تحتضن العاصمة السودانية الخرطوم، غدًا الخميس، محادثات برعاية الاتحاد الإفريقي بين حكومة جمهورية إفريقيا الوسطى و14 مجموعة مسلحة بهدف إحلال السلام في هذا البلد الذي يعيش على وقع صراع دامٍ منذ سنوات، فهل تفلح الخرطوم في ذلك، خاصة أن العنف متواصل إلى اليوم وخلف المئات من القتلى في صفوف الجهات المتصارعة والمدنيين؟
حوار منتظر
هذا الحوار الذي يعده الاتحاد الإفريقي منذ يوليو/تموز 2017، من المنتظر أن يمهّد لتوقيع اتفاق مبدئي بين فرقاء إفريقيا الوسطى بشأن ملفات الترتيبات الأمنية والحكم وقسمة السلطة وإعادة الدمج والتسريح لقوات الفصائل المسلحة ودمجها في القوات المسلحة النظامية.
وأعلنت الخرطوم، في سبتمبر/أيلول الماضي، أن الاتحاد الإفريقي تبنى مبادرة السودان لوقف الصراع المسلح في إفريقيا الوسطى وإحلال السلام، واستضافت الخرطوم، نهاية أغسطس/آب الماضي، خمسة فصائل مسلحة على مدار يومين في مفاوضات سرية، انتهت بتوقيع اتفاق مبدئي أو مذكرة تفاهم قضت بتكوين إطار مشترك للسلام باسم “تجمع إفريقيا الوسطى“.
ويعول الاتحاد الإفريقي على مبادرة السودان في تحقيق السلام بجمهورية إفريقيا الوسطي وسبق أن أعلن رئيس مفوضية الأمن والسلم الإفريقي إسماعيل شرقي أن جهود الخرطوم هي الوحيدة التي يمكنها أن تتيح توقيع المجموعات المسلحة لاتفاق سلام مع الحكومة وتسليم أسلحتها كافة والانضمام إلى جهود وتنمية بلادها، مؤكدًا أن جهود الخرطوم مكملة لمبادرة الاتحاد الإفريقي وليست منفصلة عنها.
منذ الاستقلال ظلت دوائر القرار تحت هيمنة الأعراق المسيحية، وجميع الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم البلاد كانوا كلهم مسيحيين
من بين الفصائل المسلحة التي ستشارك في هذه المفاوضات نجد “الجبهة الشعبية لنهضة إفريقيا الوسطى” و”حركة أنتي – بالاكا” و”حركة نهضة إفريقيا الوسطى” و”الحركة الوطنية لإفريقيا الوسطى” و”حركة الوحدة من أجل سلام إفريقيا الوسطى”، فضلاً عن العديد من الحركات المسلحة الأخرى.
ويأمل الأفارقة في أن تنشط مفاوضات الخرطوم، مبادرة الاتحاد الإفريقي للسلام والمصالحة في دولة إفريقيا الوسطى، التي انطلقت عام 2016، ما من شأنه أن يعود بالفائدة على القارة السمراء بصفة عامة وإفريقيا الوسطى بصفة خاصة.
وقبل أيام، حذر مسؤول أممي كبير من أن انعدام الأمن في جمهورية إفريقيا الوسطى يمكن أن يتسبب في نشر العنف عبر الحدود إلى دول مجاورة، وأن ذلك سيؤدي بدوره إلى تزايد حالة عدم الاستقرار في المنطقة، وقال الممثل الخاص لسكرتير العام للأمم المتحدة لشؤون منطقة وسط إفريقيا ورئيس المكتب الإقليمي للأمم المتحدة في المنطقة فرانسوا فول، إنه يتعين الاستمرار في بذل جهود إقليمية بطريقة منسقة من أجل دعم السلام والأمن في المنطقة.
بداية الأزمة
تعود بداية هذه الأزمة الأمنية إلى سنة 2012، عندما اتهمت الجماعة الإسلامية المسلحة المعروفة باسم “سيليكا” الحكومة السابقة بتراجعها عن اتفاق يعود إلى سنة 2007 ويقضي بإنهاء حرب أهلية سابقة، وفي مارس/آذار 2013، وصلت “السيليكا”، العاصمة بانغي، وتمكّنت من بسط نفوذها على السلطة تحت اسم الجبهة الشعبية لنهضة إفريقيا الوسطى، وما أعقبه من تجاوزات ارتكبها مقاتلو سيليكا في منطقة الرئيس السابق العرقية وفي العاصمة بانغي.
وتتكون السيليكا، وتعني التحالف، من مجموعة من المسلحين غالبيتهم من المسلمين وقد انضمت لصفوف القوات النظامية بهدف الإطاحة برئيس الجمهورية آنذاك فرانسوا بوزيزيه، وعزز المرتزقة التشاديون صفوف سيليكا التي لم تكن لها أي هدف آخر سوى الإطاحة بالرئيس فرانسوا بوزيزيه وهو ما حدث في مارس/آذار الماضي 2013.
لم تتمكن القوات الأممية من حفظ السلام في البلاد
تجاوزات سيليكا في بانغي والمحافظات الغربية للبلاد، دفعت العديد من المواطنين إلى تشكيل مجموعات للدفاع الذاتي تسمى “أنتي – بالاكا” لم تلبث أن هاجمت المجموعات المسلمة في المدن الغربية ولم تعد تفرق بين سيليكا وسائر المسلمين، وقد انضم الآلاف من الجنود ممن خدموا في الجيش إبان فترة فرانسوا إلى مقاتلي الـ”أنتي – بالاكا” المسيحيين.
هذه المجموعات بدأت في استهداف عموم المسلمين خاصة التجار في المدن وملاك المواشي الفلان في البوادي، كونهم الطبقة الأغنى في البلاد في وسط فقير، ونظمت عمليات نهب ممنهجة لدكاكين المسلمين في المدن، ولمواشيهم في الأرياف.
ونتج عن هذا، احتلال مجموعة الـ”أنتي – بالاكا” للعديد من المدن، ما أدى إلى حركة نزوح كبيرة، فقد غادر المسلمون الأجانب البلاد، كما نزح مواطنون مسلمون إلى تشاد والكاميرون بمساعدة وكالات الغوث الإنساني، فيما نزح آخرون نحو شرق البلاد، ومن بقي في العاصمة من المسلمين فهم يعيشون محاصرين في بعض الأحياء.
بعد سنتين من هذه الأحداث، تمتعت جمهورية إفريقيا الوسطى بفترة من الهدوء النسبي، لكن التوترات بين العدد المتزايد من المجموعات المسلحة اندلعت مرة أخرى في نهاية سنة 2016، وبات هذا البلد يدور في دوامة من العنف المتجدد، حتى تطوّر النزاع في عامي 2017 و2018 على هيئة هجمات عنيفة في مواقع متعددة.
ما يزيد من فرضيات فشل المفاوضات، أن الصراعات في البلاد لم تكن بين “سيليكا” و”أنتي – بالاكا” فقط، بل أيضًا بين مجموعات عرقية وسياسية أخرى
وتاريخيًا، إفريقيا الوسطي مليئة بالانقلابات وحركات التمرد، ما جعلها على الدوام عرضة لعدم الاستقرار، لكنها المرة الأولى في تاريخ البلاد التي تنزلق فيها إلى دائرة العنف الطائفي، فإفريقيا الوسطى لم تشهد من قبل مواجهات تقوم على أساس ديني، وتعد جمهورية إفريقيا الوسطى إحدى أفقر الدول في العالم وواحدة من الدول الأقل نموًا في العالم، رغم امتلاكها لثروات باطنية كبيرة خاصة من يورانيوم وذهب وماس وفير.
وما زاد من حدة الصراع، البُعد التاريخي لها، فمنذ الاستقلال ظلت دوائر القرار تحت هيمنة الأعراق المسيحية (غبايا، ياكوما، سارا، إلخ)، وجميع الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم البلاد (داكو، بوكاسا، كولينغبا، باتاسي وبوزيزي) كانوا كلهم مسيحيين ولو أن اثنين منهم (بوكاسا وباتاسي) اعتنقا الإسلام تزلفًا، ما أثار حفيظة المسلمين هناك.
ويشكّل السكان المسلمون تاريخيًا أقلية ظلت تهيمن على محافظات الشمال وخاصة فاغاكا التي ظلت يُنظر إليها منذ الاستعمار بوصفها طرف البلاد القصي، وقد مثّل وصول سيليكا إلى السلطة صدمة كسرت قواعد لعبة سياسية كانت تتحكم فيها طبقة سياسية تمثل المجموعات العرقية في غرب البلاد ووسطها وتدور في فلك الحكم العسكري.
فرص النجاح
هذه المفاوضات التي تستضيفها الخرطوم، ليست الأولى، فقد عرفت البلاد التي استقلت عن فرنسا في 13 من أغسطس/آب 1960 العديد من المفاوضات، إلا أن جميعها لم ينجح، فلم ينفّذ أي بنود من الاتفاقيات التي تم التوصل إليها، ما جعل بعض مناطق البلاد تبقى تحت سيطرة سيليكا وبعضها الآخر تحت سيطرة أنتي بالاكا.
ورغم جهود المصالحة ومبادرات إحلال السلام ظلت إفريقيا الوسطى في معاناتها جراء الصراع المتجدد بين الحين والآخر، وتكبدت جراء ذلك الصراع آلاف الضحايا بين قتلى وجرحى، ومئات الآلاف من النازحين والمشردين.
وبعد سنة من بداية الأزمة، بادرت الأمم المتحدة بإرسال قوات متعددة الجنسيات بهدف حفظ السلام والحيلولة دون تردي الأوضاع أكثر مما هي عليه، ولكنّ ذلك لم يمنع استمرار الأزمة، بل وتفاقمها حتى إن قوات حفظ السلام ذاتها صارت مستهدفة من الميليشيات المسلحة.
وسمح التدخل العسكري لفرنسا في ديسمبر/كانون الأول 2013 حتى أكتوبر/تشرين الأول 2016، والأمم المتحدة بانتخاب الرئيس فوستين أركانغ تواديرا وعودة الهدوء إلى العاصمة بانغي، لكن ليس داخل البلاد، حيث تصاعد العنف منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وأودى بحياة الآلاف، كما أدى إلى نزوح أكثر من 650 ألف شخص، وفقًا لبيانات الأمم المتحدة.
نزوح الآلاف نتيجة أعمال العنف المتواصلة
وفي أحدث هجوم، قتل 13 شخصًا بينهم راعي ورجل للدرك، أول أمس الأحد، في قرية زورو سانجو غرب البلاد على أيدي مسلحين يشتبه في كونهم من أعضاء مجموعة مسلحة تدعى حماية “الفولاني”، وقد تم تأسيس هذه الجماعة في غرب البلاد أواخر عام 2015، وفق المتحدث باسم بعثة الأمم المتحدة في وسط إفريقيا (مينوسكا) فلاديمير مونتيرو.
ما يزيد من فرضيات فشل المفاوضات، أن الصراعات في البلاد لم تكن بين “سيليكا” و”أنتي بالاكا” فقط، بل أيضًا بين مجموعات عرقية وسياسية أخرى، فضلاً عن الصراع المعتاد في مثل هذه البلدان الفقيرة في مواردها إلى حد ما على الموارد بين القبائل والطوائف المختلفة، فالجميع يريد الانفراد بالسلطة والاستحواذ على الموارد التي يمتلكها ذلك البلد.
هذا الصراع الداخلي، يتم بين الفينة والأخرى تأجيجه من جهات خارجية، فقد تحولت إفريقيا الوسطى إلى ساحة تتنافس فيها الدول الكبرى، وفي خضم الصراع الذي اندلع وجدت قوى دولية الفرصة مواتية لتحقيق مصالح خاصة بها في هذه المستعمرة الفرنسية السابقة التي تضم موارد طبيعية مهمة كالماس والذهب.