بأناملها الصغيرة، وخيالها الواسع، وأحلامها البسيطة بين ركام منزلها المُدمر، تجلس الطفلة الرسامة رغد نعيم أبو عامر – 15 عامًا – ترسم لوحاتها بقلمها الرصاص المُتبقي لها من أدوات الرسم التي كانت تمتلكها قبل الحرب على غزة.
خلال إعدادنا للتقرير طلبنا من رغد أن ترسم لوحة، فاختارت أن ترسم منزلها المستقبلي، بعدما تحول منزلها الحالي إلى ركام بفصل القصف الإسرائيلي، حيث رسمته بالقلم الأسود وتدرجاته الرمادية القاتمة، وقالت إن هذا النوع من الرسم يدل على الركام والحزن والدمار الذي تركته الحرب بداخلها، وترسم في مخيلتها ألوان البيت بعد إعادة بنائه وتلوينه هي وعائلتها بالحب والحياة والسعادة وضحكات أخوتها.
الرسم قبل الحرب وخلالها
توضح رغد لـ”نون بوست” أن الرسم بمثابة المُتعة لها في أوقات فراغها، تمارسه وتفرغ طاقتها الإبداعية من خلال تخطيطها للرسومات، وليس انتهاءً بمرحلة اختيار الألوان ودمجها.
تُضيف رغد “قبل الحرب كنت أرسم لوحاتي التي كانت تعبر عن الحياة والأمل والتفاؤل، وكنت أملك العديد من اللوحات والألوان والأوراق والدفاتر. أما خلال الحرب اختلف لون لوحاتي وطبيعة رسمي، فأصبحت أرسم حياة النزوح والدمار والشهداء وحال الأطفال بألوان باهتة، لا سيما بعد خسارتي كل معدات الرسم تحت أنقاض منزلي”.
تُعبر لوحات رغد عن طفولة مدمرة وضائعة بين النزوح المتكرر والبيوت المدمرة، عدا عن أنها تهرب من خوفها بدس قلمها بين أوراقها، لتُحول الذعر إلى لوحةٍ قد تكون شاهدة على جرائم الاحتلال بحق الطفولة في غزة.
للوهلة الأولى حينما ترى رغد تتسرب إلى روحك ضحكة أمل نابعة من قلبها البريء، الذي تخفي خلفه أوجاعها التي شعرت بالخجل وهي ترويها لنا، حيث إنها تُعاني من ورم سرطاني خلف الأذن أفقدها السمع بنسبة 50%، وتنتظر كما الآلاف من أطفال غزة تحويلها للعلاج بالخارج، كي تتمكن من استكمال علاجها لتعود إلى لوحاتها وتصل إلى حلمها بأن تُصبح رسامة عالمية تجوب العالم بأسره بلوحاتها.
“كيف لهذه الحرب أن تجردنا من كل ما نملك وتمنحنا كلمة مجهول؟ منذ لحظات كنت أجلس قرب أمي، ألعب مع أخي الصغير ننتظر قدوم أبي، لحظات واختفى كل شيء! والآن ممدد على سرير المشفى لتمنحني الحرب كلمة شهيد مجهول”.
بهذه الكلمات عنونت الفنانة الطفلة رغد واحدة من لوحاتها التي شاركت بها في أحد المعارض المحلية بمدينة خانيونس، حيث مكان نزوحها، لتُعبر عن حال الأطفال مجهولي الهوية الذين قتلتهم آلة الحرب الإسرائيلية خلال عام من الإبادة، في انتهاك واضح للمواثيق والقوانين الدولية التي تكفل حقوق الطفل والتي من أهمها حقه في الحياة بآمان وسلام.
كرة بلا ملعب
ومن بين أنقاض منازل الأطفال المدمرة نتنقل من موهبةٍ لأخرى، فمن دفتر الرسم إلى كرة القدم، حيث الطفل آدم أسامة النجار – 10 أعوام – الذي اكتشفت أخته الكبرى موهبته في كرة القدم مُنذ كان عمره عامًا، فانضم إلى نادي كرة القدم في أكاديمية تشامبيونز حين كان في الرابعة من العمر، ما ساهم في احترافه لهذه الرياضة مبكرًا، ليحصل مع فريقه على كؤوس في الدوريات المحلية والفوز بعدة ميداليات ذهبية وفضية، علاوة على ذلك صُقلت شخصيته ليغدو قياديًا واجتماعيًا بجانب تفوقه المدرسي.
بدأت مخاوف آدم تتضاعف عندما تعرض ملعب المنطقة التي يسكن بها للاستهداف بعدة غارات عدمت معالم المكان، وظل خوفه يتفشى مع كل مرة كان يسمع فيها عن إصابة أحد الأطفال بقدمه، وفي أثناء حصاره مع أهله من قبل دبابات الجيش الإسرائيلي كان يبكي ويقول: “رح يطخوا رجلي وأبطل أقدر ألعب كرة”.
ولسوء الحظ في 9 ديسمبر/كانون الأول الماضي قصف الاحتلال بمدفعيته الغرفة التي يقطن فيها آدم مع عائلته، فأصيب الطفل بيده اليُمني وبقيت الشظية عالقة بين قرص النمو والرسغ لأكثر من خمسة أشهر، قبل أن يجري عمليتين جراحيتين في المستشفى الميداني البريطاني.
ما زال النجار يطمح في احتراف كرة القدم ومشاركته في النوادي العالمية، لذا يلعب الآن مع أخيه الأصغر بين الركام، لأن ناديه وبيته باتا أثرًا بعد عين.
وتجدر الإشارة إلى أن نادي تشامبيونز كان من أعرق الأماكن الرياضية التي تحتضن الأطفال الموهبين في رياضات مختلفة، ويتواجد في محور نتساريم الذي حوله الاحتلال إلى منطقة عسكرية مغلقة ودمره بالكامل بعد أن عاث فيه فسادًا.
حناجر تصدح وسط الحرب
عندما يُسدد الأطفال هدفًا يصدحُ إبداع ملهم لتبرز موهبة الطفل يوسف عاشور – 15 عامًا- لاعب المنتخب الفلسطيني للأشبال، الذي يمتلك حنجرة ذهبية تفوح منها أعذب أناشيد رثاء الشهداء ليكون وريثًا لمنشدين يحترفون هذا النوع من الفن كأمثال مُنشد الشهداء حمزة أبو قنيص.
أهمل يوسف خلال فترة الحرب على غزة موهبته ليُعيل عائلته بفتح بسطة يبيع بها “حلوى الحلب”، وأصيب إثر قصف الاحتلال لمكان تواجده، ما أدى إلى كسر قدمه اليمنى وإصابة اليسرى بثلاث شظايا وحروق بالغة بأنحاء جسده حرمته من لعب كرة القدم التي كان يطمح في احترافها، وأصبح صوته أكثر حزنًا تسمع من خلاله نبرة الحسرة والوجع على طفولته وأحلامه الضائعة في طوفان القهر.
ويأمل يوسف أن تنتهي الحرب ليُغني للحب والسلام والطفولة والوطن ويُمثل فلسطين في محافل عدة.
نفسية الأطفال
يعاني أطفال قطاع غزة من اضطرابات ما بعد الصدمة تؤثر على نفسيتهم وسلوكهم العام على المدى القريب والبعيد، وتحدث المدربة في مجال الدعم النفسي للأطفال سارة النجار لـ”نون بوست” عن الواقع النفسي للأطفال الذين تعاملت معهم خلال جلسات التفريغ النفسي.
تقول النجار إن الأطفال ينقسمون إلى من يكتم مشاعره وينعكس على سلوكه بالعزلة والكتمان أو السلوك العدواني الذي يُمارسه على أقرانه، والقسم الآخر يُعبر عن مشاعره بالحديث عما يجول بداخله بالرسم أو الغناء لمشاركة الآخرين في أنشطة جماعية تُخفف من التوتر والقلق الذي يجتاح معظم أطفال قطاع غزة.
وأضافت أن أكثر موقف تأثرت به هو سماعها خبر استشهاد الطفلة سما رمضان الفجم، 13 عامًا، في آخر دخول بري للمنطقة الشرقية لخانيونس في شهر يوليو/تموز الماضي، حيث كانت واحدة من الأطفال الذين كانت تُقدم لهم الدعم النفسي في نفس الأسبوع الذي استشهدت فيه، وتلقت الخبر كالصاعقة على قلبها لأن هذه الطفلة كانت تحلم بأن تحترف الرسم وتحقق أحلامها بإكمال تعليمها.
وتناشد النجار المؤسسات الدولية والحقوقية بضرورة التدخل العاجل لإنقاذ أطفال غزة الذين يُقتلون ويموتون جوعًا أو افتقارًا للرعاية الصحية، وليس انتهاءً بمنع الاحتلال دخول المواد الغذائية والحليب والفيتامينات والمكملات اللازمة لنموهم السليم.
يُشار إلى أن “إسرائيل” تعمدت في حربها على غزة استهداف الطفولة، حيث بلغ عدد الأطفال الذين قتلتهم خلال عام وأكثر 13 ألفًا و319 شهيدًا، كما بلغ عدد الأطفال الرُضع 786 شهيدًا، وعدد الأطفال الذين فقدوا أحد أو كلا الوالدين 35 ألفًا و55 طفلًا والأعداد متزادية مع استمرارية حرب الإبادة في ظل صمتٍ عربي ودولي.