عندما نفكر عادةً في الصين، فإن كرة القدم ليست واحدة من الأمور التي قد تمر ببالنا، ولكن إذا نظرنا مجددًا إلى أهدافها في قيادة العالم والهيمنة عليه اقتصاديًا في مختلف القطاعات والصناعات، فسنجد أن طموحاتها المدفوعة بالكثير من الحماس الشعبي والاهتمام الحكومي الممول والمدروس تجاوزت بالفعل حدود المستطيل الأخضر واستحوذت على مساحات واسعة منه.
فعلى الرغم من أن المنتخب المحلي لا يتمتع بشعبية كبيرة في الوسط العالمي، إلا إنه من أكثر المنتخبات حضورًا في آسيا في الوقت الحاليّ، كما أنه من أهم شواغل الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي قرر منذ عام 2008 – بعد أن نجحت بلاده في تنظيم الألعاب الأولمبية آنذاك – أن يسرق الأضواء في عالم الكرة القدم من الأندية الأوروبية الكبرى، فهل تستطيع الصين الوصول إلى مستوى أوروبا في كرة القدم أم أنها طموحة أكثر مما ينبغي؟
الثورة الرياضية على رأس قائمة أولويات الحكومة الصينية
لطالما كانت رياضة كرة القدم جزءًا راسخًا في الثقافة والمجتمع الصيني لأكثر من ألفي سنة، فقد حصدت مجدها قديمًا في عهد أسرة سونغ – إحدى السلالات الحاكمة في التاريخ الصيني – من تاريخ 960 إلى 1279، وكانت تُلعب بقواعد مختلفة كجزء من حفلات الأثرياء والأباطرة في ذاك الوقت، وتم تسميتها بـ”تسوجيوي”، وتعني حرفيًا ركل الكرة.
تشكل كرة القدم أكثر من 40% من أرباح قطاع الرياضة، وأي تجاهل لهذا المجال يعني أن الدولة تنازلت عن ملايين الدولارات للدول الأخرى ولذلك أصبحت هذه اللعبة شغفًا جديدًا بالنسبة للصين
هذه الحقيقة التاريخية دفعت بعض المؤرخين إلى التأكيد على أصول كرة القدم الصينية، فعندما استضافت إنجلترا البطولة الأوروبية قبل 20 عامًا، كان الفريق المحلي ينشد متحمسًا “كرة القدم قادمة إلى الوطن، كرة القدم عائدة للوطن”، لكن هذه الأصوات المرتفعة لم تستطع أن تلغي ما قاله مدير المتحف الوطني لكرة القدم كيفن مور، بأن إنجلترا مسقط رأس لعبة كرة القدم كما عرفناها بشكلها الحديث، لكن أصلها يعود إلى الصين.
وبعيدًا عن التاريخ والثقافة، فإن كرة القدم أكثر الألعاب الرياضية شعبيةً في العالم، حيث تشكل أكثر من 40% من أرباح قطاع الرياضة، وأي تجاهل لهذه اللعبة يعني أن الصين تنازلت عن ملايين الدولارات للدول الأخرى ولذلك أصبحت كرة القدم شغفًا جديدًا للرئيس الصيني وسبيلًا جديدًا للصين نحو الهيمنة العالمية، اقتصاديًا وسياسيًا، ولذلك لا تتوقف الصين عن افتتاح آلاف مدارس كرة القدم التي من المفترض أن يصل عددها إلى 50 ألف مدرسة بحلول عام 2025.
إذ يرى البروفيسور آرون سميث وجيمس سكينر من معهد الأعمال الرياضية في لندن أنه على مدى الـ30 سنة الماضية وبينما كانت الصين لا تزال تحاول الدخول إلى الأسواق التجارية الخارجية، لم تكن الحكومة الصينية تسعى بعد لاستغلال القيمة الاقتصادية والسياسية للقطاع الرياضي، ولكنها شجعت على الاستثمار فيه لأول مرة في عام 2010.
تسعى الصين إلى زيادة قيمة القطاع الرياضي من نحو 50 مليار دولار إلى 800 مليار دولار بحلول عام 2026
ولم تبدأ الجهود الفعلية سوى عام 2014، عندما أصدر الرئيس الصيني بينغ، وهو من كبار مشجعي كرة القدم، خريطة طريق من أجل دفع الصين لتصبح قوة عالمية في كرة القدم، بالجانب إلى مجلس الدولة الذي أصدر وثيقة بعنوان “آراء مجلس الدولة لجمهورية الصين الشعبية للتعجيل بتنمية صناعة الرياضة وتشجيع الاستهلاك الرياضي”، ومنذ ذاك الحين أصبحت الرياضة إستراتيجية وطنية تهدف إلى زيادة النمو الاقتصادي والثقل السياسي الصيني في المجتمع الدولي.
فقد أوصت خطة الصين الخمسية الثالثة عشرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية (2016-2020)، بأن تشكل صناعة الرياضة 1% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2020، مع زيادة حجمها من نحو 50 مليار دولار إلى 800 مليار دولار بحلول عام 2026، ما يعني أن الطموح الصيني يسعى لامتلاك 80% من إجمالي هذه الصناعة التي قدر حجمها بنحو تريليون دولار لعام 2014 في غضون 10 سنوات.
ولكن بالنظر إلى عام 2008 عندما كان متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أكثر بقليل من 3 آلاف دولار أمريكي بينما أصبح هذا الرقم أكثر من 7000 دولار أمريكي قبل عامين بالتزامن مع نمو الطبقة المتوسطة بمعدل 2 إلى 3% سنويًا، يعني أن القدرة الشرائية قد ارتفعت وبالتالي قد تزيد معدلات الإنفاق تدريجيًا على المنتجات الرياضية بالتعاون مع إستراتيجيات التسويق الفعالة.
وعلى الرغم من بعض النكسات، تقدمت صناعة الرياضة في العامين الماضيين بمعدل بلغ 16%سنويًا، ما جعل الصين أكبر مورد في العالم لمعدات السلع الرياضية، وجدير بالإشارة أن الصين اكتسحت مجال الرعاية الرياضية أيضًا وقدرت أرباحها في هذا المجال بنحو ملياري دولار أمريكي سنويًا إلى أن قفز هذا الرقم قفزة نوعية عام 2017 ووصل إلى 18 مليار دولار ما أثبت نجاح الصين في إدارة وتسويق الأنشطة والمنتجات الرياضية.
لماذا اشترت الصين مجموعة من أندية كرة القدم الأوروبية؟
تتبع الصين سياسة أكثر عمقًا وجذريةً من بناء الملاعب والنوادي، فبحسب التقارير، ضخ المستثمرون الصينيون أكثر من 2.5 مليار دولار في أندية أوروبية من عام 2014 حتى عام 2017 واكتسبوا عملاقين مثل ميلانو وإنتر ميلان بالإضافة إلى فرق صغيرة من بينها فريق نورثامبتون بدوري الدرجة الثانية الإنجليزي وفريق سوشو بدوري الدرجة الثانية الفرنسي.
فضلًا عن إنفاقها لملايين إضافية على انتقال لاعبين دوليين إلى أنديتها المحلية ومن أهمهم أليكس تيكسيرا وجاكسون مارتينيز وراميريس وذلك ضمن خطة الصين في الحصول على كأس العالم خلال 15 سنة، وتبعًا للقول المأثور: “إذا كنت تريد أن تكون الأفضل، عليك اللعب مع الأفضل”، فمن المتوقع أن تساعد هذه الإستراتيجية في جذب المعجبين للقدوم لرؤية اللاعبين ومساعدة اللاعبين الصينيين على تحسين مهاراتهم من خلال اللعب مع أولئك الذين لديهم خبرة تنافسية في البطولات الدولية.
علمًا أن الصين لم تتأهل لنهائيات كأس العالم سوى مرة واحدة عام 2002 وتحتل حاليًّا المركز الـ82 في تصنيف الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) بين منتخبات العالم، إلا أن الرئيس الصيني أعلن عام 2011 أن لديه 3 أمنيات شخصية وهي تأهل الصين لنهائيات كأس العالم واستضافتها للحدث والفوز بالكأس.
تسعى الصين إلى تقليد الولايات المتحدة الأمريكية واليابان، فالأولى معروفة بإنشائها مدارس لتدريب الأطفال والناشئين على لعب كرة القدم، والثانية تأهلت لنهائيات كأس العالم لأكثر من 5 مرات
ولذلك يعد الرئيس الصيني واحدًا من المحركات الرئيسية التي تدفع الصين إلى السعي خلف الظهور بشكلٍ قوي في الساحة الدولية في كرة القدم، إذ أشار إلى ذلك الأستاذ في كلية إدارة الأعمال في جامعة كوفنتري سيمون تشادويك حين قال إن الصين تريد أن تكون مسيطرة وناجحة في كل شيء تقوم به، والشيء الذي لا يجيدونه حاليًّا هو اللعبة العالمية، كرة القدم، ولذلك تركز جهودها عليها حتى ترتقي إلى مركز تنال فيه احترامًا عالميًا كجزء من المجتمع الدولي لكرة القدم.
يضاف إلى ذلك، رغبة الصين الدائمة في تقليد الولايات المتحدة الأمريكية واليابان، فالأولى معروفة بإنشائها مدارس لتدريب الأطفال والناشئين على لعب كرة القدم والتحسين من قدراتهم، والثانية بسبب تأهل المنتخب الياباني لنهائيات كأس العالم منذ عام 2008 لأكثر من 5 مرات على التوالي، ولا شك أن امتلاكها للأندية واللاعبين الدوليين سوف يساعدها على خطى خطوات واثقة نحو هذا الهدف.
بالإضافة إلى غايات الهيمنة والسيطرة، يرى بعض المراقبين أن هذه الخطوات الملموسة لن تمنح الصين ثقلاً دوليًا فقط، بل ستهديها أيضًا صوتًا قويًا ومنفردًا داخل الاتحاد الأوروبي لكرة القدم فيما يخص قرارات التنظيم المستقبلية، وهذا كله يصب في عائداتها الاقتصادية، إذ يتطلع المستثمرون في هذه الأندية وغيرها من الرياضات إلى جلب هذه الأحداث والمهرجانات الرياضية إلى الصين بالتدريج.