ترجمة وتحرير: نون بوست
هناك سبب بسيط للاهتمام المتجدد بخطط وقف إطلاق النار في غزة وجنوب لبنان، والمجازر الليلية ضد اللاجئين الفلسطينيين التي ترافق كل مسعى للسلام.
وهذا السبب لا علاقة له بحملة الاغتيالات التي تشنها إسرائيل على قادة حماس وحزب الله أو محاولتها الأخيرة للحد من إنتاج وقود الصواريخ الصلب في إيران.
هناك مخزون كبير من الخداع والدعاية المضللة يحيط بالتصور الحالي في إسرائيل وواشنطن بأن كل جماعات المقاومة “متضررة ومحطمة” وأن أجنحة إيران مقصوصة.
ما لا تستطيع القيادة العليا للجيش الإسرائيلي غض الطرف عنه هو أن شهر تشرين الأول/ أكتوبر أصبح الشهر الأكثر دموية لقواتها منذ كانون الأول/ ديسمبر من السنة الماضية، وأن قواتها تتكبد خسائر منتظمة في شمال غزة وجنوب لبنان.
وفقًا لآخر إحصائية، وهذه الأرقام تتغير كل يوم، قُتل في شهر واحد 62 جنديًا في المعارك، وقُتل 15 مدنيًا وشرطيان في ضربات صاروخية وهجمات داخل إسرائيل.
يتعامل قسم إعادة التأهيل في الجيش الإسرائيلي حتى الآن مع أكثر من 12,000 جندي مصاب، وهي حصيلة ترتفع بمعدل حوالي 1,000 إصابة شهريًا، ويعتقد الكثيرون أن هذا الرقم أقل من العدد الحقيقي للإصابات التي تم علاجها في المستشفيات.
ومن ضمن هؤلاء المشككين زعيم المعارضة يائير لبيد، الذي قال للقناة 12 الإسرائيلية: “هناك حدود لمدى قبولنا للحقائق المزيفة”.
ووفقًا لبيان صدر مؤخرًا عن حزب الله، قتلت حركة المقاومة اللبنانية منذ الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 90 جنديًا وضابطًا إسرائيليًا وجرحت 750 ودمرت 38 دبابة ميركافا.
انسحابات متكررة
تواجه الحملة التي يشنها الجيش الإسرائيلي لتطهير شمال غزة وجنوب لبنان من المقاتلين والمدنيين مقاومة شرسة تسفر عن بعض أعنف المعارك في الحرب رغم مرور سنة على انطلاقها.
الآن، لم تعد فكرة أن حماس وحزب الله فقدا قدرتهما على القتال بعد اغتيال قادتهما السياسيين والعسكريين، تكتسب أي مصداقية.
كما لم تحقق “خطة الجنرالات” أهدافها في شمال قطاع غزة؛ حيث لم تنجح إسرائيل في تطهير مخيم جباليا للاجئين من مقاتلي حماس، ولم تنجع في إجبار سكان جباليا وبيت حانون على الاستسلام والنزوح جنوبًا من خلال التجويع.
ووفقًا لأرقام الجيش الإسرائيلي، فقد مرّ ما بين 12 إلى 29 شخصًا عبر ممر نتساريم على مدار ثلاثة أيام في الأسبوع الماضي، وقد كانت حركة السكان في شمال غزة باتجاه الغرب، وليس باتجاه الجنوب مثلما كان يريد الجيش الإسرائيلي.
ووفقًا لأحدث التقديرات الصادرة عن الأمم المتحدة وشركائها، فمنذ أن بدأت إسرائيل هجومها الأخير في 5 تشرين الأول/ أكتوبر، نزح أكثر من 71,000 شخص من محافظة شمال غزة إلى مدينة غزة، وبقي حوالي 100,000 شخص في الشمال.
أما في جنوب لبنان، فوضع الجيش الإسرائيلي أسوأ من ذلك؛ حيث لم يتمكن بعد مرور ثلاثة أسابيع على الاجتياح من الاحتفاظ بالأرض على بعد من كيلومترين من الحدود، واضطر إلى القيام بانسحابات متكررة بعد أن أصبحت الخسائر البشرية كبيرة جدًا، وهذا أبعد ما يكون عن هدفهم المعلن بدفع حزب الله إلى نهر الليطاني.
يتراجع مقاتلو حزب الله لإيقاع القوات الإسرائيلية في كمائن، ويدخلون الأنفاق ثم يهاجمون من الخلف.
وقال مصدر مقرب من حزب الله لموقع “ميدل إيست آي” إن اغتيال قيادتهم العليا لم يكن له تأثير يذكر على قدرتهم القتالية على الأرض، وأضاف أن الوحدات تحافظ على التواصل والتنسيق العملياتي بشكل مستقل، دون الحاجة إلى أوامر مباشرة من القيادة المركزية.
ورغم أن كلا الطرفين في هذا الصراع يحاولان تضخيم المكاسب والتكتم على الخسائر، إلا أنني أميل إلى تصديق رواية حزب الله.
عرض إسرائيلي جديد
بالإضافة إلى الخسائر في صفوف الجيش، قُتل 15 مدنيًا وشرطيان في إسرائيل هذا الشهر. ولا يبدي حزب الله والحوثيون أي مؤشر للتراجع عن إرسال مئات الآلاف من الإسرائيليين إلى الملاجئ بصواريخهم، كما أن حزب الله أيضًا يصدر أوامر للإسرائيليين بالإجلاء.
ونقلت صحيفة “الأخبار” اللبنانية المقربة من حزب الله، عن أحد مصادرها قوله إن “إسرائيل ليست في موقع قوة يسمح لها بفرض شروطها طالما أن المعركة مستمرة ووضع المقاومة على الأرض جيد جدًا”.
وهو ما يقودنا إلى النقطة المحورية: كيف يعتقد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه -بعد مرور عام- في موقع يسمح له بإملاء شروطه على الفلسطينيين واللبنانيين؟
أسفر اجتماع في قطر بين الوسطاء عن عرض جديد تم نقله إلى حماس، وبما أن جميع مصادر هذا العرض هي مصادر إسرائيلية، فيمكننا أن نفترض أن العرض الأخير كان إسرائيليًا.
ينص العرض على أن تتيح إسرائيل في المرحلة الأولى وقفًا لإطلاق النار لمدة 30 يومًا مع إطلاق سراح عدد من الأسرى مقابل ما بين 11 و14 رهينة، بمن فيهم النساء وكبار السن، بينما تستمر المفاوضات حول المرحلة الثانية، ولكن لن يكون هناك انسحاب للقوات الإسرائيلية من ممر نتساريم أو رفح.
يقترن ذلك أو “يتعزز” بوقف إطلاق النار في لبنان بإشراف أمريكي، والمصدر الرئيسي لهذه التسريبات هو وسائل الإعلام الإسرائيلية، والقناة 12 على وجه التحديد.
“الاتفاق” المعروض حاليا على حزب الله هو وقف إطلاق نار لمدة 60 يومًا يتم خلالها التفاوض على الاتفاق النهائي.
لكن خلال هذه الفترة، تحتفظ إسرائيل بـ”حق الرد على أي خرق أو هجوم من أي مكان”، والاتفاق النهائي الذي يدور في ذهن إسرائيل هو سحب حزب الله قواته إلى نهر الليطاني، على أن يتولى الجيش اللبناني السيطرة على المنطقة الحدودية.
لم يتردد حزب الله على الإطلاق في رفض هذا “العرض” حتى قبل أن يقدمه المبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين.
وترى وسائل الإعلام التابعة لحزب الله بأن إسرائيل رفعت سقف شروطها إلى الحد الأقصى بعد أن استعاد حزب الله زمام المبادرة العسكرية على الأرض، أو أنها لا تعتزم وقف الحرب، ولذلك سربت تفاصيل الخطة التي كان هوكشتاين يعمل على إعدادها بهدف إجهاضها.
وقد أخبرتني مصادر خاصة أن حماس تتخذ الموقف ذاته من “العرض” الإسرائيلي، وهو ما يُظهر أن الحركتين متمسكتان بمواقفهما التفاوضية مع أو من دون القيادات التي تمت تصفيتها، وهي أنه لن يكون هناك وقف لإطلاق النار وتبادل للأسرى حتى تسحب إسرائيل قواتها من غزة، كما أن حزب الله لن يوقف القتال، ولا يفكر في الانسحاب من المنطقة الحدودية، إلا بعد أن تبدأ الهدنة في غزة.
تعتقد المنظمتان أن نتنياهو غير جاد في وقف الحرب.
الوهم الكبير
يقول عاموس هارئيل في صحيفة هآرتس إن هناك إجماعًا في المؤسسة الدفاعية الإسرائيلية الآن على أن الحرب في لبنان وغزة قد وصلت إلى طريق مسدود، وأنه إذا استمرت الحرب فلن يستطيعوا تحقيق أكثر مما تم إنجازه بالفعل.
ويعتقدون أيضًا أن البقاء لفترة طويلة في أي من المنطقتين يزيد من خطر وقوع خسائر كبيرة في الأرواح.
وخلصوا إلى أنه ينبغي التوصل إلى اتفاقات لوقف إطلاق النار والإفراج عن جميع الرهائن المحتجزين في غزة.
هذا بعيد كل البعد عن أي من أهداف الحرب الإسرائيلية، والتي كانت تتمثل في تدمير حماس كسلطة عسكرية أو سياسية، وإنشاء منطقة منزوعة السلاح في شمال غزة وجنوب لبنان، ونزوح الفلسطينيين إلى مصر والخارج – وهو ما أمر نتنياهو مستشاره رون ديرمر بالتخطيط له منذ كانون الأول/ ديسمبر الماضي.
ويقرّ قادة الجيش الإسرائيلي بأن إسرائيل ستضطر إلى تقديم تنازلات مؤلمة في حال التوصل إلى وقف إطلاق نار.
ورغم أنهم أكثر براغماتية من حكومة الحرب التي يقودها نتنياهو، إلا أنهم أيضًا تحت وطأة وهم كبير.
وعلى حد تعبير هارئيل، فإن “حجم الضرر الذي لحق بحزب الله وحماس، ومؤخراً إيران أيضاً، يخلق فرصة معقولة للتوصل إلى تسوية”. لكن العكس هو الصحيح.
إن حجم الضرر في غزة ولبنان قد أقنع حماس وحزب الله بأن شعبيهما قد عانيا كثيراً منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وأنه لا مجال للعودة إلى الوراء.
وهذا لا يعني أنهما غير مستعدين للتفاوض على وقف إطلاق النار، ولكنه يعني أنهما ليسا في حالة تسمح لهما بتقديم تنازلات كبيرة.
شواهد من التاريخ
هناك نوعان من الشواهد التاريخية التي ينبغي أن تبصّر القادة الإسرائيليين المتفائلين، وتأتي الأولى من التاريخ الفلسطيني.
فمن بين المجازر العديدة التي عانى منها الفلسطينيون على أيدي الجماعات الإرهابية الإسرائيلية – بما فيها جيشها الحالي – هنا ثلاث مجازر كبرى.
قبل ستة وسبعين عاما، وقعت مذبحة في قرية الدوايمة قُتل فيها المئات، وفقًا للمؤرخ بيني موريس.
وقبل ست وثمانين عاما، قُتل 47 فلسطينيًا عادوا من العمل في الحقول في كفر قاسم بالرصاص بزعم خرقهم حظر التجول؛ وهذا الأسبوع، قُتل ما لا يقل عن 93 فلسطينيًا في منازلهم في بيت لاهيا.
يمكن القول إن تلك المعاناة تغذي رغبة الفلسطينيين في إقامة دولتهم، ولم يوقف أي من تلك المجازر نضالهم من أجل تحرير أرضهم.
هناك أيضا تجربة الجيش الفرنسي في الجزائر، فقد بدأت الثورة في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 1954، أي قبل 70 سنة من الآن، في يوم الجمعة الذي يصادف عيد جميع القديسين أو عيد “توسان”، وعُرفت الأحداث باسم “توسان روج”.
وبعد سنة من ذلك التاريخ، شنّ الثوار هجومًا أسفر عن مقتل 120 جنديًا فرنسيًا.
ردّ الفرنسيون بحملة وحشية أودت بحياة 12,000 جزائري، واستفز ذلك الرأي العام في فرنسا والعالم، وأدى بعد سنوات إلى انسحاب فرنسي كامل، ولكن بعد أن قتلت القوات الفرنسية مئات الآلاف من الجزائريين.
يرتكب قادة الجيش الإسرائيلي الخطأ ذاته الذي ارتكبه أسلافهم الفرنسيون خلال احتلال الجزائر، إذ يعتقدون أن الانتقام المدمر يمكن أن يهزم المقاومة.
لا عودة إلى 6 تشرين الأول/ أكتوبر
بينما يحتفي قادة الجيش الإسرائيلي بـ”نجاحهم المذهل” في الاغتيالات والتفجيرات القاتلة، ينبغي عليهم أن يسألوا أنفسهم ما إذا كانوا يشعرون اليوم بالأمان الذي شعروا به في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، اليوم الذي سبق هجوم حماس، أم أنهم يشعرون بعدم الأمان الذي شعروا به في 8 تشرين الأول/ أكتوبر؟
لم يتمكنوا من توفير الأمن والردع، وكل ما حققوه هو سلسلة من جرائم الحرب التي سترتد عواقبها عليهم لفترة طويلة بعد انتهاء هذه الحرب.
ولكن مؤسسة الدفاع الإسرائيلية الآن محقة في استنتاجها أنه كلما طالت الحرب، كلما ازدادت الأمور سوءًا، لكن هناك اختلالا في التوازن هنا..
فالتفوق العسكري الإسرائيلي هائل، وامتداده إقليمي، وبإمكانها قصف المنازل في جميع أنحاء العالم العربي وفي إيران متى شاءت.
لكن قدرة إسرائيل على تحمل تبعات ما تقوم به، وتحمّل الألم من أجله، أقل بكثير من قدرة الفلسطينيين على النهوض من المجزرة تلو الأخرى، والصمود جيلاً بعد جيل، وعدم الاستسلام.
إن نقطة الضعف الأساسية في مشروع فرض دولة يهودية واحدة من النهر إلى البحر تكمن في الجغرافيا وكذلك في الديموغرافيا، فهذه الخطة لا تُنفذ في منطقة نائية من العالم.
إنها تُطبّق في قلب العالم الإسلامي والعربي، وبالتالي لا يمكن أن تنجح، ولا يمكن إعادة بناء السلام عن طريق تغيير شكل الزنازين المفتوحة التي يُسجن فيها الفلسطينيون، خاصة أنهم يشكلون غالبية السكان.
قد يستغرق الأمر عدة أشهر أخرى من الحرب حتى ندرك أنه لا عودة إلى 6 تشرين الأول/ أكتوبر.
المصدر: ميدل إيست آي