لا شك أن مصلحة الشركات التجارية تكمن بشكل أساسي في تعظيم العوائد الاقتصادية لكي تحافظ على اسمها وكيانها في السوق بين المنافسين الآخرين، ولكن منذ عشر سنوات تقريبًا، بدأت هذه البيئة بمواجهة تحديات جديدة في سياساتها وعملياتها الربحية، فلم تعد الأرباح وحدها هي المقصد والمنتهى ولا سيما أن الفجوات الاجتماعية والاقتصادية والتهديدات البيئية بدأت بالاتساع بشكل يتطلب تدخل مباشر من رجال الأعمال.
ومن هذا المنطلق، لم يعد الرؤساء التنفيذيين عبارة عن حفنة من الأثرياء الذين يلقون المحاضرات والنصائح على الشباب في مقابلاتهم، بل أصبحوا أحد الأطراف المؤثرة والرئيسية في حل الأزمات والقضايا العالمية مثل الفقر والبطالة والتغير المناخي والمساواة بين الجنسين، وبالتالي انضمت “المسؤولية الاجتماعية” التي تلزم الشركات بتقديم شرح حول تأثير منتجاتهم وخدماتهم على البيئة والمجتمع بالجانب إلى الأهداف الربحية كجزء من المعايير الإدارية الحديثة.
ما الذي ينتظره العالم من أصحاب الشركات التجارية؟
في العصر الحالي، تحول رؤساء الشركات من كونهم رموزًا للنجاح والثراء للاعبين أساسين في حل المشكلات العصرية وخاصةً في الوقت الذي بات فيه جيل الشباب يرى أن المسائل التي تزيد حياتهم صعوبة تزداد تعقيدًا، فوفقًا لمسح “ديلويتي” السنوي الذي يستند في نتائجه على وجهة نظر أكثر من 10 آلاف فرد تم استجوابهم في 36 دولة ما بين عامي 2017 و2018، يرى 40% من المستهلكين من جيل الألفية أن هدف الشركات في المستقبل يجب أن يكون تحسين المجتمع.
وبما أن جيل الألفية سيشكل 40% من إجمالي المستهلكين في العالم وسوف يساهمون في حوالي 40 مليار دولار من الأرباح سنويًا، فلا يمكن للشركات أن تتجاهل المسؤولية الاجتماعية لأن هذا المعيار يهم العملاء والتغاضي عنه قد يهدد سمعتها الأخلاقية في السوق ويقودها للانهيار، وتجنبًا لهذه العواقب الكارثية، تعتمد الشركات التي تعي ماذا يريد المستهلك على المسؤولية الاجتماعية في قواعدها الإدارية.
قال أكثر من 70% من المستهلكين عبر الإنترنت الذين شملهم الاستطلاع إنهم سيدفعون المزيد من المال مقابل المنتجات والخدمات المقدمة من الشركات التي تأخذ المسؤولية الاجتماعية والبيئية على محمل الجد
كما نلاحظ أن الشركات بدأت تعتمد على تقنية عرض نشاطها التجاري كأداة تسويقية لمنتجاتها واسم شركتها، إذ تتعمد إظهار الجانب الأخلاقي المهتم بالاستدامة وبالصحة والفائدة العامة، ما يجعلها تظهر بصورة الشقيق الأكبر الذي يهتم بالكوكب ومن عليه من خلال معايير التعبئة والتصنيع والتغليف والزراعة التي تتبعها كجزء من أعمالها اليومية.
فوفقًا لدراسة أجرتها مؤسسة “نيلسن” في عام 2015، قال أكثر من 70% من المستهلكين عبر الإنترنت الذين شملهم الاستطلاع إنهم سيدفعون المزيد من المال مقابل المنتجات والخدمات المقدمة من الشركات التي تأخذ المسؤولية الاجتماعية والبيئية على محمل الجد في أعمالها.
تنبع هذه الرغبة الملحة بالالتزام والتغيير من ثقة المستهلكين المتزايدة برجال الأعمال، فبحسب مؤشر Edelman Trust Barometer للعام الماضي، يتوقع 64% من الأفراد على مستوى العالم أن يقود الرؤساء التنفيذيون التغيير الاجتماعي بدلًا من السياسيين ورجال الحكومة، كما يرى 84% من كبار المديرين التنفيذيين أنهم يؤثرون على مجرى القضايا الاجتماعية، وتبعًا لذلك ازدادت الثقة برجال الأعمال بنسبة 52% أكثر من رجال الحكومة بنسبة 43%.
سمح التطور التكنولوجي للمستهلكين بأن يكونوا أكثر إطلاعًا بما يجري في محيطهم وأكثر وعيًا بأعمال الشركات وسجلاتها وبالتالي أصبح التأثير على عمرها وانتشارها محكومًا بمعايير الشفافية والسلامة الاجتماعية
إذ يمكن تفسير ظهور هذه الموجة الجديدة من النشاط التجاري المدفوعة بالرغبة الاجتماعية، بالفترة التي عاشها جيل الألفية والتي كانت مليئة بالكثير من الشواغل السياسية والكوارث الطبيعية، ما جعله يركز على الخطط والأعمال التي وضعت سلامة الفرد واستدامة الكوكب برأس قائمة الأولويات.
يضاف إلى ذلك، التطور التكنولوجي وانتشار منصات التواصل الاجتماعي التي سمحت للمستهلكين بأن يكونوا أكثر إطلاعًا بما يجري في محيطهم وأكثر وعيًا بأعمال الشركات وسجلاتها، كما منحتهم فرصة التعبير بصوتٍ عالٍ عن آرائهم وأفكارهم حول نشاطاتها التجارية، وبالتالي أصبح التأثير على عمرها وانتشارها محكومًا بمعايير الشفافية والسلامة الاجتماعية والبيئية التي أقرها جيل الألفية.
هل يمكن أن تستغني الشركات عن أهدافها المادية؟
قد تبدو هذه الفكرة شبه مستحيلة ولا ريب أنه لا داعي لها، فبحسب تحالف الاستثمار العاليم المستدام، ازدهرت الاستثمارات ذات التأثير الاجتماعي الإيجابي بنسبة 25٪ خلال العامين الماضيين ليصل إلى 23 تريليون دولار. بالإضافة إلى ذلك، قدر سوق السندات الخضراء العالمية -التي تم إنشاؤها لتمويل المشاريع التي لها فائدة بيئية أو مناخية إيجابية- بما يصل إلى 300 مليار دولار بنهاية عام 2018، أي ما يقارب ضعف قيمتها في عام 2017.
فمن الواضح أن المشكلات التي استعصى حلها على يد الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، وجدت خلاصها بين أيدي أصحاب الشركات التجارية الذين استغلوا هذه الفرصة، ولا ريب بأنها ردة فعل ذكية في الوقت الذي تمثل فيه الاستدامة والبيئة أولوية بالنسبة للمستهلكين عند اتخاذ قرارات الشراء، إذ أفادت شركة يونيليفر في دراسة دولية، بإن “ثلث المستهلكين يشترون من العلامات التجارية التي يعتقدون أنها تحقق الخير الاجتماعي أو المنفعة البيئية”.
المسؤولية الاجتماعية للشركات تؤثر على 40% من قيمة العلامة التجارية.
على سبيل المثال، تتبنى العديد من الشركات أهدافًا طموحة مثل استخدام المواد المعاد تدويرها بنسبة 100٪ في إنتاج عبوات جديدة، للحد من الاستخدام غير الضروري للمواد البكر أو التصنيع للمزيد من المواد ذات التأثير السلبي على البيئة مثل البلاستيك. بالجانب إلى مساهمتهم في العديد من المسائل الاجتماعية مثل تشغيل ذوي الاحتياجات الخاصة أو تمكين المرأة.
مثال على ذلك برنامج 5by20 الذي تديره شركة كوكا كولا العملاقة والتي قررت من خلاله تمكين 5 ملايين امرأة من رائدات الأعمال اقتصاديًا في جميع أنحاء العالم بحلول عام 2020، أو مثل متاجر “وول مارت” التي خفضت انبعاثات الكربون من شاحناتها من خلال تقليص المسافات التي تقطعها. فمن المرجح أن تزيد هذه الخطط من إيراداتهم السنوية بسبب تأثيرها على المستهلكين، فبحسب The Reputation Institute أن المسؤولية الاجتماعية للشركات تؤثر على 40% من قيمة العلامة التجارية.
وبذلك يكون مفهوم المسؤولية الاجتماعية الذي روج له الاقتصادي، ميلتون فريدمان، في سبعينيات القرن الماضي غير ملائم للتحولات العصرية الحالية، إذ كان يرى أن مسؤولية الشركة تتحقق بسداد الموظفين أجورهم وتقديم السلع للمستهلكين وسداد الضرائب للحكومة ضمن القوانين المتفقة عليها محليًا، وفي المقابل يتجه العالم إلى تنفيذ ما يؤمن به، باول سامويسلون، والذي يرى أن مفهوم المسؤولية الاجتماعية يمثل البعدين الاجتماعي والاقتصادي معًا.