ربما تكون المرة الأولى في التاريخ، الذي يتناقص فيه عدد النساء أمام الرجال بهذا الشكل، فالفارق وصل إلى 120 رجل لكل 100 إمرأة، بحسب دراسة حديثة عن الاختلالات في التوازن بين الجنسين، ما يجعل الصين، وبعض المناطق في الهند أيضا، بحاجة إلى ما يقرب من 80 مليون امرأة، لإعادة التوازن بين الجنسين، وسد النقص المرعب، الذي يثير قلقا كبيرًا لدى البشرية بأكملها وليس الصين وحدها.
لماذا وصلت الصين إلى هذا الخلل؟
الأرقام مفزعة، الرقم مرشح للزيادة في المستقبل القريب، سيخلق هذا التفاوت بلا شك مشاكل معقدة للصين على وجه التحديد، والتي تخوض تجربة يعرفها بني الإنسان لأول مرة، وبالتالي فالعواقب المترتبة على وجود عدد كبير من الرجال، بلغوا سن الرشد، دون أن يتمكنوا من العيش بشكل طبيعي مع زوجاتهم، معرضون إلى الإصابة بوباء الوحدة، ما يجعلهم عرضة للوفاة المبكرة، بنسبة 50%، مقارنة بأولئك المترابطين اجتماعيا.
ولا تقف الأضرار على الوفاة، ولكنها تشوه أيضا أسواق العمل، وتتسبب في ارتفاع معدلات الادخار، وتخفيض قيم الاستهلاك، وفي المقابل تتشابه ﺟﺮاﺋﻢ اﻟﻌﻨﻒ واﻟﺪﻋﺎرة ﻓﻲ ﻋﺪد ﻣﺘﺰاﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻤﻮاﻗﻊ، ورغم عدم اقتصار هذه الظواهر على الصين والهند وحدهما، بل تمتد إلى عمق جيرانهما الآسيويين، وتشوه اقتصادات أوروبا والأمريكتين، ولكن تبقى الصين حاليا، صاحبة أكبر ظاهرة انحراف بالجنس عند الولادة في العالم.
ويتزايد تقدم سكان البلد بسرعة أكبر مما تتخيله السلطات، مع تضاؤل النقص في عدد العاملين والطلاب والرضع بشكل ينذر بالخطر، ولن تقف المرونة الاقتصادية ومؤشرات قدرة بكين على إزاحة الولايات المتحدة من مقعدها باعتبارها أكبر قوة اقتصادية في العالم هذه المرة بمواجهة أزمة من هذا النوع، لترجيح كفة الصين، ولاسيما أن خلل التركيبة السكانية سيلقي بظلاله على إمكانات النمو على المدى الطويل.
وفقا لمكتب الإحصاءات الوطني الصيني، كان هناك 17.23 مليون طفل ولدوا في الصين، بانخفاض قدره 630،000 عن العام السابق، وهذا أقل بكثير مما توقعته اللجنة الوطنية للصحة وتنظيم الأسرة، التي قدرت مساهمة سياسة الطفل الجديدة، في دفع عدد المواليد إلى الزيادة بأكثر من 20 مليون طفل في العام، والمعلنة منذ عام 2013، وأنهت بها الصين رسميا نظام الطفل الواحد، بالمصادقة على مسودة قانون، تسمح للأزواج بانجاب طفل ثان، ضمن محاولات السلطات لمعالجة مشكلة ارتفاع معدل الشيخوخة، ونقص اليد العاملة، والخلل في البنية السكانية لصالح الذكور مقابل الإناث
ما لم تتوقعه اللجنة الوطنية للصحة، أن الأزواج الصينيين، تشربوا الثقافة المعمول بها في البلاد منذ حوالي أربعة عقود، وأصبحوا مثل نظرائهم في اليابان وألمانيا أقل رغبة في إنجاب الأطفال مع ارتفاع دخلهم، ولايزال ينظر أغلبهم إلى بلاده باعتبارها أكبر بلد في العالم من حيث عدد السكان، إلا أنهم لم ينتهبوا بعد، أن لديهم الكثير من الناس، لم تعد صالحة للعمل وفق القانون الطبيعي للحياة، وهو ماتشير إليه إحصائيات ترصد حالات النقص المستمرة في صفوف العمال والطلاب والرضع وبمعدلات تنذر بالخطر.
كيف تؤثر الأزمة على الحلم الصيني ؟
لا يوجد شبح يواجه الطموح الصيني الآن، إلا تأثير الوضع المعقد للتركيبة السكانية على التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ الجميع يعلم أن معجزة النمو الاقتصادي بهذه البلاد خلال العقود الأربعة الماضية لم تكن تحدث، دون امتلاكها قوة عاملة ضخمة بمئات الملايين من العمال، ومساهمتهم القوية في التحول للازدهار الاقتصادي للصين والتحضر السريع.
لجأت الصين إلى سياسة الطفل الواحد «سيئة السمعة»، ورسختها في الذهنية العامة، في بداية عقود النهضة الأخيرة، على أنها المعادل الموضوعي لتحريرها الاقتصادي، فتم تعبئة مواليد الخمسينات والستينات بهذه الأفكار، حتى يتبنون نهج حكومة بلادهم، في الاقتصار على إنجاب طفل واحد فقط ، وجعل تربية الأطفال الأولوية الأدنى في اهتماماتهم الحياتية.
تقف الصين لاول مرة، عاجزة عن إيجاد حل لأزمة ما، في ظل تراجع أعداد سكان البلاد، بمقدار 4.7 مليون لعام 2018، وهي السنة السابعة على التوالي من الانخفاض في المواليد
ارتفاع معدل الأعمار في الصين، لم يتسبب فقط في شلل المشروعات الطموحة للاقتصاد، ولكنه يرفع العبء في المقابل على نظام المعاشات والأسر، وعلى الدولة بأسرها، خاصة أن الصين على مايبدو، لم تكن على استعداد كاف للتعامل مع مجتمع يتقدم في السن فجأة، وهو ما يتضح تعقد المشكلة دون حل، وندرة وجود المرافق الكافية لرعاية المسنين الذين اتبعوا منهج البلاد، سواء في تحديد النسل، أو عزفوا من تلقاء أنفسهم عن الزواج، ولا يوجد معهم من يقدم لهم الرعاية اللازمة الآن لأرزل العمر.
وتقف الصين لاول مرة، عاجزة عن إيجاد حل لأزمة ما، في ظل تراجع أعداد سكان البلاد، بمقدار 4.7 مليون لعام 2018، وهي السنة السابعة على التوالي من الانخفاض في المواليد، ورصدت منظمات متهمة بالأزمة العام الماضي تراجع المواليد بنسبة 17.2 مليون، وهي نسبة أعلى من العام قبل الماضي، الذي انخفض فيه عدد المواليد إلى 15.2 مليون، وهو أقل رقم في المواليد، تعرفه البلاد منذ عام 1961.
ماذا حدث .. وما سبيل المواجهة ؟
بعد إنشاء جمهورية الصين الشعبية في عام 1949، دربت الحكومة عشرات الآلاف من «الأطباء» على تقديم الرعاية الصحية إلى المناطق الفقيرة والريفية، فانخفض معدل الوفيات وارتفع معدل النمو السكاني من 16 في الألف عام 1949، ووصل إلى 25 في الألف بعد خمس سنوات فقط، وقد أدى ذلك إلى محاولات أولية لتشجيع تنظيم الأسرة في عام 1953.
ظلت الزيادة في مجموع السكان تتسع بشكل كبير، ووصلت لأكثر من 800 مليون في أواخر الستينات، وبحلول 1970 واجهت الصين نقصا كبيرا في الغذاء والإسكان، واستمرت الاوضاع في التعقيد من سيء إلى أسوأ، حتى جاء عام 1979، الذي قرر فيه الزعيم دنغ شياو بينغ سياسة الطفل الواحد فقط، ولم يستثن من هذا القرارا إلا المزارعين بالريف، وبعض الحالات الإنسانية، مثل أن يكون الطفل الأول معاقًا.
تركت سنوات الطفل الواحد ندوب اجتماعية، وتحول الأباء بشكل تدريجي مع المعايشة الطويلة لهذا النظام، على اتخاذ قرارات ذاتية، بإجبار زوجاتهن على إجهاض الأجنة الإناث بسبب انخفاض انتاجيتهم عن الذكور
نجحت سياسة دنغ شياو، في خفض معدل النمو السنوي للسكان، بنسبة بلغت 0.6٪ فقط، مما جعل السلطات تسن قوانين إضافية، بحسب منظمة هيومن رايتس ووتش لإتخاذ تدابير أكثر وحشية لخفض المواليد، بإجبار النساء على إجراء عمليات إجهاض، كما أقرت سياسات إضافية بلغق سبل التسرب والتحايل على القوانين، بمنع الأطفال الذين يولدون خارج ولايتهم من التسجيل الحكومي المطلوب للذهاب إلى المدرسة، وكذلك منعهم من شراء تذاكر القطار، أو العثور على وظيفة.
تركت سنوات الطفل الواحد ندوب اجتماعية، وتحول الأباء بشكل تدريجي مع المعايشة الطويلة لهذا النظام، على اتخاذ قرارات ذاتية، بإجبار زوجاتهن على إجهاض الأجنة الإناث بسبب انخفاض انتاجيتهم عن الذكور، بما تسبب في هذا الوضع المريب الذي تعيشه البلاد الآن بعد كل هذه السنوات من السياسة المتوحشة لخلفض المواليد.
نهضت البلاد مؤخرا على نشأة جيلًا من الرجال الأحاديين، الذين لايحدون لهم زوجات، وبينما حاولت المدن التغلب على الأزمة بالدعارة، لجأة المناطق الريفية النائية بشراء زوجات من تجار البشر، وفي أوائل عام 2018 كان العالم يستيقظ على أنباء إنقاذ السلطات الصينية لـ 17 امرأة فيتنامية من أيدي عصابة تستخدم 60 متجرا لبيع النساء في الصين.
أصعب ما تواجهه السلطات الصينية حاليًا، إقناع الأزواج بإنجاب المزيد من الأطفال، بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، وساعات العمل الطويلة، بجانب ارتفاع نفقات رعاية الأطفال، والوسواس الذي يسطير على الجميع، بعدم قدرته على تحميل مسؤوليات أكثر من طفل واحد، فإما هو أو لا شيء.
وتقترح بعض المؤسسات الدولية على الصين، ضرورة إيجاد حلول مبتكرة، سواء بإلغاء الغطاء بالكامل، والسماح للصينين بإنجاب أكثر من طفلين، بما ينعكس على تحسين الخصوبة بشكل أسرع، خاصة ان بعض المدن الصغيرة، لازالت تعيش على أمل إنجاب أطفال آخرين بعد تغيير السياسة، بجانب توفير استقطاعات ضريبية جديدة للعائلات ورفع جميع القيود المفروضة على حجم الأسرة، وتحفيف القيود الصارمة على استقدام العمال الأجانب، حتى يجد الصينيون نوعا من المنافسة على شركاتهم، في ظل حالات النقص بالعمالة، التي أجبرت الصين على الاستثمار في التشغيل الآلي والروبوتات، لتوفير العمالة المطلوبة، وهو حل يعمق من حجم الأزمة ولايحلها على المدى القصير والبعيد.