على مر الزمان، كان الخيال أساس التشكيل الفني الجمالي في رؤى الإبداع الصيني، وكان كُتاب الرواية الصينية القديمة يبدعون أعمالهم بذائقة جمالية تتجه صوب إبراز الانسجام بين الإنساني والسماوي، فعلى عكس الثقافة الغربية التي تضع قابيلة بين الإنسان والطبيعة فإن الثقافة والفلسفة الصينية القديمة اهتمت بالدمج بين الإنسان والطبيعة.
وخلال عام 1985 ظهر تيار أدبي جديد في الصين عُرف آنذاك باسم “الفترة الجديدة” وقد حلق هذا التيار بعيدًا عن سرب الالتزام بالوعي الجمالي في الإبداع الروائي وركز على الرؤى الفلسفية الحديثة والتلون الأسطوري مبتعدًا عن القالب الوعظي إلى الخلق الإبداعي المستقل، وكان أشهر رواد هذا التيار هم: ليو سولا وشيو شينغ ومايوان ومو يان، إذ تأثر هؤلاء بالثقافة الغربية وكان ينهلون من معين الدمج بين الوعي الحداثي واستدعاءات الموروث الثقافي القومي.
مراحل تطور الأدب الصيني من كونفوشيوس إلى جائزة نوبل
بدأت بواكير الأدب الصيني منذ أكثر من 3000 عام حيث تجلت حينها في كتابات كونفوشيوس الذي عاش في الفترة الزمنية ما بين عامي 551 و479 قبل الميلاد وأسس الفلسفة الكونفوشية، أما نشأة الرواية الصينية فترجع إلى كتاب مجهولين سطروا الحكايات التاريخية التقليدية وصاغوها في قالب قصصي.
حينما سيطر الحزب الشيوعي الصيني على مقاليد الأمور بقيادة ماوتسي تونج عام 1949م طالب الشيوعيون كتاب الرواية الصينيين بالتركيز على المثل الشيوعية بحيث تكون جميع الآداب في خدمة الدولة الجديدة
بدأت فيما بعد تتضح عوالم الكتابة القصصية في الأدب الصيني وارتكزت على التصورات الخيالية والتيمات الشعبية التقليدية ودمج العيني بالباطني والمادي بالروحي، إذ انتشرت قصص الخوارق والمعجزات في زمن الدويلات الستة (220-589) وروايات العجائبيات في عصر تانغ (618-907) وروايات الوعي الجمالي في عصر تشينغ (1644-1911).
وحينما سيطر الحزب الشيوعي الصيني على مقاليد الأمور بقيادة ماوتسي تونج عام 1949 طالب الشيوعيون كتاب الرواية الصينيين بالتركيز على المثل الشيوعية بحيث تكون جميع الآداب في خدمة الدولة الجديدة، إذ ألزمت السلطة السياسية جميع الأدباء بكتابة أعمال روائية يسهل على الفلاحين والعمال فهمها، كما كان لزامًا أن تجسد هذه الطبقة من العمال والفلاحين بطولة كل الأعمال الروائية، وظل الأدب الصيني يعيش حالة من الانفصال عن العالم وذلك حتى فاز الكاتب الصيني جاو كسينيانج بجائزة نوبل للآداب عام 2000 ثم حصدها الأدب الصيني مرة أخرى عام 2012 وذلك على يد الكاتب مو يان.
أشهر روايات الأدب الصيني
إذا كان هناك ثمة رابط يضم روايات الأدب الصيني فهو البحث عن الجذور متجليًا في ألوان واتجاهات شتى وهو ما حدا بالروائيين في أثناء بحثهم عن قيمة أدبية في أعمالهم أن يصبوا جل اهتمامهم على ما لم تطمسه الأيدولوجيا من الثقافة التقليدية، وهكذا تفتحت آفاق المبدعين على حدود عوالم خيالية أتاحت لهم البحث في جذورهم الموروثة ومع تنامي البحث في أعماق الثقافة التقليدية انفتحت آفاق تأمل الموروثات الثقافية أمام عوالم الكتابة الروائية في الأدب الصيني، وفيما يلي أشهر روايات الأدب الصيني:
روايات بجعات برية: الصين في حكايات نسائه
في أكثر من ستمئة صفحة تحكي لنا الكاتبة الصينية يونغ تشانغ في روايتها الأقرب للسيرة الذاتية قصة حياة ثلاث نساء: يونغ تشانغ جدة الكاتبة التي بيعت لجنرال عسكري لتكون خليلته، حيث مكثت معه أيامًا قليلة قبل أن يذهب ليتابع معاركه العسكري فيما بقيت هي طوال ست سنوات ممنوع عليها الخروج من الشارع وذلك تحت رقابة صارمة من حراس زوجها.
في مقطع من الرواية تقول الكاتبة عن شكل المجتمع تحت الحكم الشيوعي: “أصبح الناس يقومون بتمثيلية يتشابه جميع أفرادها في السلوك والتفكير وكل من يخرج عن هذا التفكير يُعد خائنًا ويستحق التعذيب”
تنتقل الكاتبة بعد ذلك إلى قصة والدتها التي ترعرعت في منشوريا وحين اندلعت الحرب الأهلية بين الكومنتانغ والشيوعيين انضمت للمقاومة السرية وشاركت في حرب الاستقلال إلى جوار مساعدة الذين جاءوا ليقضوا على الظلم والمجاعات التي تسبب بها الرأسماليين الكومنتانغ، ولينشروا قيم العدالة والمساواة، وبعد ذلك تزوجت والدة الكاتبة بشيوعي مثلها وصار الاثنان من علية موظفي النظام الكبار وأنجبوا ابنتهم – كاتبة الرواية – التي أطلقوا عليها اسم يونغ تشانغ تيمنًا باسم جدتها وربوها على تعاليم الثورة الثقافية للقائد الشيوعي ماوتسي تونغ.
ولكن بعد أن وصلت الكاتبة إلى سن المدرسة المتوسطة أدركت أن هناك خطأ ما، ففي الوقت الذي كان فيه أترابها ينضمون للحرس الأحمر ويطبقون تعليمات ماو كانت هي تتساءل لماذا يحرق النظام كتب الأدب الكلاسيكي الصيني ولماذا يحرمون الدراما والمسرح ولماذا ينظرون إلى المقهى على أنه نمط من الحياة البرجوازية السابقة ويجب أن يُمحى.
وفي مقطع من الرواية تقول الكاتبة عن شكل المجتمع تحت الحكم الشيوعي: “أصبح الناس يقومون بتمثيلية يتشابه جميع أفرادها في السلوك والتفكير وكل من يخرج عن هذا التفكير يُعد خائنًا ويستحق التعذيب، أصبح الناس يتجاهلون العقل ويعيشون مع التمثيل”.
رواية حلم الغرفة الحمراء: أفضل الروايات الكلاسيكية الصينية بلا منازع
تعد رواية حلم الغرفة الحمراء للكاتب الصيني تساو شيويه تشين واحدة من الأعمال التي حققت أعلى نسبة مبيعات في تاريخ البشرية، كما أنها تؤرخ وتوثق حياة الصينين خلال فترة أواخر القرن الثامن عشر، وقد نُشرت الرواية عدة مرات ما بين العامين 1754-1791 وباعت أكثر من 100 مليون نسخة حول العالم.
على مدار أكثر من ألف صفحة يغوص القارئ في قصة حب بين البطل باو يو المقبل على الحياة والمحب للهو والصخب وابنة خاله تاي يو التي تعيش معه في نفس الدار وتكبره بعام واحد
وتدور أحداث الرواية بمدينة بكين خلال الفترة الزمنية بين 1729 و1737 في أثناء عهد الأسرة المالكة شينغ وترتكز الرواية على رصد تفاصيل الحياة اليومية لجميع طوائف المجتمع الصيني بداية من الإمبراطور وعائلته والمسؤولين ومرورًا بالأمراء والتجار ورجال الدين وانتهاءً بالفلاحين والخدم، وتستعرض الرواية جميع مراسم الاحتفالات وطقوس الزواج وممارسات العمل وغرس الأزهار وفنون الرقص والغناء.
وعلى مدار أكثر من ألف صفحة يغوص القارئ في قصة حب بين البطل باو يو المقبل على الحياة والمحب للهو والصخب وابنة خاله تاي يو التي تعيش معه في نفس الدار وتكبره بعام واحد، ولكن مثل كل قصص الحب الملحمية تظهر معوقات عدة لقصة الحب وهو ما تجلى في ظهور الفتاة الجميلة باو تشاي الثرية القادمة من بكين مع أقربائها الأثرياء، وفي هذا الوقت تواجه عائلة باو يو عدة كوارث متتالية تقلص من ثروتها المادية وقربها من الإمبراطور ولذلك يجب على باو يو الزواج من الفتاة الثرية لإنقاذ عائلته ولكنه يرفض بشدة ويصمم على الزواج من حبيبته.
وفي يوم الزفاف يكتشف باو يو أن عائلته خدعته، فبعد إتمام إجراءات الزفاف وحينما رفع باو يو الغلالة عن وجه العروس تبين له أنها باو تشاي وعليه فقد حزن حزنًا شديد وسقط مغشيًا عليه وذلك في نفس الوقت الذي ماتت فيه حبيبته تاي يو حزنًا على زواجه من أخرى، وقد كان لمثل تلك الرواية الرائعة أن تنتشر على غرار جميع كلاسيكيات قصص الحب العالمية لولا أنها مغرقة في صينيتها وخاصة فيما يخص علاقات الأسياد بالخدم.
رواية الذرة الرفيعة الحمراء: رائعة نوبل الموغلة في تفاصيل المهمشين
قبل الحديث عن رواية الذرة الرفيعة الحمراء يجب أن نعرج قليلًا على كاتبها العبقري مو يان الذي فاز بجائزة نوبل، كما يجب أن نذكر أن ميراث مو يان من العبقرية يعود إلى طبيعة زمنه وخصوصية مجتمعه حيث كان زمانه يشهد تغييرات عميقة طالت كل شيء في الصين: المجتمع والناس والموروثات الثقافية التي ظلت تتشبث ببقائها وتنبت من جديد في كل يوم، وعلى صفحات روايته الذرة الرفيعة الحمراء ينثر لنا مو يان عوالم الصين على لسان مهمشيها وبسطائها الذين خرجوا من عبودية الإقطاع الفردي إلى عبودية الشيوعية الجماعية وعاشوا حياة بائسة كلما نجوا من مطب وجدوا أنفسهم في منزلق.
يمسك الأب بتلابيب الذاكرة ويحكي عن محاصرة القوات اليابانية لقريتهم وهو بعد طفل في الخامسة من عمره
وتحكي رواية الذرة الرفيعة الحمراء عن عائلة صينية ريفية تملك فرنًا لصناعة النبيذ في قرية دونغ بيي الواقعة في مقاطعة شان دونغ شمال شرق الصين، ومن خلال هذه العائلة نتمكن من التعرف على حكايات وقصص من التاريخ الصيني تمتد عبر ثلاثة أجيال: الجد والأب والطفل، من خلال سرد الجد نطوف عن تاريخ الصين منذ منتصف الثلاثينيات وحتى عام 1945 إذ ترصد صفحات الرواية الغزو الياباني للصين ويحكي لنا الجد عن تاريخ المقاومة والنضال ومشاعر الشعب الصيني التي انتابته وهو يواجه الغزاة اليابانيين.
ثم يمسك الأب بتلابيب الذاكرة ويحكي عن محاصرة القوات اليابانية لقريتهم وهو بعد طفل في الخامسة من عمره ثم يرسم لنا صورة مقربة لعادات وتقاليد القرية وممارساتهم الغرائبية ومن خلال تناول السرد ينتقل الحكي إلى الابن الذي يرى أن مجتمعه لم يتقدم خطوة واحدة إذا ما زال هناك الكثيرون من بني وطنه الذين يعيشون معاناة الجوع والفقر والظلم.