جولة جديدة في معركة الصراع بين مؤسسة الأزهر والنظام الحاكم في مصر، تلك المعركة التي تسعى فيها المؤسسة الدينية إلى الدفاع عن هويتها في مواجهة محاولات التهميش وتقزيم دورها لحساب بسط الدولة كامل هيمنتها على كل المؤسسات التي ترغب في تحويلها إلى إدارات فرعية تابعة لها في مختلف القرارات.
بطل الجولة الحاليّة مشروع قانون الأحوال الشخصية الذي تقدم به النائب محمد فؤاد وغيره من الأعضاء لمناقشته داخل مجلس النواب، فحوله البرلمان إلى الأزهر للبت في نصوصه وإبداء الرأي فيه، غير أن المؤسسة وحتى كتابة هذه السطور لم ترد على المجلس وهو ما أثار حفيظته وأشعل فتيل الحرب مجددًا.
النزاع بين الأزهر على رأسه شيخه الإمام أحمد الطيب والدولة ممثلة في رئيسها عبد الفتاح السيسي ليس وليد اللحظة، ورغم تأييد المؤسسة الدينية لأحداث 3 يوليو 2013 فإن تغريدها بين الحين والآخر خارج السرب أثار إزعاج السلطات التي بدورها سلطت أذرعها الإعلامية والتشريعية للنيل منها في محاولة لتفريغ الساحة إلا من حملة المباخر والصاجات.
جدل بشأن القانون
القانون وبعيدًا عن رأي الدين في كثير من بنوده أثار عددًا من الانتقادات الحقوقية والمجتمعية ما دفع العديد من مؤسسات المجتمع المدني إلى المطالبة بإعادة النظر فيه وطرحه للنقاش المجتمعي قبل تشريعه بصورة نهائية لا سيما عدد من النقاط المثيرة للجدل منها “الرؤية والتمكين والحضانة والنفقة”.
حافظ أبو سعدة رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، أبدى اعتراضه على القانون في صيغته الأولية، مشيرًا إلى أنه لم يتم عرضه على المجلس القومي لحقوق الإنسان والمجلس القومي للمرأة والمجلس القومي للأمومة والطفولة، كاشفًا أن به خلافًا بشأن بعض الفقرات التي تضمنها القانون وعلى رأسها سن الحضانة التي يتبنى القانون تخفيضها وكذلك الرؤية والاستضافة والنفقة، مشددًا على أنها تعد مواضيع مترابطة وتحتاج إلى حوار هادئ، وأن المبدأ الأساسي الوارد في اتفاقية حقوق الطفل هي المصلحة الفضلى للطفل وليس أخذ الطفل بذنب خلاف الآباء والأمهات.
“الأزهر ليس مشرعًا في قوانين الأحوال الشخصية والمشرع هو مجلس الشعب، حيث إنه يرسل لنا مشروعات القوانين لنقول إذا كانت تصطدم مع نص قرآني واضح في الشريعة الإسلامية أو لا تصطدم” شيخ الأزهر
فيما طالبت حسناء الحسن رئيس مجلس إدارة جمعية “عنها ولها”، بإضافة عدة بنود في تعديلات القانون المطروح، منها أن يصبح نظام الزواج اختياريًا بمعنى أن ينص على أن يتم عقد زواج شرعي يمنح فيه الزوج لزوجته كل حقوقها المادية الشرعية من مهر وأثاث كامل لمسكن الزوجية وإنفاقه على بيته وزوجته وأولاده من دخله الخاص دون مساعدة الزوجة له، وبالتالي يحصل على حقوقه الشرعية في التعدد والتطليق منفردًا وغيابيًا.
بدورها تقدمت رباب عبده، مسؤول ملف المرأة بالجمعية المصرية لمساعدة الأحداث وحقوق الإنسان، بعدد من المقترحات التي تتطلب تعديلاً في القانون على رأسها مواد النفقة على أن تكون موزاية لظروف الحياة الحاليّة، وعدم الحصول عليها بصورة فعلية يضعها للجوء إلى بنك ناصر الاجتماعي الذي يوفر لها 500 جنيه في ظل أن المحكمة تعطي لها مبلغًا قدره 1500 جنيه، مطالبة في القانون الدولة بتوفير المبلغ الكامل للزوجة عن طريق صندوق دعم الأسرة الذي يتم تحصيل رسومه من شهادات الميلاد وعقود الزواج.
الأزهر ليس جهة تشريع
الحديث عن تعديلات قانون الأحوال الشخصية حديث قديم يعود إلى سنوات عدة قفزت فيها بعض الأصوات التي تنادي بإجراء بعض التغييرات بشأن القانون نظرًا لما به من عوار مجتمعي وفق رأي البعض أدى إلى تعميق معاناة الكثير من الأزواج والزواجات على حد سواء، فضلاً عن الأبناء.
الطيب في لقاء تليفزيوني له في نوفمبر 2017 أكد مرارًا وتكرارًا أن الأزهر ليس جهة تشريع، ولا دخل له بالتشريعات، لكن حين يتعلق الأمر بقوانين مصدرها الشريعة الإسلامية فلا يترك الأمر لغير العلماء.
وأضاف “الأزهر ليس مشرعًا في قوانين الأحوال الشخصية والمشرع هو مجلس الشعب، حيث إنه يرسل لنا مشروعات القوانين لنقول إذا كانت تصطدم مع نص قرآني واضح في الشريعة الإسلامية أو لا تصطدم”، وتابع “إننا غير مسؤولين عن تحريك هذة القوانين وإنما سؤلنا ومهمتنا الإجابة، فإذا سؤلنا عن سن معين لانتهاء للحضانة هل هذا يعارض الشريعة أم لا يعارضها، فمهمتنا نقول لا يعارض الشريعة لأنه لا يوجد سن محدد شرعي للحضانة حتى نقول إنه معارض أو يصطدم”.
من جانبه علق المفكر الإسلامي الدكتور ناجح إبراهيم، على هذا الجدل بأن الأزهر يعمل جاهدًا في اختصاصاته الدينية باعتباره المرجعية الإسلامية السنية الأولى، فهو يحافظ على ثوابت الدين، ويعمل على تطوير الخطاب الديني، ويدافع عن القيم الدينية بل والوطنية باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من القيم الدينية.
وشدد على أن شيخ الأزهر رجل ذو حكمة وبصيرة، واستطاع أن يقطع شوطًا كبيرًا في النهوض بالمؤسسة الأزهرية، وجعله يقوم بدوره بشكل متكامل، فالإمام الأكبر ومؤسسته يعملان من أجل ثلاثة أهداف: الأول الحفاظ على الدين والثاني الحفاظ على الدولة المصرية والثالث الحفاظ على الوحدة المصرية، حسب قوله.
استهداف شيخ الأزهر
شن الصحفي المقرب من النظام محمد الباز، مقدم برنامج “90 دقيقة” الذي يذاع على شاشة المحور، هجوما شديدًا على شيخ الأزهر، تعليًقا على الخلاف الدائر بشأن القانون، موجهًا حديثه له قائلاً: “نطلب منك يا فضيلة الإمام أن تكون إضافة للوطن وليس خصمًا له، يا إمام مواقفك السابقة تقول إنك تفتعل معارك مع الدولة ليست موجودة على الأرض، توضح هذه المعارك أن الدولة بمؤسساتها وبرئيسها يحاربون الإسلام في مصر وأنت من تقف حارسًا للذود عنه، وأنت تعلم أن هذا ليس صحيحًا”.
وأضاف “الإرهابيون في الخارج يعايروننا ببيانك الذي أصدرته عقب فض اعتصام رابعة، أنت مطالب الآن للخروج علينا ببيان تؤكد فيه أن لا خلاف بين مؤسسة الأزهر والدولة المصرية، كما تنفي ما يتردد عن محاولات الدولة لإقصاء الأزهر عن إبداء رأيه”، مختتمًا حديثه: “يمكن أن تعيش مصر دون الأزهر ولكن لا أزهر دون هذه الأمة”.
وفي السياق ذاته أدان النائب محمد أبو حامد، تأخر الأزهر في الرد على المجلس بشأن القانون قائلًا: “مستغرب جدًا موقف الأزهر وفضيلة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب من قانون الأحوال الشخصية، لأن السوابق البرلمانية تتمثل في استطلاع الأزهر فيما يخص الأمور الدينية فقط، لكن الأزهر تجاهل القوانين المقدمة من البرلمان، وقام بإعداد قانون آخر للأحوال الشخصية”.
وأضاف أن الطيب تحدث بأن هناك محاولات لإقصاء الأزهر، وبأنه لن يترك قانون الأحوال الشخصية إلا للعلماء، معقبًا: “فضيلة الإمام بيتكلم عن كلام مش عارف شافه فين”، متهمًا شيخ الأزهر بأنه “يفتعل معارك غير موجودة في الكثير من الأمور”.
إنذار على يد محضر
الحملة ضد الطيب لم تتوقف عند حاجز الانتقادات الإعلامية فحسب، بل وصلت إلى ساحات القضاء، حيث تقدم المحامي كريم الخطيب، بإنذار على يد مُحضر لشيخ الأزهر، بصفته وشخصه بسبب ملف مشروع قانون الأحوال الشخصية المُعطل النظر فيه أمام مجلس النواب.
المحامي في دعواه أفاد أن المادة 101 من الدستور تنص على أن مجلس النواب هو سلطة التشريع، والمادة 122 من الدستور التي تحدد من يكون لهم حق اقتراح القوانين سواء كان رئيس الجمهورية أم مجلس الوزراء أم كل عضو من أعضاء مجلس النواب، مشيرًا إلى إخلال الازهر بتلك المواد.
يبدو أن الصراع بين الأزهر والدولة لن ينتهي قريبًا إلا بالإطاحة بشيخ الأزهر إما عن طريق دفعه لتقديم استقالته وتعيين آخر موالٍ بصورة كاملة للنظام أو سحب صلاحيات المؤسسة الدينية الأكبر في مصر لحساب مؤسسات أخرى
وأضاف أن البرلمان أرسل مشروع القانون للمشيخة منذ عشرة أشهر لإبداء الرأي من الناحية الشرعية فيه، إلا أن شيخ الأزهر لم يقم بالرد إطلاقًا عليه، بل وخرج وأعلن إعداد مشروع لقانون الأسرة في عدوان صريح على الدستور والأنظمة التشريعية المصرية، على حد قوله.
وطالب المحامي بسحب مشروع القانون المزمع تقديمه من شيخ الأزهر الشريف، كونه ليس من الجهات المنوط بها تقديم مشاريع قوانين وفقًا للمادة 122 من الدستور، محذرًا الإمام الأكبر باتخاذ كل الإجراءات القانونية، مهيبًا به بسرعة إيداع تقريره بالرأي في مشروعي قانون الأحوال الشخصية (الأسرة) الذين أحيلا إليه ، خلال 15 يومًا من تسلمه الإنذار.
مزيد من التوتر
“فلقد وضح جليًا من الاجتماع أن مصر الآن أمام أمرين أحلاهما مر، وأشد الأمرين مرارةً هو صدام الشعب المصري وسيلان دمه الزكيّ على التراب، لذلك، وعملاً بقانون الشرع الإسلامي بأن ارتكاب أخف الضررين واجب شرعي، وخروجًا من هذا المأزق السياسي الذي وقع فيه شعب مصر بين مؤيد للنظام ومعارض لاستمراره، وكلٌ متمسك برأيه لا يتزحزح عنه، لذلك كله، أيدت الرأي الذي انتهى إليه المجتمعون وهو إجراء انتخابات رئاسية مبكرة”، كانت هذه الكلمة التي ألقاها شيخ الأزهر في 3 يوليو 2013 على هامش بيان عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي هو نقطة البداية في توتر العلاقة بين المؤسسة الدينية والدولة.
ورغم تأييد الطيب لما قام به السيسي حينها فإن الأيام التالية لما حدث أثارت استياء القائمين على السلطة الجديدة من شيخ الأزهر الذي لم يكن على وفاق كامل مع مساعيهم وصلت إلى تفضيله خيار العزلة أكثر من مرة هربًا من حرمة الدماء التي أريقت في أكثر من مجزرة.
ومع بداية الولاية الأولى للسيسي دخلت العلاقة بين مشيخة الأزهر ومؤسسة الرئاسة نفقًا مظلمًا جديدًا بسبب تباين وجهات النظر بين الطيب والرئيس، حيث وجه الأخير العديد من اللوم والانتقاد لشيخ الأزهر، ما تسبب في إحراجه بصورة كبيرة، وأحدث شرخًا في العلاقة بينه وبين النظام الحاليّ تجسد في عدد من المواقف.
البداية كانت مع ملف تجديد الخطاب الديني، حيث عمد السيسي في أكثر من مناسبة إلى تحميل المناهج الدراسية في الأزهر مسؤولية تخريج أجيال من المتطرفين، وهو ما عزفت عليه آلة الإعلام الداعمة للنظام بصورة كبيرة، تجاوزت حد انتقاد المناهج إلى تشويه صورة الأزهر كمؤسسة دينية عريقة.
ثم جاءت الخطبة الموحدة التي دعا لها وزير الأوقاف وأيدتها مؤسسة الرئاسة لتزيد النار اشتعالاً بين الإمام والرئيس، حيث اعترض شيخ الأزهر على هذا المقترح منوهًا أنه يقضي على مسألة الإبداع في الخطابة، فضلاً عن السلبيات الفقهية وأوجه القصور الدعوية المترتبة على توحيد الخطبة، وهو ما اعتبره مقربون من قصر الاتحادية بأنه معارضة أزهرية للسيسي ونظامه.
بعدها طفت على السطح مسألة الطلاق الشفوي حيث طالب السيسي خلال كلمته في احتفالية عيد الشرطة العام الماضي بضرورة إصدار قانون يمنع الطلاق إلا عند الوقوف أمام المأذون لإعطاء الفرصة للزوجين لمراجعة الأمر مرة أخرى، داعيًا شيخ الأزهر، للبحث عن حل فقهي لتقليل حالات الطلاق المرتفعة في مصر التي تعدت 40%، وهو ما رفضته المشيخة وهيئة كبار العلماء.
وفي المجمل يبدو أن الصراع بين الأزهر والدولة لن ينتهي قريبًا إلا بالإطاحة بشيخ الازهر إما عن طريق دفعه لتقديم استقالته وتعيين آخر موالي بصورة كاملة للنظام أو سحب صلاحيات المؤسسة الدينية الأكبر في مصر لحساب مؤسسات أخرى في محاولة لتهميش دورها وهو ما تعزف عليه الآلة الإعلامية في الآونة الأخيرة.