كثيرًا ما يقال بأنّ أحلام اليقظة والانشغال بالخيال وبناء الأحلام مضيعة للوقت والقوة العقلية. لكن بالنسبة لآينشتاين لم يكن الأمر كذلك أبدًا، فهو يرى أنّ الخيال أكثر أهمية من المعرفة. “المعرفة محدودة بما نعرفه الآن وما نفهمه، أما الخيال فيطوّق العالم بأسره”، بحدّ وصفه.
في علم النفس والفلسفة، يُنظر للخيال على أنه قدرة بشرية فريدة تميّزنا عن غيرنا من المخلوقات. ففي جوهره، يسمح لنا الخيال باستكشاف أفكار وأشياء غير موجودة في بيئاتنا الحالية، وأخرى قد تكون غير حقيقية ولا تمتّ للواقع والحقيقة بصلة. فقد تتخيّل وجبة الفطور التي حظيت بها قبل أسبوع، أو قد تتخيل كائنًا فضائيًا غريبًا يصل إلى كوكب الأرض.
تُشير الإحصاءات إلى أنّ ما يصل إلى 96 ٪ من البالغين ينخرطون في نوبة واحدة على الأقل من الخيالات وأحلام اليقظة اليومية. ولو جئنا لتعريف الخيال، فيمكننا القول بأنه القدرة الفطرية في العقل البشري لخلق أفكار أو صور عن عوالم من أشخاص غير واقعية كليا أو جزئيا، وذلك بدء من عناصر يستمدها العقل من إدراكاته الحسية للعالم الخارجي لا مشترك بين الناس.
ينظر علم النفس التطوري للخيال كوسيلة تعلّمنا المهارات البدنية والعقلية التي نحتاجها للبقاء والاستمرار والتكاثر
أما إحدى الفرضيات التي تفسّر قدرتنا على الخيال وتكوين الأحلام فترجع بحسب علم النفس التطوري إلى أهمية الخيال بالسماح للوعي بحلّ المشكلات والتنبؤ بالواقع والمستقبل للتعامل معه حين حدوثه. ولهذا، فغالبًا ما يفسّر علماء النفس قدرة الأطفال على التخيّل بأنها جاءت كوسيلة تعلّمنا المهارات البدنية والعقلية التي نحتاجها للبقاء والاستمرار والتكاثر.
كيف يُفيدنا الخيال في الواقع؟
بالرغم من أنّ بعض الدراسات والآراء تشير إلى أن أحلام اليقظة والانشغال بالخيال يجعلاننا غير سعداء نظرًا لأننا لا نركز خلالهما على ما يدور حولنا، بل نستغرق بالتفكير في الماضي أو المستقبل. إلا أنه وعلى الجهة المقابلة، ثمة عدد من الدراسات قد خلصت إلى أنّ أن الأشخاص الذين يستغرقون بعض الوقت في أحلام اليقظة والخيال فإنهم يسجلون قدراتٍ فكرية وإبداعية أعلى من غيرهم.
الأشخاص الذين يكونون أكثر عرضة لاستخدام خيالهم وخلق أحلام اليقظة عادةً ما يكونون ماهرين في القدرة على توليد أفكار جديدة بشكلٍ خلّاق
يقترح بحثٌ آخر أن إحساسنا بالهوية يتطور عندما نحلم أو نتخيل، وذلك من خلال التذكر المستمر للأحداث من ماضينا وتوقّع ما سيكون عليه مستقبلنا وذواتنا التي نرغب بتحقيقها، فإننا نشكّل إحساسًا أقوى بمن نكون كأفرادٍ. ولهذا، فتُعتبر موضوعات الخيال وأحلام اليقظة جزءًا مهمًّا في العديد من الأبحاث التخصصية؛ سواء في علم النفس أو الأعصاب أو الفلسفة أو حتى في العلاجات النفسية الحديثة.
أحلام اليقظة مثلها مثل الأحلام أثناء النوم، يمكن لها أنْ تعزّز من إمكانيات التعلم والتذكّر في الواقع
دراسة أخرى تشير إلى وجود علاقة واضحة بين أحلام اليقظة وزيادة الإبداع. وفي الواقع، فإنّ الأشخاص الذين يكونون أكثر عرضة لاستخدام خيالهم وخلق أحلام اليقظة عادةً ما يكونون ماهرين في القدرة على توليد أفكار جديدة بشكلٍ خلّاق. ما يعني أنّ التفكير الواعي بمشكلة ما، قد لا يكون أفضل طريقة لحلها وتجاوزها، فالخيال وأحلام اليقظة يتركان العقل يتجلى ويبدع في الحلول والبدائل.
وقد ثبت على نطاق واسع أنّ النوم والحلم الليلي يعدّان جزءًا مهمًّا وأساسيًّا من عمليات التعلم والذاكرة التي تحدث في الدماغ. لكنّ أحد الأبحاث التي أصدرتها جامعة بريتيش في كولومبيا قد توصّل أيضًا إلى أنّ أحلام اليقظة مثلها مثل الأحلام أثناء النوم، يمكن لها أنْ تعزّز من إمكانيات التعلم والتذكّر في الواقع.
الخيال لعلاج المخاوف والقلق.. آليات فعالة ومثبتة
واحدة من الطرق الفعّالة في علاج المخاوف والفوبيا هو الخيال الاسترشادي Guided imagery، بحيث يقوم الشخص بمساعدة معالِج أو مرشد باستحضار أو تكوين بعض الصور الذهنية لمحاكاة أو إعادة خلق بعض المحفّزات الحسية والمادية الملموسة مثل المشاهد أو الروائح أو الأصوات، وغيرها.
يعدّ الخيال الإرشاديّ علاجًا حرًّا للتخلص من الإجهاد والقلق. ويمكن مع الممارسة القيام به في أيّ مكان دون مساعدة المعالِج أو المرشد. وتكمن الفكرة الأساسية من ورائه هنا مساعدتك على تخفيف التوتر الجسدي والإجهاد النفسي الذي يعتريك ويصيبك، الأمر الذي يساعد في تشتيت انتباهك ويتيح لك الوصول إلى إطار عقلي أكثر إيجابية.
يحفّز الخيال عددًا من مناطق الدماغ التي يتم تحفيزها في حالات الإدراك والذاكرة. وعندما نخاف أو نقلق فإنّنا نشهد استجابةً عصبية تنشّط مناطق الذاكرة ومحفّزات الحواس
ولنفهم كيفية عمل العلاج علينا أولًا معرفة كيف يعمل الخيال في الدماغ. فهو يحفّز مناطقَ مثل القشرة البصرية والقشرة السمعية التي تُعطي أدمغتنا المعلومات بحسب ما تشهده حواسنا أو ما قد شهدته سابقًا، إضافةً إلى مناطق استرجاع الذاكرة مثل الحصين، والذي يساعدنا بدوره على استخدام تجارب سابقة للتنبؤ بما قد يحدث في المستقبل.
وبكلماتٍ أخرى، يحفّز الخيال عددًا من مناطق الدماغ التي يتم تحفيزها في حالات الإدراك والذاكرة. وعندما نخاف أو نقلق فإنّنا نشهد استجابةً عصبية تنشّط مناطق الذاكرة ومحفّزات الحواس، واستجابة سيكولوجية مختصة بالتعامل مع الخطر المتوقّع والمحتمل، مثل ارتفاع ضربات القلب والتعرّق وصعوبة التنفس وما إلى ذلك. ما يعني أنّ تخيّل خطرِ أو خوفٍ ما ينشّط بعض الانفعالات العاطفية اللازمة للتصدي لذلك الخطر كما لو أنه أمامنا الآن.
وقد وجد الباحثون في إحدى الدراسات أنّ المشتركين الذي استخدموا خيالهم قد نجحوا في الحد من الخوف الناجم عن الخطر والتهديد الذي يشعرون به. كما أوضحت الدراسة أن إعادة تعرُّضهم للخطر عادةً ما يرتبط مع انخفاضٍ في ردود أفعالهم السيكولوجية ونشاط دماغهم المرتبط بها. والأهم من ذلك كلّه أنّ هؤلاء المشتركين سجّلوا درجاتٍ أعلى بالنجاح مقارنةً بالمشتركين الذي تعرّضوا بالفعل لمحفّزات فعلية للخطر، وهو ما يُعرف بالعلاج بالتعرّض.
وبالإضافة للخوف، فقد ثبت نجاح الخيال الاسترشادي في علاج حالات القلق والتوتّر والحدّ من الإجهاد والضغوطات اليومية، أو في حالات العزلة والانسحاب الاجتماعي، بحيث أنه يساعد الناس أيضًا في تقوية شبكات تواصلهم مع مع معارفهم وأقاربهم وزيادة ثقتهم بالغرباء من حولهم، وفي حالاتٍ أخرى قد يكون اللجوء فيها للخيال كعلاجٍ حلًّا سهلًا ومتوافرًا لا يستلزم الوقت ولا المال، لكنه قد يحتاج أحيانًا لمراقبة وإرشاد خبير حتى لا يتم تحفيز المخيلة والذكريات بطريقة سلبية تزيد من المشكلة سوءًا بدلًا من حلّها.