بدخول الصحفي السعودي جمال خاشقجي القنصلية السعودية في 2 من أكتوبر/تشرين الأول 2018، وعدم خروجه منها بسلام، دخلت العلاقات السعودية التركية مرحلةً حساسةً مؤداه الندية الكاملة بين الطرفين.
منذ إفصاح وسائل الإعلام التركية عن جوانب الحادثة التي أدت إلى مقتل خاشقجي بصورةٍ بشعةٍ، حيث تم تقطيع جثته بالمنشار، وفقًا لعدة مصادر متقاطعة، والرياض تتعامل مع نشر هذه التفاصيل ببلادة مشهودة، مُستندةً إلى تحركات دبلوماسيةٍ نشطةٍ تستجدي الدعم الأمريكي، لا سيما دعم شخص الرئيس الأمريكي ترامب، عبر منحه مكاسب سياسية واقتصادية وعسكرية، لدفعه نحو إظهار دعمه لها، وبالتالي الحيلولة دون توجه الدول الأخرى، لا سيما تركيا ذات العلاقة المباشرة، نحو تعريض المملكة العربية السعودية وحكامها لضغوطات دبلوماسية وقانونية.
كما وشمل تحرك ترامب في مُساندة المملكة، رفع مستوى التعاون مع أنقرة في منطقة شرق الفرات، وتحسين العلاقات الاقتصادية معها بعد تدهورها جراء أزمة سجن القس الأمريكي، في سبيل دفع أنقرة نحو تمرير الأزمة دون تصعيد.
لكن ودون الضغط أو الإغراء الأمريكي، وأنقرة تُظهر، منذ اليوم الأول لاندلاع الأزمة، أنها لا ترغب في التصعيد ضد الرياض، أملًا في الحفاظ على مستوى التعاون الاقتصادي الجيد فيما بينهما، وخشية فقدان الرياض مركزيتها الإقليمية لصالح إيران أو الإمارات العربية المُتحدة أو “إسرائيل”، وجميعها أطراف منافسة بشكلٍ حادة لأنقرة، كما تخشى أنقرة من رفع الضغط على الرياض، كيلا تتجه الأخيرة نحو تعكير صفو تحركها، أي تحرك أنقرة، في منطقة شرق الفرات.
تعاملت أنقرة مع الأزمة وفقًا للقسم السادس الذي تُشير مادته رقم 33 إلى التماس أطراف النزاع حله بطريق المفاوضة والتعاون التقني والدبلوماسي
وانطلاقًا من هذه المُحددات، اتضح أن أنقرة تتعامل مع الرياض في أزمة خاشقجي، وفقًا للخطوات التالية:
ـ التعاون التقني الذي يشمل تعاون وزارتي خارجية البلدين وأجهزتهما التحقيقية، لكن عبرت أنقرة، على لسان رئيسها أردوغان، عن امتعاضها من عدم جديّة تعاطي أجهزة الرياض التقنية مع الأزمة، حيث قال أردوغان: “يأتي النائب العام السعودي للتسوق في سوق الحلوى، ويُعرقل التحقيق”.
ـ تعاون المستوى الرفيع: عندما شعرت أنقرة عدم تعامل الرياض بجديّة، اتجهت نحو رفع مستوى خطابها للرياض، ليُرسل الرئيس أردوغان رسالة رفيعة المستوى إلى الملك سلمان، يُشيد به ويثمن دوره كخادمٍ للحرمين، ويدعوه إلى بذل جهودٍ حقيقيةٍ في التوصل إلى حل فعلي وجذري للأزمة، وفي الحقيقة، كان الحل الجذري بالنسبة لأنقرة يعني حفظ هيبتها الدبلوماسية التي أُهدرت نتيجة استخدام إقليمها الجغرافي في الجريمة، من خلال إجراء تحقيقات فعلية تُحاسب المسؤولين والمُنفذين للجريمة.
ـ تدويل القضية: تعاملت أنقرة مع الأزمة وفقًا للقسم السادس الذي تُشير مادته رقم 33 إلى التماس أطراف النزاع حله بطريق المفاوضة والتعاون التقني والدبلوماسي، وفي حال لم يتم تحقيق النجاح المطلوب، يُتوجه إلى الوساطة الدولية، وتعني الوساطة الدولية خروج القضية من التعاون الثنائي بين أنقرة والرياض، إلى أروقة دول تلعب دور الوسيط، أو إلى بعثات تعيّنها الأمم المتحدة لإجراء تحقيق دولي.
واشنطن تطمح في الضغط على الرياض لإبقاء أسعار النفط منخفضة، ولدفعها نحو تمويل خططها في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما تلك المُتعلقة بمنطقة شرق الفرات
قد يُقال إن واشنطن حاولت لعب دور الوسيط، لكن الحقيقة أن واشنطن لم تؤدِ هذا الدور، ولم تعرض ذاتها رسميًا على أنقرة لحل هذا الأمر، وإنما اتجهت نحو تحديد “ثمن” تمريرها للقضية دون تصعيد ضدها، وهذا ما قد يجعل أنقرة تُرجح تطبيق المادة 37 من القسم السادس لميثاق الأمم المتحدة، التي تُشير إلى أنه “في حال أخفقت الدول التي يقوم بينها نزاع بالوسائل المبينة في المادة 33، وجب عليها أن تعرضه على مجلس الأمن”، وهذا ما يُوضح معنى “تدويل القضية”، أي نقل القضية إلى أروقة مجلس الأمن الذي “يُوصي بما يراه ملائمًا من شروط حل النزاع”.
من ناحية تحليلية، تجدر الإشارة إلى أن عضوين من أعضاء مجلس الأمن الدائمين، هما الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، قد يستخدمان حق النقد “الفيتو” ضد أي مُقترح قد يُعرض الرياض لموقفٍ شديد الإحراج أو عقوباتٍ شديدة، لكنه قد يُساند، اتباعًا لرغبة موسكو وواشنطن، على الأرجح، في موازنة موقفهما حيال أنقرة أيضًا، في إجراء تحقيق دولي يُوصل الأزمة إلى نتائج نهائية تُبيّن دور الضالعين الفعليين، وتُخضعهما للمحاكمة الوطنية السعودية أو الدولية، وبطبيعة الحال، قد لا يروق لواشنطن وموسكو أن يطال التحقيق أو العقوبات ولي العهد محمد بن سلمان.
وعن خلفيات الموقفين الأمريكي والروسي وأسباب دعمهما الواسع للرياض، يُشار إلى أن واشنطن تطمح في الضغط على الرياض لإبقاء أسعار النفط منخفضة، ولدفعها نحو تمويل خططها في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما تلك المتعلقة بمنطقة شرق الفرات، ولرفع مستوى صادراتها من السلاح للرياض وفقًا للشروط التي تطمح بها دون أن تؤتي الرياض على اعتراض.
أما فيما يتعلق بالموقف الروسي، فإن الدعم الروسي، في الغالب، ينبع من الرغبة في مواجهة سياسة الابتزاز الغربية التي اُستخدمت ضدها من قبل، حيث تريد موسكو تأطير العقوبات التي فُرضت عليها جراء اغتيالها الجاسوس الروسي سيرغيي سكريبال وابنته على الأراضي البريطانية، بوصفها “سياسات ابتزاز” تُمارس من الغرب ضدها دون وجه حق ورفع لواء التكاتف الإقليمي ضدها.
كما أن انخفاض أسعار النفط يضر الاقتصاد الروسي الذي يعتمد بمعدلات كبيرة على النفط، لذا تستجدي موسكو، من خلال موقفها الداعم للرياض، إحراز تكاتف إقليمي آخر يحافظ على أسعار النفط من الانهيار الكبير.
قد تكتفي أنقرة بتحقيق دولي يُضفي صبغة قانونية دولية على تفاصيل الأزمة، كي تناور بالتلويح باستخدامه في المحاكم الدولية، بهدف الحصول على مبتغاها
ـ التوجه إلى المحاكم الدولية: كمرحلة أخيرة لمسار الأزمة بين الطرفين، يُشار في إطار المادة 33، إلى أن السبيل الأخير أمام أنقرة في حال لم تستطع الحصول على ما ترنو إليه جراء تدويل القضية، الذهاب إلى محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية.
في الختام، الإرادة السياسية لأنقرة أظهرت عدم الرغبة في التصعيد من موقفها ضد الرياض جراء أزمة خاشقجي، لذا يبدو أن هدفها من تدويل القضية ليس إنزال العقوبات على الرياض، بقدر ما هو إحراجها وإحراج داعميها لتقدير موقفها الدبلوماسي أمام الرأي العام المحلي والدولي، وقد تكتفي بتحقيق دولي يُضفي صبغة قانونية دولية على تفاصيل الأزمة، كي تناور بالتلويح باستخدامه في المحاكم الدولية، بهدف الحصول على مبتغاها.
وفي حال أظهرت الرياض أو واشنطن تحركًا استباقيًا تجاه ما تصبو إليه أنقرة، قد لا تضطر الأخيرة لتدويل القضية أصلًا، فالظاهر انعدام الرغبة لدى أنقرة في تدويل القضية التي بات عمرها يبلغ 4 شهور، كما أن الإرادة السياسية الروسية والأمريكية قد تحول دون توجه أنقرة تجاه ذلك، وتوفر فرصة للتفاوض الجاد بين الطرفين.