في الفيلم الإسباني التوعوي “توك توك” الذي يتحدث على ألسنة أبطاله المرضى المصابين بالوسواس القهري نجده قدم لنا عدة نماذج من أصحاب هذا المرض الذي لا رادع له، يمكننا أن نربط الفيلم بالواقع لنتعرف أكثر على المرض ونرى من يتحدث باسم هؤلاء المرضى الذين يستشعرون الحرج دائمًا في الحديث عن أي موقف.
في حياتنا اليومية ربما نقوم بعد سلالم المنزل ونحن نصعد أو نهبط، ربما نقوم بطرقعة أصابعنا بشكل مستمر، ويمكن أن نفضل السير على بلاط المنزل ذي اللون الواحد ونتجنب لمس بلاط اللون الآخر، ربما يزعجنا رؤية الأبواب مغلقة أو رؤية السجادة غير متساوية أو مقلوب منها جزء ما، يحدُث أن نشعر دائمًا بعدم التأكد من فعلنا لشيء ما ثم نعود لنتأكد بعدها ونجد أننا قد فعلناه، من الجائز أن نتحدث عن قضم الأظافر أو غيرها من الأمور التي نشعر في قرارة أنفسنا أنها بغير إرادتنا أو لدينا رغبة ملحة في فعلها، ذلك هو الوسواس القهري، المرض العصري المزمن المخيف الذي يرتاب منه الكثيرون ولا نعرف له سببًا واضحًا حتى الآن.
الوسواس القهري هو ما يدفعنا لفعل أشياء بعينها وتكرارها بشكل زائد عن الحد، ولا يوجد سبب واضح لهذا المرض ولا حتى هناك سبب في اختلاف نوع الوسواس من شخص لآخر
مرض الوسواس القهري كما يعرفه علم النفس هو مشكلة نفسية مزمنة يشعر فيها المريض بالرغبة في فعل شيء ما وتكراره عدة مرات، وعدم القدرة على السيطرة على هذه الأفعال، أي أن الوسواس القهري هو ما يدفعنا لفعل أشياء بعينها وتكرارها بشكل زائد عن الحد، ولا يوجد سبب واضح لهذا المرض ولا حتى هناك سبب في اختلاف نوع الوسواس من شخص لآخر.
كان أبطال الفيلم عبارة عن أشخاص مصابين بهوس الوسواس القهري والتقوا جميعًا في زيارة لطبيبهم النفسي الذي انتظروه منذ شهور طويلة، ويتأخر الطبيب وينظر الجميع لبعضهم البعض نظرة استغراب على هذه الأمراض التي يعانيها كل منهم، حتى قرروا أن يعقدوا محاولة علاج جماعية إلى أن يأتي الطبيب، وفي هذه الجلسة، التي هي قلب الموضوع كله، نجد المرضى يتحدثون عن المرض ومشكلاتهم الاجتماعية ومنهم من يرفض أن يعترف بمرضه من الأساس.
فمنهم من كانت تشعر بأنها تنسى كل شيء وتحتاج إلى التأكد من ذلك، الشيء الذي يضيع لها الكثير من الوقت ويؤخر حياتها الاجتماعية، بينما كانت هناك أخرى ثلاثينية مصابة بوسواس النظافة بطريقة تُربك المشاهد نفسه، فرغم أنني أعرف أن ما أمامي هو مجرد تمثيل، فإنني أُرهقت وأشفقت على أصحاب هذا المرض الحقيقيين الذين لا يعرفون كيف يتحكمون في هذا المرض ولا في معاملة الناس من حولهم الذين ينظرون إليهم على أنهم مصابون بالجنون.
رغم معاناة كل أبطال الفيلم واختلاف طبيعتهم الوسواسية نجد أن المرضى يعانون من شيء آخر بجانب معاناتهم مع المرض فهم يعانون مع المجتمع ورؤية الناس لهم
في الفيلم كان هناك سائق سيارة أجرة مهووس بالأرقام ولديه قدرة رياضية فذة فهو يحسب كل ما يقابله، ويعد كل شيء تقريبًا حتى أعقد العمليات الحسابية يقوم بها في ثوانٍ معدودة، رغم أن هذه قدرة فذة فإنه لا يتحكم في هذه الحسابات، فهو يحسب رغمًا عنه كل شيء وفي كل وقت، كما كان هناك آخر يقول بعض الألفاظ النابية غصبًا عنه وبحركة لا إرادية، وتخيل إن وجدت سيدة شخصًا كهذا في حياتها اليومية ستشتمه أو تُصاب بالذعر منه ولن تتعامل معه مرة أخرى، الأهم من ذلك كيف يتعامل هؤلاء الأشخاص في الحياة؟ ماذا يعملون؟ وكيف يتواصلون مع غيرهم؟ ألا يعد هذا مأساة حقيقية!
ورغم معاناة كل أبطال الفيلم واختلاف طبيعتهم الوسواسية نجد أن المرضى يعانون من شيء آخر بجانب معاناتهم مع المرض، فهم يعانون مع المجتمع ورؤية الناس لهم وهو ما يجسد طبيعة هؤلاء المرضى الحقيقيين من خلال نظرة الناس لهم على أنهم مجانين أو غير أسوياء، نظرات الناس المتعجبة لأصحاب المرض أو حتى الحذر في التعامل معهم يعد من أقسى الأشياء التي يقابلونها، فهم غير قادرين على التحكم في هذا الشيء ولا يعرفون علاجًا رادعًا لهذا المرض خاصة إن كان المريض من أبناء البيئات الفقيرة التي ليس لديها رفاهية الذهاب إلى طبيب نفسي.
ليست المشكلة في الإصابة بالمرض وحسب بل جسد لنا أبطال الفيلم مشكلة ثانية يمكن أن يقابلها أي مريض وسواس وهي أن يحمل المريض وسواسين، فكنا نجد أن سائق سيارة الأجرة المريض بوسواس الأرقام لديه مشكلة أخرى في الاحتفاظ المبالغ فيه بالأشياء القديمة مما أثرعلى حياته الأسرية وهدد استقرارها، كما نجد السيدة المصابة بوسواس نسيان الأشياء كانت ترسم علامة الصليب دائمًا دون إرادتها كذلك، فهذا عناء فوق العناء وبسبب مجهول لا أحد يعرفه، وعدة محاولات علاجية لا تفلح في الغالب، والحديث عن إرادة الإنسان وقدرته على المقاومة في هذه الحالات أعتبره محض هراء لأن هذا أكبر من أي قدرة على المقاومة إلا إن كانت الحالة بدائية وبسيطة يمكن السيطرة عليها.
محاولة العلاج في الفيلم جاءت عن طريق الاتفاق على ترتيب أدوار لكل المصابين لمقاومة وساوسهم
من أنواع الوساوس الأخرى التي كانت موجودة في الفيلم هي الفتاة الشابة التي تكرر الكلمات والجمل مرتين دون سبب واضح إلا اعتقادها بخلل في دماغها، وكان هناك البطل الشاب الذي لا يستطيع السير بشكل مستقيم إطلاقًا ولديه عقدة تنظيم الأشياء كذلك وقد أدى كل هذا إلى فشل علاقاته مع النساء فكانت أطول علاقة له مدتها ثلاثة أيام فقط!
محاولة العلاج في الفيلم جاءت عن طريق الاتفاق على ترتيب أدوار لكل المصابين لمقاومة وساوسهم، ورغم أنه لم ينجح أحد منهم، بل أصيبت حالة منهم بنوبة هيستيرية وكادت أن تموت، فإنهم تمكنوا من المعالجة بعض الشيء، وبجانب ذلك تمكن أحدهم من ملاحظة أنهم جميعًا في أثناء محاولة إنقاذ السيدة من انهيارها نسوا وسواسهم وعلى هذا النهج سارت طريقتهم في محاولة العلاج، وشملت نهاية الفيلم.
تريلر فيلم “توك توك”
إن تحدثت عن الجانب الدرامي التمثيلي في الفيلم فلن أحرقه عليكم لأن نهايته كانت بديعة بشكل من الأشكال، أما عن الوسواس القهري وما يخصه في واقعنا المُعاش يلجأ الطبيب في الغالب إلى محاولات علاج سلوكي بالجلسات والنصائح والتركيز على الجانب المعنوي وإن لم يُفلح يمكن استخدام العلاج الكيميائي بمضادات الاكتئاب وغيرها من الأدوية التي يخصصها الطبيب بعلمه، وفي الحالات القصوى يضطر المريض إلى أن يخضع إلى أحد عمليات إزالة فص في المخ أو جزء معين في المخ مسؤول عن النشاط الزائد الذي يؤدي لهذه الحركات.
ببساطة لا يمكننا أن نتساءل عن سبب ذلك لأنك عندما تطرقع أصابع يدك بشكل متكرر لا تعرف ما الذي يدفعك لذلك ولا تدري ما الذي يجعلك تقوم بتكرار أي فعل بشكل زائد، وكذلك هم مرضى الوسواس القهري الذين يحملون أضعافًا من المعاناة والألم الذي يستهلك جل أيامهم وحياتهم فلا تعذبوهم بأسئلتكم المحرجة.