استضافت العاصمة المصرية القاهرة لقاءً يُعَدُّ الثاني من نوعه في خلال مدة لا تتجاوز الشهر، بين وفدين قياديين من حركتَي حماس وفتح. يرأس وفد حماس خليل الحية، عضو المكتب السياسي للحركة، فيما يرأس وفد فتح محمود العالول، نائب رئيس الحركة.
تهدف اللقاءات بدرجة أساسية إلى إنجاز اتفاق بين الحركتين على ترتيب البيت الفلسطيني، بما يشمل إنجاز الترتيبات الحكومية التي تقع في صلبها تفاصيل إدارة الحكم في قطاع غزة وفق مبدأ التوافق الوطني الفلسطيني، وهو ما يهدف إلى قطع الطريق أمام المحاولات المستمرة إسرائيليًّا لهندسة نظام حكم محلي متعاون في قطاع غزة، يحل بديلًا عن الأجسام السلطوية التابعة للفصيلين المنقسمين.
تُصنَّف اللقاءات الثنائية بين فتح وحماس في القاهرة بوصفها لقاءات استكمال على ما جرى التوافق عليه فلسطينيًّا في لقاءات موسكو وبكين في إطار جهود الوحدة الوطنية الفلسطينية، إلا أن ما يجري نقاشه فعليًّا وفقًا لمصادر متعددة مغاير تمامًا عما حملته مخرجات بكين على نحو التحديد، ما يطرح تساؤلًا حول دوافع هذا التغيير وسياقاته، وأفق نجاحه؟
وحدة وطنية تأخرت كثيرًا.. ولقاءات متعددة
منذ انطلاق “طوفان الأقصى”، وشن الاحتلال حرب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من حجم حساسية اللحظة التي تمر بها القضية الفلسطينية، وحجم الاستهداف لكل مكونات الشعب الفلسطيني، لم تسارع القوى الفلسطينية إلى الالتئام وتجاوز الخلافات أمام شلال الدم الفلسطيني النازف.
فعليًّا، لم يجمع حركتَي فتح وحماس أيُّ لقاء مباشر قبل نهاية فبراير/شباط 2024، أي بعد مضي ما يزيد عن خمسة شهور من عمر حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من تصريح عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، حسين الشيخ، بشأن وجود “حوار هادئ” بين حركته وحركة حماس، سبقه تأكيد الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية، نبيل أبو ردينة، وجود اتصالات مع حركة حماس دون الكشف عن تفاصيلها، إلا أن عضو المكتب السياسي لحماس، محمد نزال، نفى ذلك في تصريحات صحفية، مؤكدًا أنه لم يَجرِ أي تواصل في خلال الأشهر الخمس الأولى من عمر الحرب بين الحركتين، لا مباشرة ولا عبر وسطاء.
في تلك الأشهر، لم تتجاوب حركة فتح مع دعوات متعددة لعقد الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير، أو لتشكيل لجنة طوارئ وطنية تتولى مسؤولية مواجهة مخطط التصفية الصهيوني، كما أنها لم تستجب لدعوات المشاركة في اجتماعات وطنية، كان أبرز ذلك ما أكده نزال عن اعتذار فتح عن المشاركة في لقاء فصائلي دعت له حماس في مطلع العام 2024 في العاصمة اللبنانية بيروت، شمل حضورًا قياديًّا من الصفوف الأولى لكل من حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية والجبهة الشعبية القيادة العامة.
شكَّل لقاء موسكو، الذي استمر على مدار يومين في نهاية فبراير/شباط ومطلع مارس/ آذار، المحطة الأولى لكسر الجليد بين الحركتين، وأفضى إلى اتفاق على أولويات التحرك الفلسطيني المشترك، في تسعة بنود ركزت على التصدي للعدوان الإسرائيلي وحرب الإبادة التي شنَّتها “إسرائيل” على الشعب الفلسطيني بدعم ومساندة من الإدارة الأمريكية، ومقاومة ووقف محاولات التهجير والعمل على فك الحصار عن قطاع غزة والضفة الغربية، وتأكيد مقاومة الاستيطان ومنع محاولات “إسرائيل” لتكريس احتلال أو سيطرة عسكرية في القطاع، ورفض أية محاولات لفصل القطاع عن الضفة، وتقديم الإسناد الكامل للأسرى وتأكيد أولوية السعي إلى الإفراج عنهم بكل الطرق.
بطبيعة الحال، لا يمكن وصف هذه المخرجات إلا بأنها تأكيد المؤكد من عناوين للتوافق الوطني، إلا أن أهميتها الرئيسية تكمن في كونها قطعت الطريق أمام الكثير من التكهنات حول موقف حركة فتح الرسمي من الحرب على غزة، ومن معادلات الحكم للقطاع بمعزل عن التوافق الوطني.
تبعت لقاء موسكو استضافةُ العاصمة الصينية بكين لقاءين، الأول ثنائي بين حركتَي فتح وحماس، كان يفترض أن يُشكِّل بوابة الوصول السلس إلى اللقاء الثاني، الذي أُجِّل في المرة الأولى ارتباطًا برغبة من فتح قُدِّرت حينها بناءً على تسريبات صحفية بأنها نتائج لضغوط أمريكية تهدف إلى قطع الطريق أمام دور صيني فعال، وهو ما لم ينجح في نهاية المطاف، إذ استطاعت الصين أن تنجز قمة فلسطينية قيادية من الصف الأولى في أواخر يوليو/تموز 2024.
شمل “اتفاق بكين” الذي وقَّعه 14 فصيلًا فلسطينيًّا في أعقاب جلسات الحوار التي عقدت على مدار يومين، 8 بنود حملها البيان الختامي، ركَّزت على أهمية الوحدة الوطنية الشاملة، وأحقيَّة الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
ومن أبرز البنود التي وردت في البيان: “تشكيل حكومة وفاق وطني مؤقتة، بتوافق فصائلي وبقرار من الرئيس (محمود عباس)، لتمارس صلاحياتها على الأراضي الفلسطينية كافة، بما يؤكد وحدة أراضي الضفة الغربية والقدس وغزة”، بالإضافة إلى بند آخر يتعلق “بتفعيل وانتظام الإطار القيادي المؤقَّت الموحَّد للشراكة في صنع القرار السياسي”.
وهي بنود بقيت حبيسة البيان الختامي، كما البنود التي سبقتها في اتفاقيات المصالحة الفلسطينية، وعلى الرغم من استمرار الهجمة الإسرائيلية الكبرى وشلال الدماء الفلسطينية النازف، فإن التثاقل في نقل اتفاقيات المصالحة الفلسطينية إلى حيز التنفيذ بقي سيد الموقف لما يقارب العام من حرب الإبادة المستمرة ضد قطاع غزة.
صيغ لإدارة غزة بتوافق وطني
في سبتمبر/أيلول الماضي، نفى عضو المكتب السياسي لحركة حماس في قطاع غزة، باسم نعيم، الأنباء عن اتفاق بين حماس وفتح على إدارة مدنية لغزة، ووجود تحضيرات لعقد اجتماع للحركتين في إطار المصالحة، مؤكدًا أنه “لم يتم الاتفاق على أي شيء محدَّد بعد اللقاء الفصائلي في العاصمة الصينية بكين، الذي جرى في 23 تموز/يوليو الماضي”.
إلا أن هذا النفي لم يكن مقاربًا للدقة، إذ عقدت الحركتين اجتماعًا ثنائيًّا في العاصمة المصرية القاهرة بتاريخ 9 أكتوبر/تشرين الأول، عدَّه المتحدث باسم رئاسة المكتب السياسي في حركة حماس، طاهر النونو، بأنه يأتي في سياق تحقيق المصالحة الوطنية، وتعزيز التنسيق الأمني والسياسي بين الحركتين، إلى جانب توحيد الجهود لمواجهة التصعيد الإسرائيلي المستمر.
وصرحت مصادر مصرية بأن الاجتماع بين فتح وحماس بحث آلية عمل اللجنة المعنية بإدارة المعابر وملفات الصحة والتعليم.
وفي التفاصيل، فإن المقترح المصري ينص على:
- إنشاء لجنة للإسناد المجتمعي، تضم من 10-15 عضوَا مهنيًّا من غير المنتمين إلى الفصائل الفلسطينية.
- اللجنة إطار منبثق عن حكومة التكنوقراط الفلسطينية التي ستتولى مسؤولية غزة والضفة على حد سواء، كما أنها تتبع إداريًّا للسلطة الفلسطينية.
- تتولى لجنة الإسناد المجتمعي إدارة المعابر وملفات الصحة والإغاثة والإيواء والتنمية الاجتماعية والتعليم.
- تُموَّل اللجنة من جهات دولية داعمة ومن ميزانية الحكومة الفلسطينية والجباية الداخلية.
- ستكون اللجنة الجديدة جزءًا من النظام السياسي الفلسطيني، وستتولى الشؤون المدنية بما في ذلك الأعمال الشرطية.
لم ينجح لقاء أكتوبر/تشرين الأول في حسم مصير المقترح المصري، وفي الوقت الذي تحدثت فيه مصادر عن قبول فوري من حركة فتح بالمقترح، فإن حركة حماس لم تُبدِ دافعية تجاه الموافقة عليه، على الرغم من مناقشتها تفاصيل التفاصيل فيه، بما فيها تلك المرتبطة بتفويض اللجنة وصلاحياتها، على الصعيدين التمثيلي والمحلي.
غادرت الوفود القاهرة للتشاور، مع موقف نهائي من حركة حماس يتمسك بكون الدرب الأجدى تشكيل حكومة فلسطينية متوافق عليها تتولى المسؤولية الكاملة عن أراضي السلطة الفلسطينية كافة في قطاع غزة والضفة الغربية، وتنجز التفاصيل الإدارية اللازمة لتوحيد مؤسسات السلطة في القطاع.
وفقًا لمصادر “نون بوست”، فإن النقاش بشأن لجنة الاسناد المجتمعي قد سبق لقاء القاهرة وتقديم المقترح المصري بالخصوص، وقد نوقِش بالتفصيل في لقاءات غير معلَنة بين وفد من حركة حماس وآخر من حركة فتح، تبعه لقاء بين وفد من حماس مع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في العاصمة القطرية الدوحة، على هامش زيارته لها في مطلع أكتوبر/تشرين الأول للمشاركة في القمة الثالثة لحوار التعاون الآسيوي.
أكدت المصادر ذاتها أن جوًّا إيجابيًّا قد ساد اللقاءات المذكورة، وأن الكثير من التفاصيل العالقة قد جرى تجاوزها، فيما بقي النقاش يتمحور حول نقطتين رئيستين في آليات وصلاحيات عمل اللجنة: نقطة الخلاف الأولى مرتبطة بالحدود التمثيلية للجنة وإمكانية مخاطبتها للمجتمع الدولي مباشرةً، وهو ما تريده حركة حماس فيما تتمسك حركة فتح بكون الحكومة الفلسطينية بوابة الاتصال الرئيسية مع المجتمع الدولي وأن أي تواصل للجنة يكون عبر الحكومة؛ ونقطة الخلاف الثانية مرتبطة بمدى صلاحيات اللجنة على أموال الإعمار وقدرتها وديناميكيتها في التعامل مع هذا الملف، إذ تطلب حماس صلاحيات كاملة للجنة فيما تتمسك السلطة بكون المحددات والمعايير ستكون خاضعة لآليات عمل الحكومة الفلسطينية.
في السياق ذاته، أبدت قوى وفصائل فلسطينية تمسكها بضرورة أن يمر أي حل عبر تشكيل لحكومة فلسطينية متوافق عليها، والعمل انطلاقًا من أرضية ثابتة تؤهل لألَّا ينشب الخلاف مستقبلًا، وهو ما تمسكت به حركة حماس في نهاية اجتماعاتها مع وفد حركة فتح في الدوحة، وكذلك مع وفد فتح في القاهرة.
وفقًا لمصادر “نون بوست”، يحمل الاجتماع الثاني الذي تستضيفه القاهرة لاستكمال الحوار في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي بين طياته استمرار الحوار بخصوص تشكيل لجنة الإسناد المجتمعي في قطاع غزة، ويحمل معه عرضًا فتحاويًّا تقبل بموجبه الحركة إدخال تغيير متوافق عليها على تشكيلة الحكومة التاسعة عشرة -حكومة محمد مصطفى الحالية- بحيث تحظى الحكومة بدعم وطني واسع، تتحول عبره إلى حكومة “توافق وطني” بما يلبي رغبة الفصائل جزئيًّا، ويحافظ على المحدِّدات التي وضعها عباس بالتمسك بحكومة مصطفى بوصفها التجديد التكنوقراطي الجاهز لمباشرة العمل.
سلطة متجددة.. وترتيبات إقليمية
قدمت القاهرة مقترحها على أساس أن تأسيس اللجنة يقطع الطريق على مخطط بنيامين نتنياهو لتشكيل إدارة مدنية خاضعة للجيش الإسرائيلي في غزة، ويقدم صيغة منطقية يعمل العمل على تطبيقها وتحويلها إلى أمر واقع.
في الواقع، لا يمكن فصل التحركات المصرية، وانفتاح السلطة الفلسطينية غير المسبوق على تنفيذ ترتيبات توافقية مع حركة حماس لإدارة قطاع غزة، والمشهد الفلسطيني عمومًا، عن التحركات الإقليمية التي نشطت مع مطلع العام الحالي، في إطار بحث سيناريوهات “اليوم التالي”، خاصةً الاجتماعات التي استضافتها المملكة السعودية.
في نهاية كانون الثاني/ يناير الماضي، كشف موقع “أكسيوس” الأمريكي عن اجتماع رباعي ضم السعودية ومصر والأردن والسلطة الفلسطينية، عُقِدَ سرًّا في الرياض بهدف تنسيق المواقف بشأن “اليوم التالي” للحرب على غزة، كما بحث السبل التي يمكن من خلالها لسلطة فلسطينية متجددة أن تشارك في إدارة القطاع بعد الحرب.
تنسجم التحركات الإقليمية، التي عبَّر عنها الجهد المصري الأخير والعرض المقدَّم لحركتَي فتح وحماس، مع الموقف الأمريكي المُعلَن، الذي يتمسك بدور السلطة الفلسطينية
في خلال الاجتماع، طالب السعوديون والمصريون والأردنيون بـ”إجراء إصلاحات جادة لتجديد صفوف السلطة”، وأكدوا أن هذه الإصلاحات “ضرورية حتى تعود السلطة الفلسطينية إلى حكم غزة بعد فترة انتقالية بعد الحرب”.
وطلب المجتمعون أن يحصل رئيس الوزراء الجديد، إذا شُكِّلت حكومة فلسطينية جديدة، على بعض الصلاحيات التي كانت تتركز في السنوات الأخيرة بيد الرئيس الفلسطيني.
تبع ذلك إعلان السعودية في مطلع فبراير/ شباط الماضي استضافتها اجتماعًا عربيًّا “تشاوريًّا” على المستوى الوزاري لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة، بمشاركة الأردن ومصر وقطر والإمارات والسلطة الفلسطينية، في حين أشار تقرير إسرائيلي إلى أن الاجتماع في الرياض يهدف إلى الاتفاق على موقف عربي موحَّد بشأن الحرب في غزة، بالإضافة إلى مناقشة مبادرات لما يسمى بـ”اليوم التالي” للحرب الإسرائيلي على قطاع غزة المحاصر.
وفقًا لتقرير لموقع “تايمز أوف إسرائيل” العبري، فإن الاجتماعات في السعودية تهدف أيضًا إلى تنسيق الخطوات التي ترغب الدول المشاركة في اتخاذها لتعزيز العلاقات مع “إسرائيل”، وتحديدًا السعودية، التي تجري محادثات مع إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، حول تطبيع علاقاتها مع “إسرائيل”.
وبالتزامن مع لقاء القاهرة الثاني بين وفدَي حماس وفتح، أطلقت الحكومة السعودية يوم الأربعاء أعمال مؤتمر دولي في الرياض حول إقامة الدولة الفلسطينية “يضم دبلوماسيين ومبعوثين من عدة دول ومنظمات إقليمية ودولية لتقديم جدول زمني محدد لبناء وتنفيذ الدولة الفلسطينية وحل الدولتين على طريق السلام الدائم والشامل في الشرق الأوسط”.
تهدف التحركات السعودية بدرجة أساسية إلى ضمان أن تكون شريكًا أساسيًّا في إعادة صياغة “اليوم التالي” في قطاع غزة، وتسعى عبر نسج شراكة واسع مع القوى الإقليمية إلى ضمان وجود أوسع حاملة لهذه الصياغات، بما يسهم في أن تُقدِّم القوى الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة العربية مقترحها الخاص لشكل “اليوم التالي”، والعمل على فرضه أمرًا واقعًا بالتعاون مع الولايات المتحدة، في الوقت الذي تبحث فيه السعودية عن معادلة شاملة لخوض مسار التطبيع مع “إسرائيل” مقابل مكاسب متعددة ضمن صفقة كبيرة مع الولايات المتحدة.
تنطلق تحركات الدول العربية من تقديرها لآثار استمرار السياسة الإسرائيلية اليمينية، خصوصًا المطامع الاستيطانية التوسعية، والسعي المحموم من وزارة الائتلاف الحكومي إلى إعادة الاعتبار لمفهوم “الترانسفير” وتهجير الشعب الفلسطيني، قسريًّا أو طوعيًّا، وبالتالي فإن هذه الدول، وبدرجة أساسية كل من الأردن ومصر، وعبرهم إلى الدول العربية الأخرى، ستكون المستقبل الرئيس لموجات الهجرة الفلسطينية، وستضطر إلى التعامل مع أعباء هذا التدفق من اللاجئين الكفيل بإحداث تغييرات كبيرة في البنى الأمنية والديمغرافية والتركيبة السكانية في هذه الدول، وبخلط الكثير من المعادلات في الشرق الأوسط، وبالتالي تسعى جميعها إلى تلافي هذا السيناريو.
يتجاوز المعروض حاليًّا أيَّ أفق لوحدة وطنية حقيقية، وينسجم إلى حد ما مع المطلب الإسرائيلي والمعايير الأمريكية، التي تتضمن إخراج حركة حماس من دائرة الحكم بدرجة رئيسية
من جانب آخر، تُعَدُّ تصفية السلطة الفلسطينية، والقضاء على كينونة التمثيل الفلسطيني، مهدِّدًا كبيرًا لا ترغب الدول العربية في العودة إلى مربعه، خصوصًا أن هذه التصفية ستعني عودة الدول العربية إلى تحمُّل مسؤولية معالجة الملف الفلسطيني والصفة التمثيلية فيه ولو جزئيًّا، وهو ما يعني العودة إلى مربعات من المسؤولية قد غادرتها تلك الدول منذ عقود، وهو ما يستلزم خطوات عاجلة لضمان بقاء السلطة الفلسطينية واستمرار حضورها في المشهد الفلسطيني.
تنسجم التحركات الإقليمية، التي عبَّر عنها الجهد المصري الأخير والعرض المقدَّم لحركتَي فتح وحماس، مع الموقف الأمريكي المُعلَن، الذي يتمسك بدور السلطة الفلسطينية وعَدِّ نسختها “المتجددة” الشكل الأجدى لإدارة “اليوم التالي” فلسطينيًّا، وهي صيغة تحتاج حتى تُمرَّر إلى توافق فلسطيني داخلي لا يحول تلك السلطة إلى خصم لقوى المقاومة، أو وافد على ظهر الدبابة لحكم قطاع غزة.
ما بين المطروح واتفاق بكين
في الواقع، يخرج المطروح، والمقبول فتحاويًّا عن جوهر اتفاق بكين بين الفصائل الفلسطينية، ويتجاوز الروحية الرئيسية لإعادة صياغة مشهد الوحدة الوطنية الفلسطينية، بما يؤهلها إلى خوض مسار المواجهة والاشتباك والدفاع عن القضية الفلسطينية بفاعلية وجدية في وجه حرب الإبادة الصهيونية.
يتجاوز المطروح في مقترح القاهرة أي دور أو تفعيل لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي يُفترَض أن تكون الجهة الجامعة لكل أطياف العمل الفلسطينية، والمعبِّر الرئيسي عن الموقف الجمعي للشعب الفلسطيني.
وفقًا لاتفاق بكين، فإن صيغة الإطار القيادي المؤقت الصيغة التي يفترض أن تنعقد على وجه السرعة، بحيث تتولى مسؤولية قيادة الشعب الفلسطيني، ومرجعية حكومة التوافق الوطني.
تجنَّب رئيس السلطة، محمود عباس، الدعوة إلى انعقاد الإطار القيادي المؤقَّت لمنظمة التحرير على مدار عام من الحرب، كما أنه لم يستجِب لمقترحات الفصائل بتشكيل لجنة طوارئ وطنية تتولى مسؤولية قيادة الموقف الفلسطيني في خلال الحرب، وتمسَّك باللجنة التنفيذية الحالية للمنظمة، وصيغة “اجتماعات القيادة”، التي تتجاوز حضور ومشاركة كل من حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهي الفصائل الحاضرة على أرض الواقع.
يتمسك محمود عباس بحكومة محمد مصطفى بوصفها حكومة التكنوقراط، على الرغم من أن اتفاق بكين نصَّ على تشكيل حكومة توافق وطني فلسطيني، وهو مطلب تتمسك به الفصائل والقوى الفلسطينية بما فيها حركة حماس، ويناور رئيس السلطة للتملص منه بأطروحات متعددة، كان آخرها طرح إمكانية استبدال بعض الوزراء مع الإبقاء على التركيبة الرئيسية للحكومة الحالية، وهي الحكومة التي قدمها بوصفها مظهر “التجديد” المطلوب إقليميًّا للسلطة الفلسطينية.
يتجاوز المعروض حاليًّا أيَّ أفق لوحدة وطنية حقيقية، وينسجم إلى حد ما مع المطلب الإسرائيلي والمعايير الأمريكية، التي تتضمن إخراج حركة حماس من دائرة الحكم بدرجة رئيسية، وتسليم مفاتيح إدارة قطاع غزة للجنة محلية مشكَّلة من شخصيات غير منتمية لأي من القوى والفصائل الفلسطينية، وهي شخصيات موجودة ضمن قائمة مُعدَّة مسبَقًا وموجودة لدى الطرف المصري، لتشكِّل أرضية للأسماء المقترحة لتولِّي هذه المهمة.
تناور حركة حماس بحثًا عن الصيغة الأجدى لضمان أن تبقى حاضرة في صياغة المشهد القادم لـ”ليوم التالي”، بعد أن أفشَل صمودُها الرهاناتِ على إمكانية نجاح الاحتلال بتفكيك حكمها وبنيتها بما يسمح بتجاوزها على أرض الواقع، وهو ما دفع كل الأطراف إلى إعادة النظر في أفكار تجاوزها وصياغة خيارات بعيدًا عن التوافق الفلسطيني الداخلي لتولِّي مسؤولية قطاع غزة في “اليوم التالي” لحرب الإبادة المستمرة ضد القطاع.