يفصل بينها وبين أهرامات الجيزة (إحدى عجائب الدنيا السبع) بضعة أمتار لا أكثر، كان تسمى في القدم بالمدينة الهرمية، يعيش فيها الكهنة الذين يؤدون طقوس إحياء عقيدة الملك، وهنا كان الطريق الصاعد ومعبد الوادي لهرم الملك “خفرع”، والميناء الذي يربط النيل بالأهرامات، ومع مرور الزمن اتخذ البعض منها سكنًا فأصبحوا جيران الأهرامات وحراسها، وتحولت هذه المنطقة إلى مصدر رزق لهم.
نزلة السمان.. هذا الشريط الحدودي الملاصق للأهرامات الذي رغم ما به من عشوائية في البناء فإنك تستنشق بين شوارعه وجدران منازله البسيطة عبق التاريخ وشموخ الأجداد والفراعين، حتى صار معتقد لدى الكثيرين أنها جزء من تاريخ الفراعنة، وصل إلى أن البعض حين يزور النزلة فكأنما زار الأهرامات ذاتها ولذا تجد السائحين في تلك المنطقة مساء بعد غلق الأهرامات أبوابها عند الغروب.
شهدت هذه المنطقة الأثرية خلال اليومين الماضيين مناوشات بين الأهالي وقوات الشرطة المؤمنة لعمليات إزالة بعض المنازل بدعوى مخالفتها للقانون وتعديها على حرم المنطقة الأثرية وهو ما قوبل برفض شديد من سكانها، ما تسبب في استخدام القنابل المسيلة للدموع واعتقال العشرات من شباب المنطقة، المشهد برمته يعيد إلى الأذهان ما حدث في مثلث ماسبيرو وجزيرة الوراق خاصة مع ما يثار بشأن أصابع إماراتية خفية وراء الموضوع.. فهل باتت النزلة على أعتاب الإزالة؟
أهمية تاريخية
تعد نزلة السمان واحدة من أهم المناطق الأثرية والتاريخية، ليس في مصر وحدها بل في العالم أجمع، كونها تضم بين جنباتها كوكبة من أشهر آثار العالم، فبعيدًا عن الأهرامات الثلاث فهناك المعابد الجنائزية ومعابد الوادي والطرق الصاعدة ومقابر العمال ومقابر الزوجات التابعين للملك، حسبما أشارت الدكتورة فاطمة الزهراء الجبالي المدرس المساعد بقسم الآثار المصرية بكلية الآثار جامعة الفيوم.
الجبالي لـ”نون بوست” أشارت إلى أن تسمية هذا المكان بـ”نزلة السمان” يعود إلى روايتين: الأولى نسبة إلى طيور السمان المهاجرة إلى هذه المنطقة حيث توجد مياه فيضان النيل الذي كان يصل أعلى هضبة الجيزة وعند الانتهاء منه تصبح الأرض خصبة ومن ثم تتجمع طيور السمان، وكانت تسمى ببركة السمان قبل أن يتغير إلى النزلة، وهذه هي الرواية الأصح وفق رأي أستاذة الآثار المصرية.
قبل عشر سنوات تقريبًا وبالتحديد في 2009 طرحت حكومة رئيس الوزراء الأسبق أحمد نظيف في عهد حسني مبارك خطة لتطوير المنطقة، الخطة تستهدف في مراحلها الأولى إزالة النسبة الأكبر من العقارات وتهجير ما يقرب من 300 ألف من سكان المنطقة إلى بقاع أخرى مجاورة
أما الرواية الثانية والمشكوك في صحتها فتعود إلى شيخ مغربي يدعى أحمد السمان جاء من بلاد المغرب واستقر في هذه المنطقة بهدف التقرب إلى الله وحين توفي سمى الأهالي هذا المكان نسبة إليه وأقاموا له الموالد والمقامات والاحتفالات، غير أن الكثير من علماء التاريخ فندوا هذه الرواية.
أما عن سكان تلك المنطقة فكانوا من أوائل العمال الذين ساعدوا في بناء الأهرامات وغيرها من المعالم الأثرية الأخرى، فكان لهم الفضل في رسم خريطة هذا المكان التاريخية التي باتت واحدة من روائع ومعجزات العالم، ومن ثم باتت تلك البقعة الملاصقة للأهرمات سكنًا وموطنًا لهم ولأحفادهم بعد ذلك، هكذا اختتمت الجبالي حديثها.
مخطط الإزالة.. البداية
قبل عشر سنوات تقريبًا وبالتحديد في 2009 طرحت حكومة رئيس الوزراء الأسبق أحمد نظيف في عهد حسني مبارك خطة لتطوير المنطقة، الخطة تستهدف في مراحلها الأولى إزالة النسبة الأكبر من العقارات وتهجير ما يقرب من 300 ألف من سكان المنطقة إلى بقاع أخرى مجاورة.
المخطط كان يشتمل على ثلاث مراحل، الأولى: نقل سكان حي “سن العجوزة” (أحد أحياء النزلة) الذين يبلغ عددهم 7760 نسمة، ويعيشون على مساحة 29 فدانًا، إلى منطقة “وقف غالب” التي تبلغ مساحتها 4.9 فدان بشارع العروبة بالهرم، حيث يحصلون على 1870 وحدة سكنية و13 محلًا تجاريًا، وسيتم إنشاء 684 شقة و67 بازارًا، و4 ورش حرفية.
رغم تعاقب الحكومات منذ 2009 وحتى اليوم لم يجرؤ أي رئيس حكومة على تنفيذ هذا المخطط رغم بناء جدار عازل بين الأهرامات والنزلة
كما تشمل المرحلة الأولى كذلك نقل السكان إلى منطقة “وقف الست العباسية” بالمريوطية، التي تبلغ مساحتها 12.3 فدان، وسيتم إنشاء 1200 شقة، و132 بازارًا، و9 ورش حرفية، أما عن مساحة الوحدات السكانية، فتراوحت ما بين 59 مترًا في الدور الأرضي، و65 مترًا في الأدوار المتكررة، ووحدات أخرى بمساحة 85 مترًا.
أما المرحلة الثانية فكانت تستهدف تطوير مساحة 52 فدانًا بمنطقة النزلة، التي يبلغ عدد سكانها 18 ألف نسمة، بحيث يحصل السكان على 3758 وحدة سكنية و59 محلاً تجاريًا، فيما تشمل المرحلة الثالثة تطوير 59 فدانًا آخر بالنزلة، التي يسكنها 100 أسرة، على أن يحصلوا على 250 وحدة، و9 محال تجارية.
ورغم تعاقب الحكومات منذ 2009 وحتى اليوم لم يجرؤ أي رئيس حكومة على تنفيذ هذا المخطط رغم بناء جدار عازل بين الأهرامات والنزلة، في ظل الرفض القاطع من سكان المنطقة الذين أبدوا استعدادهم لتكييف أوضاعهم القانونية والتوصل إلى اتفاق بشأن شرعية وجودهم، غير أنه خلال اليومين الماضيين فوجئ الأهالي بقوة تستهدف إزالة 5 عقارات من المنطقة أحدها كان مصدر الرزق الوحيد لأسرة من الأيتام ولو تشفع دموع السيدة العجوز التي كانت تؤجر بيتها للأجانب من أجل الإنفاق على بناتها اليتامى لدى قوة الأمن التي أهالت البيت وحولته إلى كومة تراب وسط صراخ العجوز وبناتها.
النزلة مش للبيع
تحت شعار “نزلة السمان مش للبيع” تجمهر المئات من سكان المنطقة تنديدًا بما أسموه محاولات “تهجير” النزلة من سكانها لأغراض أخرى استثمارية لصالح جهات بعينها، مؤكدين بقائهم مرابطين أمام منازلهم لحين البت في مشاكلهم أو الموت دونها حسبما أشار “سامح. ح” أحد سكان المنطقة.
سامح لـ”نون بوست” أشار إلى أن منزله الذي يقيم به يعود إلى قرابة 200 عام، ورثه عن أجداده القدامى، دون أن يجرؤ أحد على المساس به، وقبل 20 عامًا تقريبًا جاءت لجنة إلى المنطقة لتسوية الأوضاع القانونية للسكان وبالفعل تم إبرام عقود معها وتم توثيقها في الشهر العقاري.
وأضاف أن هناك نوايا غير طيبة وراء حملات الإزالة الحاليّة، منوهًا أن أهالي المنطقة بالكامل لن يتركوا أحد يهدم عليهم بيوتهم مهما كلفهم الأمر، مختتمًا حديثه بـ”إحنا مش الوراق ولا مثلث ماسبيرو ولن نتزحزح خطوة واحدة وعلى استعداد للجلوس من أجل تسوية الوضع قانونًا”.
نشرت مواقع التواصل الاجتماعي فيديو لإحدى سكان النزلة تصرخ فيه بسبب اعتقال قوات الأمن لأبنائها وجيرانها، مشيرة إلى أن اعتداءات الداخلية عليهم تشبه ما فعلته مع الإخوان من انتهاكات واعتقال، وتابعت: “مالهمش ملة ولا دين.. سحلونا ومارحموش حد”
أما “س. خاطر” مرشد سياحي مقيم بالنزلة فأشار إلى أن هناك نية موحدة لدى الجميع بالتصدي لأي محاولة لتهجيرهم من المنطقة، محذرًا من أن القبضة الأمنية المتبعة معهم سيكون لها تأثير خطير ليس على النزلة وحدها بل على الدولة بأكملها، لافتًا إلى أن الصمت حيال ما يمارس سيكون بداية النهاية لمنطقة كانت تسمى نزلة السمان.
وأضاف في حديثه لـ”نون بوست” أن قوات الأمن خلال اليومين الماضيين اعتقلت ما يزيد على 30 مرشدًا سياحيًا لاعتراضهم على عمليات الإزالة وحثهم الأهالي على التصدي لمخطط التهجير الذي يستهدف تشريد ما يزيد على 300 ألف مواطن دون سبب مقنع أو مبرر قانوني.
جزاء سنمار
معروف عن عدد كبير من سكان النزلة دعمهم المطلق لنظام مبارك إبان ثورة 25 يناير، إذ كانوا نواة ما عرف بـ”موقعة الجمل”، حيث شن شباب المنطقة هجومًا على الثوار في ميدان التحرير أسفر عن سقوط عدد من الشهداء والجرحى، وهو ما أراد “علي. ج” التأكيد عليه خلال تعليقه على ما يمارس ضدهم الآن.
علي لـ”نون بوست” قال إنهم كانوا في صف الجيش والشرطة في مواجهة الثوار والإخوان ودومًا كانوا حراس للمنطقة في مواجهة أي حراك ثوري، متسائلاً: “هل هذا جزاؤنا؟ هل هذا رد الجميل؟” وتابع: “بدلاً من أن يقفوا بجوارنا ويدعمونا يشمتوا فينا الإخوان والثوار”.
فيما نشرت مواقع التواصل الاجتماعي فيديو لإحدى سكان النزلة تصرخ فيه بسبب اعتقال قوات الأمن لأبنائها وجيرانها، مشيرة إلى أن اعتداءات الداخلية عليهم تشبه ما فعلته مع الإخوان من انتهاكات واعتقال، وتابعت: “مالهمش ملة ولا دين.. سحلونا ومارحموش حد”.
وأضافت أن بيتها تم هدمه وهم بداخله، وقالت: “والله العظيم بيوت أجدادنا مش لسه جايين فيها، طب عوضونا، إحنا مكناش مصدقين الإخوان ونشتم عليهم ونقول بيموتوا في الشرطة، والله سحلونا وقتلونا وأهانونا، ليه عملتوا فينا كده، يضربوا الستات بالخرطوش.. ليه ليه.. لا همهم أطفال ولا حد.. حسبنا الله ونعم الوكيل”.
تلميح عن دور إماراتي
“يبدو أن مخطط تهجير سكان مثلث ماسبيرو والوراق هو ذاته ما يراد به لأهل نزلة السمان، فالعملية لا علاقة لها بالتطوير أو غيره، وإن كان كذلك فقد عرضنا عليهم تكييف أوضاعنا والمشاركة معهم في التطوير بأي مبالغ يريدونها شرط ألا يخرجونا من بيوتنا”، بهذه الكلمات استهل “حسن. ف” صاحب أحد البازرات في شارع أبو الهول حديثه معلقًا على الدوافع الحقيقية وراء هذه الحملة.
حسن أضاف لـ”نون بوست” أنه قد أثير من بعض المقربين من مسؤولي محافظة الجيزة أن هناك استثمارات إماراتية قد تضخ في هذه المنطقة وتحولها إلى مزارات سياحية عالمية، وتابع: هذه الأنباء كنا نكذبها مرارًا وتكرارًا فيكف يمكنهم ذلك ونحن من وقفنا معهم سنوات طويلة مضت، غير أن بدء عمليات الإزالة يرجح ما سمعنها بشكل كبير، خاصة أن التجربة ذاتها حية وشاهدة في الوراق”.
وفي المقابل أكد اللواء أحمد راشد محافظ الجيزة، أنه لا صحة لإزالة عقارات نزلة السمان، وأنه لا تهاون أو تسامح في المخالفات الكائنة بحرم الأهرامات التي تمت إزالتها بالتنسيق مع وزارتي الآثار والداخلية.
وأضاف في بيان له أن أعمال الإزالة التي تم تنفيذها بحرم المنطقة الأثرية بمنطقة الأهرامات هي أعمال إزالة لـ4 عقارات مخالفة لقوانين البناء والآثار وغير حاصلة على التراخيص اللازمة من الجهات المختصة، وأصحاب العقارات المخالفة لم يهتموا بمراعاة الجانب الأثري لمنطقة الأهرامات العريقة، التي تأتي إليها الوفود السياحية للاستمتاع بالتراث الأثري الذي لا مثيل له بالعالم، وقاموا ببناء وتعلية العقارات مما يشوه المنظر العام للمنطقة الأثرية.
“المرحلة الأولى لإزالة التعديات على منطقة نزلة السمان المتاخمة لمنطقة الأهرامات الأثرية بدأت بالفعل وما زالت متواصلة حتى الانتهاء من إزالة التعديات كافة” مدير منطقة الأهرامات الأثرية
تشويه وإصرار
شن الإعلامي المقرب من النظام أحمد موسى، هجومًا على أهالي النزلة أمس خلال برنامجه المقدم على فضائية “صدى البلد” بسبب ما أسماه “التجمهر اعتراضًا على تنفيذ القانون”، محذرًا من استغلال القنوات المعارضة لمثل هذه التظاهرات والترويج لها خارجيًا بما يسيء لصورة الدولة المصرية على حد قوله.
موسى طالب الأهالي بالالتزام بقرارات الإزالة، وعدم التصدي لرجال الشرطة حتى لا يستغل الإخوان هذا الخلاف، وهو ما قوبل بانتقادات لاذعة من سكان المنطقة الذين رفضوا ما وصفوه بـ”شماعة فزاعة الإخوان” لتمرير مخطط التهجير.
حسن فايد مدير إحدى الشركات السياحية بالهرم علق على حديث موسى بقوله: “البيت اللي عايش فيه مبني وموثق رسميًا قبل زواج والدتك من والدك”، مستنكرًا الربط بين دفاع أهالي النزلة عن بيوتهم وبين الاتهام بتقديم مادة جيدة للمعارضة لتوظيفها ضد الدولة.
وأضاف في مقطع مصور له على صفحة “السمان الآن” على “فيس بوك” أن النزلة طيلة السنوات الماضية كانت مع السلطة في كل شيء، ولم تتوان عن خدمة النظام، محذرًا من أن تلك الحملة لن تمر، وأن الأهالي لن يقفوا مكتوفي الأيدي، مضيفًا “من يوم الأربعاء إلى اليوم بنبوس الأيادي عشان نتفادى الافتراء.. الافتراء وحش ومؤلم.. القوي فيه الأقوى منه”، وتابع “المحافظة تساومني على بيتي بدعوى تسوية مخالفات وهمية عشرين في عشرين.. خافوا من ربنا.. أنتم بفسادكم بتولعوا الدنيا.. والمصحف بتولعوها”.
وتزامنًا مع هذه الحملة طالب عدد من أعضاء مجلس النواب بتشكيل لجنة لتقصيالحقائق مشتركة بين لجان الثقافة والإعلام والإسكان والإدارة المحلية، لتحديد المسؤولية الكاملة عن الاعتداء على الحرم الأثري في منطقة أهرامات الجيزة، حيث أشار النائب عصمت زايد عضو لجنة الثقافة والإعلام بالبرلمان، أنه سيتم اتخاذ إجراءات حازمة لكل المباني التي تقع في محيط المتحف الكبير ومنطقة الأهرامات، مؤكدة أن هناك لقاءات مع الوزراء المختصين الذين أكدوا أنه سيتم نقل نادي الرماية لمنطقة أخرى، بحيث تصبح منطقة الأهرامات والمتحف الكبير مفتوحة، فضلاً عن إزالة أي مخالفات بالمناطق السياحية.
أما أشرف محيي مدير منطقة الأهرامات الأثرية، فقال إن المرحلة الأولى لإزالة التعديات على منطقة نزلة السمان المتاخمة لمنطقة الأهرامات الأثرية بدأت بالفعل وما زالت متواصلة حتى الانتهاء من إزالة التعديات كافة، منوهًا إلى أن تلك القرارات مدرجة على الحملة رقم 12 التي تشمل جميع أنحاء الجمهورية، لإزالة التعديات في نطاق عمل كل الوزارات سواء الآثار أم الزراعة أم غيرهما.
وما بين الإصرار على تنفيذ قرارات الإزالة وتصميم الأهالي على الدفاع عن بيوتهم حتى آخر رمق من حياتهم، تبقى منطقة نزلة السمان على صفيح ساخن لحين إشعار آخر، ولا يزال شبح التهجير يطارد سكانها وأعينهم تراقب عن كثب سيناريو مثلث ماسبيرو والوراق بينما لا يفصل عن الذكرى الثامنة لثورة الخامس والعشرين من يناير سوى أيام معدودة.