يعلم المدقق في الشأن الفلسطيني، لا سيما سياسات ومواقف حركة المقاومة الإسلامية حماس، أن الحركة، بذراعيها السياسي والعسكري، تولي اهتمامًا نوعيًا لملف الأسرى، وتعتبره دينًا يوفى بالعمل الدائم على الإفراج عنهم وتحرير إرادتهم المسلوبة في سجون الاحتلال، ولا تفوت الحركة مناسبةً إلا وتعبر من خلالها عن التزامها تجاه هذا الملف.
وتعتمد الحركة في سبيل العمل على تحرير الأسرى الفلسطينيين على إستراتيجية اختطاف جنود الجيش الإسرائيلي من جهة، واحتجاز من يتسلل أو يتسكع أو يخطئ الطريق إلى غزة من المدنيين من جهة أخرى، لتفاوض عليهم الاحتلال الإسرائيلي لعقد صفقات تبادل وتحرير، عبر مفاوضات غير مباشرة ووساطاتٍ دولية، وقد كانت صفقة “وفاء الأحرار” أكتوبر/تشرين الأول عام 2011 التي عقدت برعاية المخابرات المصرية وبعض الوسطاء الدوليين، وأفرج بموجبها عن 1024أسيرًا فلسطينيًا، مقابل إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، أبرز تجليات هذا الالتزام.
بينما تنظر”إسرائيل” إلى إمكانية حركة حماس الدائمة لاختطاف وأسر جنودٍ من جيشها باعتباره هاجسًا دائمًا يقوض حرية حركة الجيش الإسرائيلي، إذ لا يقتصر الأمر حينئذ على خطر اختطاف جنود من معركة برية قد يخوضها الجيش في غزة مضطرًا، وإنما يمكن لأي خطأ أمني عابر أن يكون سببًا في عملية أسر محتملة، كما حدث مع شاليط، خاصة في ظل شبكة الأنفاق المجهزة والممتدة داخل الحدود الإسرائيلية المتاخمة للقطاع، وفي ظل التمركز الدائم لوحدات عسكرية إسرائيلية بمحاذاة الحدود مع غزة بطبيعة الحال.
قد تضطر “إسرائيل”، تحت هذه الضغوط، إلى خوض معارك جوية مع حماس، كما حدث في حرب 2008، التي قد تتطور لاحقًا إلى معركة برية، تفقد “إسرائيل” بمقتضاها جنودًا آخرين
كما أن تجربة أسر جلعاد شاليط قد علّمت القيادات السياسية والأمنية في “إسرائيل” أن أسيرًا واحدًا لدى حركة حماس قد يكلف الجبهة الداخلية في “إسرائيل” خسائر إستراتيجية كثيرة ومعقدة لا تقف عند حد الرضوخ إلى حماس – التي تعتبرها منظمة إرهابية – والتفاوض غير المباشر معها والإفراج عن مئات المعتقلين، وإنما يتحول الملف إلى أداة ابتزاز سياسي من جهة المعارضة التي تتهم السلطة الحاكمة – سلطة نتنياهو – بالتقصير عند فقد أي من جنوده، وبالخضوع عند التفاوض مع حماس، فيصبح نتنياهو مدانًا في كل الأحوال، كما يمثل أسر الجنود الإسرائيليين في غزة صداعًا في رأس السلطة، عبر تنظيم المظاهرات وإقامة الندوات والضغط على الحكومة لتتصرف وتحل الأمر.
وقد تضطر “إسرائيل”، تحت هذه الضغوط، إلى خوض معارك جوية مع حماس، كما حدث في حرب 2008، التي قد تتطور لاحقًا إلى معركة برية، تفقد “إسرائيل” بمقتضاها جنودًا آخرين، لتجد نفسها في حلقة مفرغة لا نهاية لها، حتى إن الجيش الإسرائيلي يقر ما يعرف بـ”إجراء هانيبعل” الذي يسمح للجيش بفتح النار عشوائيًا إذا ما وصلته معلوماتٌ عن أسر أحد عناصره، حتى لو كان الثمن مقتل هذا العنصر، فالمهم ألا يقع أسيرًا في قبضة المقاومة، وهو ما حدث مع جولدن هدار الضابط الذي أعلنت كتائب القسام عن أسره في أغسطس/آب 2014 إبان التوغل البري للجيش الإسرائيلي داخل غزة صيف هذا العام.
وتؤكد كتائب القسام أن “إسرائيل” خرجت من غزة بعد حرب “العصف المأكول – الجرف الصامد” يوليو/تموز 2014 تاركةً خلفها عنصرين من عناصرها العسكرية، هما: الجندي شاؤول آرون والضابط وجولدن هدار، إلى جانب اثنين من غير العسكريين جرى أسرهم في ظروف مختلفة.
وقد شهدت الأيام القليلة الماضية حراكًا واسعًا في “إسرائيل” بشأن هذا الملف، الأمر الذي اعتبره محللون مؤشرًا على رغبة نتنياهو في إنهاء هذا الملف لاعتبارات سياسية، قبل الانتخابات البرلمانية التي يتوقع أن تجرى في أبريل/نيسان 2019.
عائلة جولدن هدار
تعتبر عائلة الضابط الإسرائيلي المختطف جولدن هدار أكثر العائلات حراكًا في الساحة الإسرائيلية فيما يخص موضوع استعادة الجنود المختطفين، ففضلاً عن ظهورها الإعلامي المكثف واستنادها إلى رواية حماس التي تقول إن الضابط الإسرائيلي لم يمت في القصف الإسرائيلي على النفق وأن عناصر القسام نجحت في أسره حيًا، فإن أسرته تمعن في إحراج نتنياهو بمطالبتها إياه باستعادة جثته في حال صدقت الرواية الإسرائيلية التي تقول إن المفقودين من الجيش في غزة ماتوا، وتنقل أخبارهم في الإعلام والبيانات مذيلةً بما معناه بالعبرية “يرحمهم الله”.
شهدت الأيام الماضية حديثًا عن وساطة “ألمانية” يمثلها إرنست أولارو الدبلوماسي الألماني الذي لعب دورًا نوعيًا في صفقة الإفراج عن شاليط
وقد ازداد الوضع تعقيدًا عقب بث القناة الثانية عشرة الإسرائيلية، الخميس الماضي، تحقيقًا استقصائيًا بعنوان “الحقيقة” يتحدث عن ملابسات وتفاصيل اختطاف هدار، التحقيق تطرق إلى وقت وصول معلومات للجيش عن فقدان هدار، ووقت اختفاء آثاره تمامًا، ورد فعل الجيش بعد إطلاق إجراء “هنيبعل”، وطريقة نقل عناصر القسام جثمان هدار، ودور عملاء الاحتلال الميدانيين على الأرض في نقل هذه التفاصيل، وقد فسر محللون مدلول توقيت بث التحقيق بفتح ملف التفاوض مع حماس بشأن استعادته – بغض النظر عن حياته من عدمها – خاصةً أن التحقيق لم يحو جديدًا تقريبًا.
وقد شنت عائلة هدار هجومًا حادًا على نتنياهو وحكومته في وسائل الإعلام لقبوله التهدئة مع حماس التي كشفت وحدةً خاصة إسرائيلية كانت تقوم بجمع معلوماتٍ في غزة، وقتلت أحد ضباطها، وأمطرت “إسرائيل” بالصواريخ في جولة التصعيد، وازداد الهجوم حدةً بعد موافقة نتنياهو على إدخال الدفعة الثالثة من الأموال القطرية إلى غزة.
وساطة ألمانية وتدخل أممي
كما شهدت الأيام الماضية حديثًا عن وساطة “ألمانية” يمثلها إرنست أولارو الدبلوماسي الألماني الذي لعب دورًا نوعيًا في صفقة الإفراج عن شاليط، وكان الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير قد أعلن في وقت سابق من العام الماضي استعداد بلاده القيام بالوساطة بين “إسرائيل” وحماس فيما يخص ملف الأسرى، كما فعلت سابقًا في الوساطة بين “إسرائيل” وحزب الله.
وضع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، لا سيما الأسرى الأمنيين، يزداد سوءًا بعد تصعيدٍ إسرائيلي يقوده وزير الأمن الداخلي جلعاد آران
وقالت حماس إن مبعوث الأمم المتحدة للشرق الأوسط نيكولاي ميلادينوف، تحدث مع قيادات من الحركة عما إذا كان لديها النية لفتح ملف التفاوض مع “إسرائيل” بخصوص الأسرى المحتجزين لديها، مطالبًا الحركة صراحةً بالإفراج عن إفراهام منغيستو اليهودي من أصل إثيوبي وواحد من المدنيين الاثنين المحتجزين لدى حماس، بعد الالتقاء بأسرته في مقر الأمم المتحدة بالقدس المحتلة، مبررًا ذلك بأنه “مريض عقلي”، معتبرًا الإفراج عنه أمر إنساني، ومؤكدًا أنه سيعمل جاهدًا على ذلك.
إضراب الأسرى في السجون الإسرائيلية
إلى جانب الزخم السابق، فإن وضع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، لا سيما الأسرى الأمنيين، يزداد سوءًا بعد تصعيدٍ إسرائيلي يقوده وزير الأمن الداخلي جلعاد آران الذي شكل لجنةً لبحث أوضاع المعتقلين الفلسطينيين بالسجون الإسرائيلية، خلصت إلى توصيات وإجراءاتٍ بتقليص الزيارات العائلية ومنع المبالغ المالية من خارج السجون ومنع تحضير الطعام بالأقسام ومصادرة الأجهزة الكهربائية، وهو ما اعتبره قدري أبوبكر رئيس الهيئة الفلسطينية المسؤولة عن ملف الأسرى “خطرًا غير مسبوق يهدد الاستحقاقات والإنجازات التنظيمية والمعيشية للأسرى”.
وبدأ عشرات الأسرى الفلسطينيين في سجن عوفر إضرابًا عن الطعام عقب اعتداء الأمن الإسرائيلي على نحو 150 معتقلاً واقتحام قسم 15 في السجن ونشوب اشتباكات استخدم خلالها الأمن الإسرائيلي الغاز المسيل للدموع والكلاب البوليسية، لتعاود “الجهاد الإسلامي” التأكيد على التزامها بالعمل على إنهاء معاناة الأسرى.
ويقدر عدد المعتقلين في السجون الإسرائيلية بـ6500 معتقل، منهم نحو 350 معتقلاً من قطاع غزة، و60 معتقلاً كان قد أفرج عنهم بموجب صفقة وفاء الأحرار.
ومن جانبها، أكدت حماس، وفقًا لمصادر “عربي 21” أنها تلقت اتصالاتٍ أوروبية مصرية بشأن رغبة “إسرائيل” في إحياء المفاوضات قبل الانتخابات البرلمانية، وفيما يخص سؤال مبعوث الأمم المتحدة عن نيتها لخوض مسار تفاوض غير مباشر مع “إسرائيل” بخصوص ملف الأسرى، قالت المصادر إنها لن تمنح “إسرائيل” أي معلومات مجانية عن الأسرى.
وأضاف الزهار عضو المكتب السياسي لحركة حماس، أن الشرط الرئيس لبدء مفاوضات تبادل الأسرى مع “إسرائيل” هو إفراجها عن معتقلي صفقة وفاء الأحرار البالغ عددهم 60 معتقلاً، منوهًا أن حماس لن تقبل “صفقات جزئية” على أسير أو اثنين من الأسرى المحتجزين لديها، وإنما تريد صفقةً واحدة، وأن التفاوض سيكون على الأسرى فقط ولن يمتد لأكثر من ذلك في القضية الفلسطينية.