ربما يثير الموقف العراقي الرافض للعقوبات الاقتصادية على إيران، الكثير من التساؤلات والاستفهامات، فضلاً عن الاعتراضات والتحفظات من أطراف داخلية وخارجية، لأسباب قد تبدو في بعض الأحيان غير واضحة أو غير مقنعة بما فيه الكفاية.
ومثل تلك التساؤلات والاستفهامات والتحفظات والاعتراضات، قد لا تختلف عما يثار باستمرار بشأن هذه القضية أو تلك، كما حصل بخصوص الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف للعراق، وكما حصل مع جانب مما أسفرت عنه زيارة الرئيس العراقي لدولة قطر، لا سيما الجانب المتعلق بالتعاطي الإيجابي من الدوحة مع موضوع مساعدة العراق في مشاريع إعادة بناء وإعمار المدن والمناطق والمحررة من تنظيم داعش الإرهابي، وكما حصل مع الزيارة الخاطفة والسريعة والمفاجئة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب للعراق – وتحديدًا إلى الجنود الأمريكيين المرابطين في قاعدة عين الأسد غرب الأنبار – عشية حلول العام الميلادي الجديد.
طبيعي أن يعد العراق من بين أكثر البلدان المعنية بالعقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة ضد إيران، لأسباب وعوامل مختلفة، لعل من بينها، التجاور الجغرافي من خلال حدود برية تمتد لما يقارب ألف وخمسمئة كيلومتر
ولعل موضوع العلاقات العراقية الإيرانية، من بين أكثر الموضوعات جدلية في المشهد العراقي منذ عام 2003 وحتى هذه اللحظة، ولا شك أن هذه الجدلية ستبقى قائمة ما دامت المصالح والملفات والمخاطر والتحديات متشابكة ومتداخلة ومتواصلة، ناهيك عن التراكمات التاريخية المتشعبة والمعقدة بين بغداد وطهران.
وطبيعي أن يعد العراق من بين أكثر البلدان المعنية بالعقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة ضد إيران، لأسباب وعوامل مختلفة لعل من بينها التجاور الجغرافي من خلال حدود برية تمتد لما يقارب ألف وخمسمئة كيلومتر، إلى جانب القواسم المشتركة والمصالح السياسية والأمنية والاقتصادية والدينية والثقافية.
وليس غريبًا أن يتبنى العراق موقفًا معارضًا بشدة لتلك العقوبات انطلاقًا من زاويتين: الأولى، تتمثل بانعكاساتها السلبية على مساحات عدة من الوضع الاقتصادي العراقي، والزاوية الأخرى، تتمثل في رفض السياسات الأحادية الجانب المخالفة للقوانين الدولية والمحكومة بحسابات ومصالح سياسية خاصة، التي يمكن أن تلحق الكثير من الضرر والأذى بملايين الناس.
أكد رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي الذي تربطه علاقات طيبة مع طهران، وبنفس المستوى علاقات طيبة مع عواصم غربية وعربية وإقليمية عديدة،أن العراق ليس جزءًا من منظومة العقوبات الأمريكية ضد إيران
هذا من جانب، ومن جانب آخر، هناك رؤية عراقية يتبناها عدد لا يستهان به من ساسة وأصحاب رأي، مفادها أن العقوبات الأمريكية على طهران سوف تؤول إلى الفشل، لأن تجربة 40 عامًا من الحصار والعقوبات والضغوط والمؤامرات الأمريكية والغربية، لم تفض إلى ما كان مرجو منها، والدليل على ذلك أن إيران تتمتع اليوم بثقل سياسي كبير في محيطها الإقليمي والمجتمع الدولي، وتمتلك من الإمكانات والموارد والقدرات المختلفة ما يجعلها مؤهلة لمقاومة وإفشال الكثير من المؤامرات واكتساب المزيد من عناصر القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية.
يشترك مع العراق في هذه الرؤية دول أخرى في المحيط الإقليمي وعموم الفضاء الدولي مثل الاتحاد الأوروبي – أو جزء منه – وروسيا والصين والهند واليابان وتركيا ودول عربية خليجية، معززة بحسابات مصالح واسعة النطاق مع طهران، لا يمكن بأي حال من الأحوال القفز عليها وتجاهلها، في ذات الوقت الذي لا يمكن فيه الركون للإملاءات والمساومات والمغريات الأمريكية مهما كانت شدتها وخطورتها وفائدتها.
ومنذ وقت مبكر، أكد رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي الذي تربطه علاقات طيبة مع طهران، وبنفس المستوى علاقات طيبة مع عواصم غربية وعربية وإقليمية عديدة، أن العراق مثل الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين واليابان، ليس جزءًا من منظومة العقوبات الأمريكية ضد إيران، وأنه يسعى للحفاظ على مصالحه الوطنية، علمًا أن رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، كان قد صرح قبل عدة شهور، أنه لا يتعاطف مع العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران.
من زاوية قانونية، لم تستند العقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد إيران على أساس قانوني دولي
فضلاً عن ذلك فإن هناك ساسة عراقيين يرون أن سياسات ترامب زادت من عزلة الولايات المتحدة الأمريكية، وأوقعتها في الخلاف الداخلي لأول مرة منذ عقود، وهي الآن طرف يحاول بتكبر أن يفرض عقوبات على شركائه، وهذا قد ينجح للوهلة الأولى، ولكنه يمثل خطأ فادحًا على صعيد المستقبل، ولعل طرح الاستثناءات هو مخرج أولي من إخراجات الرفض الدولي للعقوبات، ستعقبه استثناءات أخرى خلف الكواليس.
والأكثر من ذلك، أن رئيس الوزراء العراقي الأسبق ورئيس ائتلاف الوطنية إياد علاوي الذي لم يكن في أي وقت من الأوقات قريبًا من صناع القرار الإيراني ولا مؤيدًا لمجمل سياسات طهران في المنطقة، أكد أن العراق سيتأثر بشكل كبير بالعقوبات الأمريكية على إيران، وأنه ينبغي التعامل مع هذا الملف بهدوء والتفاهم مع الجميع، ودعا علاوي في رسالة بعث بها قبل بضعة أسابيع إلى الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إلى مراعاة خصوصية العلاقة بين بغداد وطهران فيما يتعلق بالعقوبات الأمريكية على إيران.
ومن زاوية اقتصادية بحتة، يوضح خبراء ومتخصصون في الشؤون الاقتصادية، أن استيرادات السوق العراقية من إيران وصلت في الأعوام الماضية إلى 13 مليار دولار، ويؤكدون أن العقوبات الأمريكية على إيران ستؤدي إلى شح البضائع الإيرانية في العراق، فضلاً عن ذلك فإن استيرادات الطاقة من إيران لسد احتياجات العراق من الكهرباء والغاز، يمكن أن تتأثر وترتبك جراء العقوبات.
ترامب أرادها وسيلة ضغط وابتزاز لإرغام طهران على الرضوخ للإملاءات الأمريكية ليس إلا
ومن زاوية قانونية، لم تستند العقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد إيران، على أساس قانوني دولي، فهي لم تصدر من مجلس الأمن الدولي – رغم الهيمنة الأمريكية عليه نسبيًا – ولا من أي جهة تابعة لمنظمة الأمم المتحدة، ناهيك عن أنه لم تكن هناك مبررات ودواع مقبولة ومنطقية لتلك العقوبات، تنسجم وتتوافق مع ما جاء في ميثاق الأمم المتحدة، بخصوص تهديد الأمن والسلم العالميين وكيفية التعاطي مع من يتسبب بذلك.
فالعقوبات صدرت من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في ظل وجود معارضة وانتقادات غير قليلة له، حتى من داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وحينما نبحث عن الأسباب والدوافع الحقيقية للعقوبات، نجد أن ترامب أرادها وسيلة ضغط وابتزاز لإرغام طهران على الرضوخ للإملاءات الأمريكية ليس إلا، إضافة إلى خلط الأوراق بعد تنصل ترامب من الاتفاق النووي المبرم عام 2015 بين إيران من جهة، والدول الستة الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وبريطانيا والصين وفرنسا وألمانيا) من جهة أخرى.
أما من زاوية إنسانية، فالبعد الإنساني يفترض أن يكون حاضرًا بقوة في أذهان العراقيين، لأنهم حينما يتخذون موقفًا ما حيال عقوبات ترامب على إيران، وما يمكن أن تتركه من آثار سلبية على ملايين المواطنين الإيرانيين، عليهم أن يستحضروا الصور والمشاهد المؤلمة جراء الحصار الاقتصادي الظالم الذي فرضته أمريكا وحلفائها على الشعب العراقي في صيف عام 1990، جراء غزو نظام صدام لدولة الكويت.
إيران تعتبر العراق واحدًا من أبرز حلفائها، بحكم ثوابت التاريخ وحقائق الجغرافيا وعناصر المصالح المتبادلة والقواسم المشتركة
وهناك مساحة واسعة في أوساط نخب سياسية وإعلامية وثقافية واجتماعية، ترى أن أي إضعاف لإيران، يستتبعه إضعافًا للعراق، والعكس صحيح، باعتبار أن إيران وقفت بكل ثقلها إلى جانب العراق حينما اجتاح تنظيم داعش الإرهابي عدة مناطق ومدن عراقية في صيف عام 2014، في وقت اكتفت دول عديدة بالتزام الصمت والمشاهدة، إن لم تكن قد دعمت وساندت تنظيم داعش.
ولأن إيران تعتبر العراق واحدًا من أبرز حلفائها، بحكم ثوابت التاريخ وحقائق الجغرافيا وعناصر المصالح المتبادلة والقواسم المشتركة، وتشابه التحديات والاستهدافات المتواصلة، فمن الطبيعي جدًا، أن تنتظر وتتوقع مواقف إيجابية من بغداد وهي تتعرض لعقوبات وحصار واشنطن.