عقب كارثة الحرب العالمية الثانية خضعت اقتصادات الدول الكبرى لنظامٍ عالمي جديد يعتمد على التبادل والتعاون المشترك بهدف الحفاظ على السلام وتسريع العجلة الاقتصادية، قادت أوروبا هذه العملية وتبعتها اليابان والنمور الآسيوية (هونغ كونغ وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان)، فاكتسحت منتجاتها الأسواق الخارجية وحققت نموًا لم يسبق له مثيل، وبالتالي تشجعت دول أخرى مثل البرازيل وروسيا والهند والصين للانضمام لهذه المنظومة ما دفع الحركة التجارية للوصول إلى أعلى مستوياتها.
بعد عقود من الترابط والتقدم الاقتصادي باسم العولمة، تباطأ الناتج المحلي الإجمالي وازدادت القيود والتعريفات الجمركية على التجارة العالمية وانخفضت تدفقات رؤوس الأموال بشكلٍ حاد وارتفعت معدلات البطالة في بعض الدول وازدادت معدلات التضخم في دول أخرى، كما تكررت الهزات والسقطات المالية، ما أشار إلى انتهاء السنوات الذهبية للعولمة.
لكن هذا لم يعني أن العولمة قد اختفت من حياتنا أو أنها اتخذت اتجاهًا معاكسًا وإنما يدلل على دخولها مرحلة جديدة، يواجه من خلالها العالم تغييرات جديدة وعجولة تحددها تدفقات البيانات والمعلومات المبنية على وسائل التكنولوجيا الرقمية، فعلى الرغم من عدم وجودها قبل سنواتٍ معدودة، فقد استطاعت التأثير بشكلٍ كبير على نمو الناتج المحلي الإجمالي مقارنةً مع التجارة التقليدية للسلع. فوفقًا لتقرير معهد ماكينزي العالمي الجديد، فإن تأثيرها ضاعف الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 45 مرة من عام 2005 إلى 2016، ومن المتوقع أن يرتفع 9 مرات إضافية خلال السنوات الـ5 المقبلة مع استمرار تدفق المعلومات وعمليات البحث والاتصالات والفيديو والمعاملات الإلكترونية.
كيف يبدو العالم خلف أبواب العولمة الرقمية؟
قال المؤسس والمدير التنفيذي للمنتدى الاقتصادي الدولي بجنيف كلاوس شواب، إن الثورة الصناعية الرابعة ما هي إلا امتداد للثورة الصناعية الثالثة، إذ يرى أن الثورة الصناعية الأولى اعتمدت على الماء وقوة البخار، والثانية قامت على الطاقة الكهربائية، والثالثة استعانت بالإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات لتتم حركة العمل الإنتاجية بصورةٍ آلية، أما الرابعة فدمجت بين التكنولوجيات المتعددة وألغت الحدود بين المجالات المادية والرقمية والحيوية.
وأفضل وصف لتكنولوجياتها الرائدة هي الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والعملة الرقمية والروبوتات والتكنولوجيا البيولوجية والطباعة ثلاثية الأبعاد والحوسبة الكمومية وغيرها من الأنظمة والتقنيات التي ستؤثر على العديد من الصناعات في العقود القادمة وتعطي أهمية غير مسبوقة للعالم الرقمي.
إن الثورة الصناعية الرابعة التي انبثقت عنها العولمة الرقمية قادرة على رفع مستويات الدخل وتحسين مستوى المعيشة وزيادة كفاءة الخدمات المقدمة واستقطاب أكبر عدد ممكن من المستهلكين حول العالم
المثير للاهتمام بهذه المنظومة أنها خلقت تفاعلًا اقتصاديًا مرنًا ليس له حدود، سواء في كم البيانات المتبادلة أو في قدرة الشركات على الانتفاع منها، فهذه المنصات الإلكترونية لا تسمح بتناقل وتبادل المعلومات بين المستخدمين فحسب، وإنما تستخدم أنظمة ذكية تحلل السلوكيات الرقمية وتتنبأ بها وتوجهها أيضًا لأغراض اجتماعية وسياسية واقتصادية، ما ساعد العديد من الجهات على الوصول إلى أسواق أكبر أو جماهير أوسع ولكنها في الوقت ذاته فرضت مخاطر وتحديات جديدة على جيل الألفية.
الموهبة والمهارة هما ما سيمثلان في المستقبل عاملًا فارقًا في الإنتاج أكثر من رأس المال ذاته، مما سيخلق سوقًا منقسمًا إلى مهارات منخفضة ذات دخل متدنٍ ومهارات عالية ذات دخل مرتفع
فبحسب رؤية شواب فإن الثورة الصناعية الرابعة التي انبثقت عنها العولمة الرقمية قادرة على رفع مستويات الدخل وتحسين مستوى المعيشة وزيادة كفاءة الخدمات المقدمة واستقطاب أكبر عدد ممكن من المستهلكين حول العالم، ولكنها في نفس الوقت تعطل العديد من الحرف والصناعات وتزيد الضغوط على المنتجات المحلية، كما أنها ستساهم في توسيع الفجوة الاقتصادية بين الطبقات الاجتماعية.
يضاف إلى ذلك دورها في تعزيز عدم المساواة، فوفقًا لشواب فإن الموهبة والمهارة هما ما سيمثلان في المستقبل عاملًا فارقًا في الإنتاج أكثر من رأس المال ذاته، مما سيخلق سوقًا منقسمًا إلى مهارات منخفضة ذات دخل متدنٍ ومهارات عالية ذات دخل مرتفع، وبالتالي ستزيد الفروقات والاضطرابات الاجتماعية، وتحديدًا في المجتمعات النامية أو التي لم تتجهز لمواجهة هذه المتطلبات العصرية.
فعلى قمة الهرم سيقف مجموعة صغيرة من المؤسسين والمستثمرين وغيرهم من المساهمين الذين ينتمون إلى النخبة الثرية وفي الأسفل سيكون على الموظفين ذوي المهارات المنخفضة الاعتماد على الحد الأدنى للأجور للعيش، وفي صفوف الطبقة الوسطى ستتلاشى الطبقة الاجتماعية التي تعد مؤشرًا أساسيًا في تحديد درجة رخاء المجتمع.
كيف أثرت العولمة الرقمية على مسار الشركات التجارية الكبرى والناشئة؟
في الثورات الصناعية السابقة، استفادت شركات السكك الحديدية الكبرى من التحولات الاقتصادية، ومع ذلك أمضت أكثر من 6 عقود للوصول إلى 50 مليون مستخدم، بينما احتاجت شركات أجهزة الهواتف الذكية والحواسيب المحمولة إلى 12 عامًا فقط للوصول إلى مليارات المستخدمين، ما يعني أنها اقتصاداتها تنمو وتتوسع بوتيرة قياسية.
على سبيل المثال، في فترة تقل عن 25 عامًا نمت شركة أمازون من متجر للتجارة الإلكترونية الناشئة إلى ثاني أكبر شركة متداولة في العالم، مما أحدث ثورة في خدمات البيع بالتجزئة والحوسبة السحابية والخدمات الإلكترونية وأصبحت شركة آبل أول شركة في العالم تبلغ قيمتها تريليون دولار في عام 2018 أي بعد عقد من إطلاقها لأول جهاز آيفون.
لسنواتٍ طويلة كان التصدير ممكنًا فقط للشركات الكبيرة لكن اليوم وجدت دراسة استقصائية جديدة أن أكثر من 3 آلاف شركة من شركات الدولة النامية والتي تنتمي إلى صغار البائعين عبر الإنترنت يقومون بالتصدير
المدهش في هذا الجانب، أن هذه الشركات الرقمية وغيرها من المؤسسات شكلت تكتلات اقتصادية قوية وذات نفوذ مؤثر في قطاع التجارة والصحة والسياسة والنقل وتوسعت دون أن تمتلك أصول مادية، بل تجاوزت الحدود والأنماط التقليدية وبدأت بتشكيل جديد لمفهوم القوة الاقتصادية الوطنية والمحلية.
الشركات الناشئة تزداد يومًا بعد يوم لأنها تولد رقميًا، وتمكن البلدان النامية من القفز إلى الاقتصاد العالمي بوضع جيد نسبيًا بسبب الإعفاءات الجمركية والضريبية في العالم الافتراضي
وذلك من خلال التجارة الإلكترونية، فلسنواتٍ طويلة، كان التصدير ممكنًا فقط للشركات الكبيرة لكن اليوم وجدت دراسة استقصائية جديدة أن أكثر من 3 آلاف شركة من شركات الدولة النامية والتي تنتمي إلى صغار البائعين عبر الإنترنت يقومون بالتصدير، وأن أكثر من 60% من البائعين المعتمدين على الأدوات الرقمية يصدرون إلى أكثر من سوق خارجي، على العكس من البائعين الذين لا يعتمدون على الشبكة العنكبوتية، فهم محاصرون في سوق واحد فقط.
والحقيقة تؤكد أن الشركات الناشئة تزداد يومًا بعد يوم لأنها تولد رقميًا، وتمكن البلدان النامية من القفز إلى الاقتصاد العالمي بوضع جيد نسبيًا بسبب الإعفاءات الجمركية والضريبية في العالم الافتراضي، ولكن لا شك أن الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية والتي تتمتع بشبكات اتصال قوية متينة وخدمات لوجستية دقيقة فرصتها أعلى في الاستفادة من خدمات التكنولوجيا.
فقد اكتشف معهد ماكينزي العالمي الذي استخدم عشرات المؤشرات لإنشاء مؤشر للأصول الرقمية، أن أمريكا تستخدم 18% فقط من إمكاناتها الرقمية وتستخدم أوروبا 12% بينما تستخدم الدول النامية 50% من ثرواتها الاقتصادية، ومع ذلك لا تزال تفتقر للوائح الرقمية واللوجستيات الإلكترونية والأمن السيبراني الذي يمكن أن يمنحها انتشار أوسع، ولا سيما أن تجارة السلع عن طريق التجارة الإلكترونية الدولية تشكل 12%، وهي نسبة تنمو باستمرار وذات ثقل جيد في الحسابات الاقتصادية.
ما مدى استعداد العالم لمواجهة هذه التغيرات ورواسبها؟
ينافش جدول أعمال مؤتمر دافوس لعام 2019 هذه المسألة اليوم على اعتبار أن العولمة الرقمية هي إحدى القوى التي ستعيد تشكيل العالم بشكل كبير في عام 2020 والتي سيؤدي وجودها إلى إحداث اضطرابات اقتصادية أكبر بكثير مما شهدناه على مدار ال 60 عامًا الماضية لأنها ستأخذ شكلًا متطرفًا بعض الشيء من خلالها إلغائها كيانات وقطاعات معينة.
يطالب المواطنين المعنين بالتعامل مع هذا النظام الجديد المدفوع بالابتكار والحداثة بالكثير من السياسات والمعايير والاتفاقيات التي من شأنها أن تعزز ثقة الجمهور بالمنتجات والخدمات الرقمية
فلا شك أن العولمة الرقمية التي تمنحنا كمًا هائلًا من الثروات المعلوماتية والمادية، لا تخلو من الثغرات التي قد تنعكس سلبًا على حياتنا، وخاصةً في المسائل التي تتعلق بالأمن السيبراني واستخدامات الذكاء الاصطناعي وحماية الملكية الفكرية، وإذا لم تكن شبكة الإنترنت آمنة فهذا يعني أن اقتصادات الدولة ستعاني من التهديدات والتجاوزات المحتملة، فهل يمكن في ظل غياب السياسات المشددة الوثوق تمامًا بالأنظمة المالية الافتراضية مثل البيتكوين على سبيل المثال؟
ونظرًا لهذه التخوفات والثغرات الأمنية في النظام الرقمي، يطالب المواطنين المعنين بالتعامل مع هذا النظام الجديد المدفوع بالابتكار والحداثة بالكثير من السياسات والمعايير والاتفاقيات التي من شأنها أن تعزز ثقة الجمهور بالمنتجات والخدمات الرقمية، رغم صعوبة إتمام هذه الخطوة في الوقت الذي تفشل فيه تطبيقات عديدة في الوفاء بوعودها بالخصوصية لمستخدميها مثل فيسبوك الذي انعدمت ثقة المستخدمين به بسبب اختراقه وبيعه بيانات المستخدمين لأغراض سياسية.
عدا عن تسببها بفيضانات من المعلومات المضللة والأخبار المزيفة، فعلى مدار السنوات الماضية شاهدنا الانتخابات الأخيرة في الغرب -تحديدًا الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة- التي زعزعت ثقة المواطنين بقياداتهم الحكومية وأجهزتهم ووسائل الإعلام بشكل عام، ما خلق نوعًا جديدًا من التحديات التي تلزم بالسيطرة على معايير الأمان الكافية لخلق عالم منفتح على جميع الاقتصادات والمجتمعات حول العالم دون أن تؤثر سلبًا على النسيج الاجتماعي أو التلاعب بخصوصيته، وإلى ذلك يبقى التكهن بمستقبل المجتمعات والاقتصادات رهنًا للقوانين والقواعد التي سيفرضها العالم حتى لا تتفاقم أزماته بشكل أسوأ مما هي عليه.