تشهد العلاقات الفرنسية الإيطالية توترًا كبيرًا في الأشهر الأخيرة، وصل حد استدعاء باريس لسفير روما لديها للاحتجاج على تصريحات لنائب رئيس الوزراء الإيطالي لويجي دي مايو، اعتبرتها فرنسا غير مقبولة وغير مبررة، فماذا تحمل هذه التصريحات؟
فرض عقوبات على فرنسا
ضمن هذه التصريحات، أعرب دي مايو الأحد، عن الأمل في أن يفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات ضد الدول بدءًا بفرنسا التي تقف حسب قوله وراء مأساة المهاجرين في البحر المتوسط من خلال تهجيرهم من إفريقيا.
وتحمّل السلطات الإيطالية العديد من الدول على رأسهم فرنسا مسؤولية تدفق آلاف اللاجئين إلى السواحل الإيطالية، وخلال السنة الماضية وصل إلى إيطاليا قرابة 23 ألف مهاجر غير شرعي، رغم الإجراءات التي اتخذتها روما لمنع دخول المهاجرين الذين تنقذهم سفن الإغاثة في البحر المتوسط.
تعتبر فرنسا الدولة الأوروبية الأولى من حيث قوة نفوذها وقدرتها على الحركة والفعل في الساحة الإفريقية
وينظر إلى المهاجرين في إيطاليا، على أنهم السبب الرئيس وراء إطالة الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد التي تحتل المرتبة الثالثة في اقتصادات منطقة اليورو، والسبب المباشر لخطر وقوع هجمات إرهابية، على الرغم من أن الهجوم الوحيد الذي يمكن أن ينظر إليه على أنه مجزرة حقيقية، كان قد ارتكبه إيطالي ضد الأجانب.
ولا تقتصر أصول المهاجرين غير النظاميين إلى إيطاليا على جنسية واحدة، حيث يتدفق إليها مهاجرون من معظم الدول الإفريقية: من السنغال والنيجر وغينيا وسحل العاج وغامبيا ونيجيريا، كما يهاجر إليها كثيرون من المغرب ومالي وإريتريا، فضلاً عن السودان والصومال ومصر وتونس وليبيا.
“تفقير إفريقيا”
دي مايو الذي يتزعم حركة حركة 5 نجوم (مناهضة للمؤسسات) التي تحكم مع الرابطة (يمين متطرف) بزعامة ماتيو سالفيني، قال أيضًا ضمن نفس التصريحات “إذا كان هناك اليوم أفراد يرحلون فلأن بعض الدول الأوروبية في طليعتها فرنسا لم تكف عن استعمار عشرات الدول الإفريقية”.
بحسب دي مايو الذي هو أيضًا وزير التنمية الاقتصادية “هناك عشرات الدول الإفريقية التي تطبع فيها فرنسا عملة محلية وتمول بذلك الدين العام الفرنسي”، كما أضاف “لو لم يكن لفرنسا مستعمرات إفريقية لأن هذه هي التسمية الصحيحة لكانت الدولة الاقتصادية الـ15 في العالم في حين أنها بين الأوائل بفضل ما تفعله في إفريقيا”.
وفي تصريح صحافي ثاني أدلى به دي مايو أمس الإثنين، قال: “لا أعتقد أن هناك حادثًا دبلوماسيًا، أعتقد بأن كل ما قلته صحيح، إن فرنسا واحدة من هذه الدول التي تمنع التطور وتساهم في رحيل اللاجئين لأنها تطبع عملات 14 دولة إفريقية، وإذا أرادت أوروبا اليوم أن تتحلى ببعض الشجاعة، عليها أن تتخذ قرار العمل على إزالة الاستعمار في إفريقيا”.
ويعتبر كلام دي مايو إعادة لما قاله الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتيران حيث قال عام 1957 قبل أن يتقلد منصب الرئاسة: “دون إفريقيا، فرنسا لن تملك أي تاريخ في القرن الواحد والعشرين”، ليتأكد بذلك الدور الكبير لدول إفريقيا في النهوض بفرنسا قديمًا وحديثًا ومستقبلاً أيضًا.
وسبق أن تحدثنا في تقرير لنون بوست على الشبكة التي أسسها الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول، وعرفت باسم “فرانس أفريك”، التي أوكلت لها مهمة رسم الجزء الأهم من علاقات باريس بإفريقيا إلى اليوم، والدفاع عن “الفناء الخلفي” الإفريقي.
بفضل شبكة “فرانس أفريك“، تمكنت فرنسا من الاحتفاظ لنفسها بالسيطرة على الوحدة النقدية الأساسية في وسط وغرب إفريقيا والمعروفة باسم الفرنك الإفريقي، وقد كان الفرنك الإفريقي حيلة فرنسية ناجعة لتأمين التدفق المستمر للعائدات النقدية والاقتصادية من المستعمرات الفرنسية السابقة لباريس، خاصة أن الاتفاق كان يشترط على دول الفرنك توريد 100% من ودائع النقد الأجنبي الخاصة بها للبنك المركزي الفرنسي، قبل أن يجري تخفيض هذه النسبة لـ65% في السبعينيات، ولاحقًا لـ50% عام 2005، تحت ذريعة توفير غطاء نقدي لإصدار الفرنك الفرنسي.
وتسيطر فرنسا على مصادر المحروقات الرئيسة في دول القارة الإفريقية، كما على اليورانيوم الموجود في الصحراء الإفريقية، إذ تعتمد فرنسا في تلبية نحو 75% من احتياجاتها من الكهرباء على الطاقة النووية، وهو ما يفسر اعتماد فرنسا الكبيرعلى خام اليورانيوم.
وتعتبر فرنسا الدولة الأوروبية الأولى من حيث قوة نفوذها وقدرتها على الحركة والفعل في الساحة الإفريقية، حتى إن إفريقيا تمثل أحد ثلاثة عوامل داعمة لمكانة فرنسا الدولية بجانب مقعدها الدائم في مجلس الأمن وقدراتها النووية، لذلك فإن العلاقة بينهما هي علاقة مصيرية، بمعنى أنها تتعلق ببقاء واستمرار الدولة الفرنسية كقوة عظمى ذات مكانة عالمية.
إيطاليا هي الأخرى معنية بتفقير إفريقيا
ليست فرنسا وحدها من فقّرت إفريقيا، فإيطاليا لها دور في ذلك أيضًا وإن كان بدرجة أقل، فقد عملت هذه الدولة الأوروبية طيلة فترة احتلالها لعدد من الدول الإفريقية على غرار ليبيا والصومال، إلى نهب الثروات وتحويلها إلى أراضيها قصد استغلالها لتنمية البلاد.
ويقع على عاتق إيطاليا، مسؤولية الوضع الذي آلت إليه العديد من الدول الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى، فليست الحروب الداخلية فقط المتسببة في هذا الوضع الصعب للأفارقة، بل أيضًا عمليات نهب مبرمجة تمارسها الشركات العابرة للجنسيات من بينها شركة “إيني الإيطالية” بالتواطؤ مع الطبقات الحاكمة.
وتسعى روما إلى استغلال الثروات الإفريقية، خاصة في ليبيا الغنية بالنفط لإصلاح اقتصادها المتردي، وذلك عبر نهب النفط والغاز الليبي، وتم من قبل سرقة غاز ليبي عبر الحكومة الإيطالية، وكذلك سرقة الثروة السمكية لهذا البلد العربي.
ولئن تراجع الدور الإيطالي في إفريقيا في السنوات الأخيرة، فإن الإيطاليين يسعون إلى ضمان موطئ قدم واضح وثابت في العديد من الملفات على رأسها الملف الإفريقي والعودة لشمال إفريقيا والإمساك بزمام الأمور هناك، والتمكن من نفوذ فقدته في المنطقة.
نهب الثروات الإفريقية لم ينته بخروج الدول المستعمرة، بل يتواصل إلى الآن على حساب مصالح أغلبية الشعوب الإفريقية
ترى إيطاليا في إفريقيا مجالاً حيويًا وأرضًا خصبة لا يجب أن يكثر حولها الطامعون، لذلك فهي تسعى إلى عدم تهميش دورها هناك، للحفاظ على مصالحها النفطية وضمان إدارة عملية مكافحة تهريب اللاجئين غير الشرعيين، وذلك لإحياء الأمجاد التاريخية للإمبراطورية الرومانية في جنوب المتوسط.
صراع متواصل
لئن ربط بعض المراقبين، توتر العلاقات بين البلدين الأوروبيين بوصول اليمين المتطرف إلى الحكم في إيطاليا في يونيو/حزيران 2018، فإن الظاهر أن للصراع الفرنسي الإيطالي جذورًا تاريخية تسبق هذا التاريخ.
ويذكر الجميع كيف احتلت دول المحور – التي تمثل إيطاليا أحد أبرز دعائمه – فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية، فباريس لم تغفر لروما ذلك، كما أن الصراع بين الطرفين ظهر جليًا في التنافس على ليبيا، فقد احتلت فرنسا الجنوب الليبي وإيطاليا شمالي البلاد.
وخلال السنوات الأخيرة، عاد الصراع بين الطرفين بشأن ليبيا، بعد أن تحول هذا البلد العربي إلى بلد ضعيف لا يسيطر على أراضيه ولا مدخراته الطبيعية، وقد استغل الطرفان هذه النقطة فضلاً عن تراجع الهيمنة الأمريكية وتراجع الاتحاد الأوروبي الموحد للتنافس مجددًا على خيرات ليبيا.
إفريقيا.. ضحية التآمر
تمتلك القارة الإفريقية العديد من الثروات، إلا أنها القارة الأفقر في العالم، وبحسب تقرير لمفوضية الأمم المتحدة الاقتصادية لإفريقيا، تمتلك القارة 12% من احتياطات النفط في العالم و40% من الذهب العالمي ونحو 90% من خامي البلاتين والكروم، لكن ذلك لم يمنع استمرار الفقر والتهميش لدى العديد من دولها.
وتعتبر إفريقيا ثاني أكبر قارات العالم من حيث المساحة وعدد السكان، وتأتي في المرتبة الثانية بعد آسيا، وتبلغ مساحتها 30.2 مليون كيلومتر مربع، وتغطي 6% من إجمالي مساحة سطح الأرض، وتمثل 20.4% من إجمالي مساحة اليابسة.
ارتفاع نسبة الفقر في إفريقيا
نهب الثروات الإفريقية لم ينته بخروج الدول المستعمرة، بل يتواصل إلى الآن على حساب مصالح أغلبية الشعوب الإفريقية التي ما زالت تتطلع إلى تغيير حياتها إلى الأفضل وبالذات إلى مواجهة أوضاع الفقر التي تفاقمت نسبتها كما تدل الإحصاءات العالمية.
وأدت عمليات النهب المتواصلة للثروات الإفريقية إلى تعطيل خطط التنمية الاقتصادية الاجتماعية المفروض تطبيقها لصالح شعوب القارة السمراء، وارتفاع نسب البطالة والفقر وانتشار المجاعات والأوبئة في دول القارة خاصة التي تقع جنوب الصحراء.
تعتبر الراحة الحياتية التي تعيشها المجتمعات الغربية ثمن شقاء لا نظير له في دول إفريقيا، فثروات القارة موجهة في معظمها للغرب، وليس للشعوب هناك الحق في التمتع بها ولا حتى السؤال عنها وعن مصيرها، وحتى القادة الذين ينوون استثمارها لصالح بلدانهم يكون الموت أو العزل أقرب لهم، وفي ذلك أمثلة عدة.