في الخليج بشكل عام.
الربيع العربي بين أمريكا وحلفائها
استقبل الحليفان الرئيسيان، السعودية وإسرائيل، اندلاع الربيع العربي، بصمت ظاهر وسخط كامن. وكان سخط السعودية على الربيع العربي منطقيا، فهو نابع، أولًا، من قلقها بشأن وصول موجات الاحتجاج إلى عُقر دارها، وثانيًا، من اعتمادها على حلفاء رئيسيين أطاحت بهم الثورات، أبرزهم نظام مبارك الحيوي لها في مصر. في حين كان قلق إسرائيل الأساسي نابع، أولًا، من وصول قوى مناوئة لها للحُكم حال وجود أنظمة عربية ديمقراطية، خاصة في دول هامة كمصر وسوريا، وهو أمر متوقَّع نظرًا للعداوة المعروفة لدى الشعوب العربية لها بشكل عام، وثانيًا، من فقدانها لوضعها الاستثنائي باعتبارها واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وهو وضع يعزز من تحالفها مع الدول الغربية، خاصة أوربا، والتي تميل بطبيعة الحال إلى أنظمة مستقرة وديمقراطية للتعاون والتحالف معها على أصعدة شتى.
كان الحليفان أيضًا في توجُّس من وصول الإسلاميين تحديدًا للسلطة، وهي قوى تعتبرها إسرائيل عدوًا أساسيًا في الشرق الأوسط نظرًا لموقفها منها، في حين تعتبرها السعودية منافسًا لها في هيمنتها على “الإسلام” والذي يمثل أحد القواعد الرئيسية لشرعيتها في الداخل. وكان وصول الإسلاميين للسُلطة أمرًا متوقُّعًا إن لم يكن حتميًا.
وعلى العكس منهما، كانت نظرة الولايات المتحدة مختلفة تمامًا، إذ رحبت بموجات الاحتجاج رغم التردد في البداية من سقوط حلفائها، واعتبرت رهانها على الحريات والديمقراطية رهانًا محفوفًا بالمخاطر على المدى القريب، ولكنه يوثق تحالفها على المدى البعيد. إلا أن هذا الترحيب الذي أعطى دفعةً وسندًا دوليًا للربيع العربي وصعود الإسلاميين، لم يدُم طويلًا، إذ جذبت أنظار الأمريكيين منطقة أكثر أهمية واضطرابًا، وهي شرق آسيا، كما أظهرت تقنية التكسير الهيدروليكي أن نفط الخليج لم يعد ذا أهمية حيوية لهم – وإن ظل، وسيظل، مهمًا على المستوى العالمي، نظرًا للارتفاع المتوقَّع في الطلب على أي حال من قوى كثيرة نامية.
الإسلاميون أول ضحايا التحوّل
ظهرت آثار تحول أنظار الأمريكيين نحو الشرق سريعًا، فبدا موقف الإسلاميين الصاعدين في مصر مترنحًا – على عكس ما توقعوه من سندٍ مماثل لما حظى به حزب العدالة والتنمية في تركيا- خصوصًا وأن أداءهم السياسي في هبوط من اليوم الأول. وبدت تحالفات، وإن لم تعلن عن نفسها، بين القوى القديمة التي أزاحتها الثورة في مصر لعام ونِصف، وبين دول الخليج بشكل أساسي، وكان الهدف هو كبح عجلات الديمقراطية والحريات التي سمح لها الأمريكيون بالانطلاق في المنطقة، وأدت إلى وصول الإخوان إلى السلطة في بلدٍ مهم كمِصر.
على عكس تونس، الصغيرة والبعيدة، والتي حسُن أداءُ الإسلاميين فيها، ما سمح لها بالنجاح النسبي وحماية مكتسبات ثورتها، كان وضع مصر، الكبيرة والحساسة في موقعها لكل من إسرائيل والسعودية، أمرًا لا تهاون فيه، وكانت رداءة أداء الإسلاميين فيها كفيلة بقدرة هكذا تحالف بين الداخل والخارج على إسقاط الإخوان من السُلطة، بانقلاب عسكري هكذا دون مواربة. بدا الانقلاب ضعيفًا و”مترنحًا” في بدايته نظرًا لعدم كفاية تحالف بين قوى داخلية ودول خليجية له، مقارنة بغياب الدعم الدولي المعتاد لتغيُّرات حادة في المنطقة بهذا الشكل، إلا أنه استمر وتوطُّد نظرًا لإصرار ومتانة التحالف الذي سانده، وغياب الولايات المتحدة عن تفاصيل الصورة في المنطقة بشكل غير مسبوق.
كانت الثقة التي اعتبرها الناقدون جنونًا من قبل من قاموا بالانقلاب في مصر، وعدوها سببًا كافيًا لترنحهم، ثقة مبنية على معرفة بالتغيُّرات الحاصلة في المنطقة، والتي تكفي لتكون الكفة في صالح الانقلاب، والقوى المعادية للربيع العربي بشكل عام. تلك الثقة دفعت النظام في مصر للقيام بحملة واسعة لحظر وقمع الإسلاميين بشكل غير مسبوق لم يكن ليتخيّله أحد حتى في عصر مبارك، ولا في القرن الواحد والعشرين على الإطلاق. وهو موقف ألقت السعودية بثقلها إلى جانبه بإعلانها هي أيضًا جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، وهو موقف غير مسبوق تجاه حركة إسلامية، ويشي بالثقة التامة في تولي زمام أمورٍ في المنطقة لم تكن السعودية لتتولاها منفردة في السابق. الموقف من قطر، الدولة الخليجية الوحيدة الداعمة للإسلاميين، كان حادًا أيضًا، على غير عادة تسوية الخلافات داخل مجلس التعاون الخليجي بعيدًا عن الأنظار، إذ سحبت المملكة، وحليفيها الأقرب الإمارات والبحرين، سفرائهما من قطر، الأمر الذي أحدث هوة واضحة لم تحدث من قبل في ترابط مجلس التعاون الخليجي.
كان الانقلاب في مصر ضربة قوية للديمقراطية وللإسلاميين المعتدلين في المنطقة، وهي ضربة فلت منها نظراؤهم في تونس، في حين كان نظراؤهم السوريون يختفون تقريبًا من الصورة تحت وطأة الصراع بين إسلاميين أكثر تطرُّفًا ونظام الأسد. بغياب بديل حقيقي ومكافئ للتحالف بين دول الخليج وقوى الانقلاب في مصر، وبغياب جزئي لا يبدو أنه سينتهي قريبًا للولايات المتحدة عن المنطقة، يبدو الانقلاب أول وأبرز ثمرة للتحول في الاستراتيجية الأمريكية، وللتصرُّف الحر والواثق من قبل السعودية في الإرث الأمريكي الاستراتيجي بالمنطقة، والذي أسقطته الولايات المتحدة، فيما يبدو، من حساباتها.