حالة من الجدل أثارها قانون حظر الذبح الحلال بالإقليم الفلامندي في بلجيكا بعد دخوله حيز التنفيذ مطلع العام الحاليّ بين أوساط المسلمين واليهود على حد سواء، لتنضم بذلك إلى كل من السويد وسويسرا والنرويج وآيسلندا والدنمارك وسلوفينيا.
القانون أثار حفيظة المجتمعين المسلم واليهودي اللذين يشكلان 6% من إجمالي عدد سكان بلجيكا، حيث اعتبروه تقييدًا للحريات وعدم احترام الخصوصية الدينية والثقافية لمنتسبي الديانتين، فيما يعتبره اليمينيون المتطرفون في أوروبا رحمة بالحيوان الذي يرون أن ذبحه دون صعق أو تخدير، يجعله يشعر بالألم وهذه العملية فيها انتهاك لحقوقه.
القانون وإن لن يطبق بشكل كامل إلا في سبتمبر القادم، بعد المصادقة عليه من برلمان الإقليم الفلامندي، إلا أن الموافقة عليه بشكل نهائي كانت مثار تساؤلات بين المسلمين المقيمين داخل بلجيكا على وجه الخصوص، فهل تأتي هذه الخطوة في إطار تضييق الخناق على المسلمين هناك والبالغ عددهم قرابة 630 ألف نسمة، بحسب ما ألمح البعض في ظل تنامي نفوذ اليمين المتطرف في أوروبا أم أنها مجرد محاولة للدفاع عن حقوق الحيوان؟
تضييق الخناق على المسلمين
استنكار شديد قوبل به القرار بعد تمريره برلمانيًا، حيث ذهب البعض إلى أنه يأتي انعكاسًا لتعامل السلطات البلجيكية مع الجالية المسلمة، وهو ما أشار إليه محمد أستون رئيس الهيئة التنفيذية لمسلمي بلجيكا، بقوله: “الحكومة خيبت آمال الجميع عندما وافقت على الحظر”، مضيفًا في تصريحات لـ”الأناضول“: “سيكون للحظر تداعيات معينة، على سبيل المثال نحن المسلمين سنواجه صعوبات خلال ذبح الأضاحي”.
أما صالح أوزدمير مواطن بلجيكي من أصل تركي، فعلق بأنه غير راضٍ عن القرار الذي وصفه بأنه “يضيق على المسلمين في بلجيكا”، مؤكدًا أن من حق المسلمين المطالبة بإلغاء القرار من خلال القنوات الرسمية، وعلى رأسها البرلمان البلجيكي، وتابع: القرار يعتبر انتهاكًا لحقوق الإنسان، وأن العيش المشترك يتطلب إلغاء هذا القرار الذي يتجاهل شرائح مهمة في المجتمع”.
الأعوام الخمس الأخيرة شهدت اتساعًا كبيرًا لرقعة اليمين المتطرف في معظم أوروبا، تصاعد ذلك مع زيادة أعداد اللاجئين والمهاجرين العرب والمسلمين في أعقاب ثورات الربيع العربي
فيما أرجع أحمد عثمان الباحث الهولندي من أصل مصري، القرار البلجيكي بأنه استجابة لضغوط اليمين المتطرف الذي يتنامى نفوذه بشكل كبير يومًا تلو الآخر، كاشفًا أن قرار كهذا سيكون له ارتدادات عكسية ليس على النسيج المجتمعي البلجيكي فحسب بل على الجانب الاقتصادي والأمني كذلك.
وأضاف عثمان لـ”نون بوست” أن الأعوام الخمس الأخيرة شهدت اتساعًا كبيرًا لرقعة اليمين المتطرف في معظم أوروبا، تصاعد ذلك مع زيادة أعداد اللاجئين والمهاجرين العرب والمسلمين في أعقاب ثورات الربيع العربي، موضحًا أن بلجيكا ليست الدولة الوحيدة التي اتخذت هذا القرار، فهناك قرابة 10 دول في أوروبا حظرت الذبح على الشريعة الإسلامية.
وطالب الباحث الهولندي بضرورة أن يكون للمسلمين رد على مثل هذه الإجراءات خاصة أن القوانين المعمول بها في دول المسلمين لا تمنع أصحاب الديانات الأخرى من ممارسة طقوسهم الغذائية والدينية والمجتعمية هذا بخلاف امتلاك الأنظمة المسلمة للعديد من أوراق الضغط على الدول الأوروبية.
الرفض لقرار منع الذبح الحلال لم يتوقف عند المسلمين وفقط، فهناك اليهود أيضًا، فحسب الشعائر الدينية اليهودية فإن الذبح لا بد أن يكون بطريقة معينة هي ذاتها في الإسلام، وتسمى لدى المسلمين بـ”الحلال” فيما تسمى لدى اليهود بـ”كوشر”.
شمعون لاسكر حاخام يهودي في بروكسل، علق على القرار بقوله إن الحظر ينظر إليه على أنه تقييد للحرية الدينية، مضيفًا “يعتقد اليهود أنه بات من الصعب عليهم العيش في أوروبا”، فيما دعا المجتمعين المسلم واليهودي في أوروبا إلى العمل معًا ضد تقييد الحريات الدينية الموجهة ضدهم.
دعوات لتحجيم نفوذ الحزب الإسلامي في بلجيكا
المسلمون في بلجيكا
اهتمام كبير تبديه وسائل الإعلام البلجيكية بالإسلام والمسلمين لديها مقارنة بغيره من الديانات الأخرى، وهو ما أكد عليه التقرير الثالث لمرصد الأديان والعلمانية التابع للجامعة الحرة في بروكسل، ويستقصي وضع الأديان والعلمانية في بلجيكا.
“الاهتمام بالإسلام ينمو بسبب القلق من الإرهاب، خاصة أن انضمام كثير من الشباب لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، والهجوم على المتحف اليهودي في بروكسل 2014، أديا إلى زيادة التخوف من الأصولية الإسلامية”، بحسب التقرير الذي يصدر سنويًا، فيما شددت الباحثة كارولين ساجيسير – التي ساهمت في إعداد التقرير – على أن تركيز اهتمام وسائل الإعلام على تنظيم الدولة الإسلامية يمكن أن يسهم في نسيان أن العالم الإسلامي متنوع للغاية، ولا يمكن اختزاله في تنظيم فكري أو سياسي واحد على عكس ما تبرزه الصحف البلجيكية.
وحسب تقرير المرصد، تلقى المركز الحكومي لمكافحة التمييز 4627 شكوى متعلقة بالتمييز ضد مسلمين خلال عام 2015، وفتح 1670 ملفًا للتحقيق، وهي نسبة أعلى بكثير مقارنة مع السنوات السابقة.
زعماء “حزب الإسلام” ينوون تحويل بلجيكا إلى دولة إسلامية يسمونها “الديموقراطية الإسلامية”، وقد حدَّدوا التاريخ المستهدف لقيامها بالفعل: إنَّه عام 2030
علاوة على ذلك فقد أثارت تصريحات الحزب الإسلامي في بلجيكا قلق المواطنين البلجيكيين خلال الآونة الأخيرة من تحول بلادهم إلى دولة إسلامية، ومن ثم وجد اليمين المتطرف في مثل هذه التصريحات فرصة سانحة لتعزيز نفوذه على حساب الإسلاميين وهو ما كان بالفعل.
في 2012 نقلت قناة “أر تي بي إف” التليفزيونية البلجيكية عن رضوان عروش مستشار المجلس المحلي المنتخب في دائرة مدينة أندرلخت البلجيكية قوله: “نختار اليوم تكتيكًا آخر، حيث يجب أن نتعامل بادئ الأمر مع المواطنين ونوضح لهم بهدوء المنفعة من انتخاب المسؤولين الإسلاميين وتبني القوانين الإسلامية، فلم لا؟ ألا يمكن الانتقال إلى دولة إسلامية في بلجيكا بطريقة طبيعية؟”.
فيما أشار معهد جيتستون للسياسة الدولية في تقرير له العام الماضي إلى أن زعماء “حزب الإسلام” ينوون تحويل بلجيكا إلى دولة إسلامية يسمونها “الديموقراطية الإسلامية”، وقد حدَّدوا التاريخ المستهدف لقيامها بالفعل: إنَّه عام 2030، كاشفًا أن برنامج الحزب بسيط إلى حد مربك: الاستعاضة عن جميع القوانين المدنية والجنائية بأحكام الشريعة الإسلامية، انتهى البرنامج.
التقرير أشار إلى أن إنَّ قرابة ثلث سكان بروكسل مسلمون بالفعل، كما يوضح أوليفييه سيرفيه أستاذ العلوم الاجتماعية بالجامعة الكاثوليكية في لوفان، ونظرًا لارتفاع معدل الخصوبة لدى أتباع الدين الإسلامي، فسيصبحون الأغلبية في غضون 15 أو 20 عامًا، ومنذ عام 2001 يُعدُّ اسم “محمد” هو الاسم الأكثر شيوعًا للأولاد المولودين في بروكسل.
معد التقرير جوليو ميوتى المحرر الثقافي لمجلة “إل فوليو” حذر من تنامي النفوذ الإسلامي في بلجيكا داعيًا الأحزاب العلمانية إلى التصدي له بدعوى أن الحزب يعزف على أوتار التطرف وتهديد أمن واستقرار الدولة خاصة بعد النجاحات التي حققها خلال الانتخابات الأخيرة، مختتمًا تقريره بتساؤل: فهل حان الوقت يا ترى كي تستيقظ بلجيكا النائمة؟
دراسة حديثة أخرى نشرتها وكالة الأنباء الإسلامية الدولية (إينا)، توقعت أن يصل نمو سوق المنتجات الحلال إلى 10 تريليونات دولار في 2030، حيث تشهد نموًا قويًا بمقدار 500 مليار دولار سنويًا
اليمين المتطرف في أوروبا
حقق اليمين المتطرف في أوروبا خلال الأعوام الخمس الأخيرة على وجه التحديد مكاسب سياسية غير مسبوقة، وصفت بالتاريخية، تعززت بشكل كبير مع نتائج استفتاء البريكست يونيو 2016 في بريطانيا، وفوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وهي الخطوة التي فتحت الباب أمام هذا التيار نحو سحب البساط من تحت أقدام اليمين واليمين الوسط والمحافظين.
ففي هولندا حل حزب الحرية بزعامة خيرت فيلدرز في مارس 2017 ثانيًا، ليصبح القوة الأكبر في البرلمان الهولندي خلف الليبراليين بـ20 مقعدًا من أصل المقاعد الـ150، مضيفًا إلى رصيده خمسة نواب، فيما تأهلت رئيسة الجبهة الوطنية مارين لوبان للجولة الثانية في الانتخابات الفرنسية العام الماضي، وكانت الصدمة الأخرى في الانتخابات التشريعية الألمانية في سبتمبر 2018 مع اختراق غير مسبوق حققه حزب بديل لألمانيا ودخوله البوندستاغ مع 12.6% من الأصوات، مقابل 4.7% قبل أربع سنوات.
أما في النمسا فقد أنهى حزب الحرية النمساوي، الأقدم بين حركات الأسرة اليمينية الأوروبية، الموسم الانتخابي مقتربًا من سجله القياسي يوم 15 من أكتوبر الماضي مع 26% من الأصوات، ونجح في الوصول إلى الحكم ضمن ائتلاف مع حزب المحافظين النمساوي.
وفي بلجيكا كذلك حققت أحزاب اليمين المتطرف بها وعلى رأسها حزبي “فلامس بلانغ” و”حزب الخضر” وكلاهما في صفوف المعارضة نجاحات عدة في عدد من المجالات، عزاها فيليب ديوينتر زعيم بلانغ إلى تفاقم مشاكل الهجرة والمسلمين خلال السنوات القليلة الماضية.
تزايد لسوق المنتجات الحلال خلال السنوات الماضية
10 تريليونات دولار قيمة سوق الحلال في 2030
القرار البلجيكي رغم أبعاده السياسية وحتى الحقوقية إن تم التسليم بدعاوى انتهاك حقوق الحيوان، فإن له تداعيات مؤثرة على الاقتصاد البلجيكي والعالمي بصورة كبيرة، في ظل النمو الكبير لسوق المنتجات الحلال في العالم خلال السنوات الماضية التي قدر حجم الإنفاق الإجمالي عليها في 2017 بنحو 4 تريليونات و600 مليار دولار، ومن المتوقع أن يرتفع حجم الإنفاق في 2023 بنسبة 50% أي ما يعادل 6 تريليونات و800 مليار دولار، بحسب تقرير لمجموعة “CNBC” الإعلامية الأمريكية.
معروف أن المنتجات الحلال المتوافقة مع الشريعة الإسلامية لا ينحصر رواجها بالدول ذات الغالبية المسلمة، فتلك المنتجات باتت تشهد إقبالاً واسعًا من أتباع الديانات كافة، كما أنها لا تقتصر على الأطعمة وفقط، فهناك عشرات المنتجات المدرجة تحت هذا المسمى، وأصبحت تشكل 3.7% من إجمالي حجم الاقتصاد العالمي.
ووفق ذات الأرقام فإن الإنفاق على قطاع الأغذية الحلال بـ2017، بلغ قيمته تريليون و303 مليارات دولار، وسيصل هذا الرقم إلى تريليون و863 مليار دولار في العام 2023، فيما بلغ حجم الأزياء المتوافقة مع التوجه الإسلامي العام الماضي 270 مليار دولار، ومن المتوقع أن يرتفع في العام 2023 إلى 361 مليارًا، أما المعاملات المالية الحلال فبلغ حجمها في 2017، قرابة تريليونين و438 مليار دولار، وسيصل هذا الرقم في 2023 إلى 3 تريليونات و809 مليارات دولار.
فيما بلغ إجمالي الإنفاق على قطاع السياحة الحلال (لا تقدم مشروبات أو أطعمة محرمة) 177 مليار دولار ومن المحتمل أن يصل حجم الإنفاق عليه إلى ما يزيد على 274 مليار دولار في 2023، بينما بلغ الإنفاق على قطاع الإعلام والترفيه الإسلامي 209 مليارات دولار، ومن المتوقع أن يرتفع الرقم إلى 288 مليار دولار سنة 2023.
العديد من التقارير تشير إلى أن قطاع سوق الحلال العالمي سيزيد بشكل كبير خلال السنوات القادمة، ففي دراسة حديثة أخرى نشرتها وكالة الأنباء الإسلامية الدولية (إينا)، توقعت أن يصل نمو هذا السوق إلى 10 تريليونات دولار في 2030، حيث يشهد نموًا قويًا بمقدر 500 مليار دولار سنويًا.
وبعيدًا عما يتعرض له المسلمون والمهاجرون العرب من تضييق للخناق خلال السنوات الأخيرة وسط دعوات بغلق الحدود أمام الكثير منهم هاهم يواجهون أزمة جديدة وإن حملت أشكالاً ومظاهر مختلفة، ليواصل المنتسبون للدين الإسلامي مسيرة الهجوم المضاد من قوى اليمين المتطرف دون توقع لما يمكن أن تسفر عنه هذه الحملة مستقبلاً وإن أبدى البعض تخوفه من تداعياتها.