يبدأ الأطفال منذ لحظة ولادتهم باستقبال المعلومات من عالمهم الخارجيّ المحيط وممّن حولهم، وشيئًا فشيئًا تتطوّر لديهم سلوكيات عديدة تمكّنهم من التفاعل مع تلك المعلومات بما يتناسب مع المرحلة العمرية التي هم فيها. وواحدة من أكثر المواضيع المثيرة للاهتمام هي كيفية تطوير طفلك لهويته الجنسية وفكرته عن جنسه والجنس الآخر.
غالبًا ما نميل إلى التفكير في الجنس على أنه الاختلافات البيولوجية بين الرجال والنساء التي تنشأ عن طريق اتحاد الكروموسومات الجنسية التي تُنتج عن ذلك إمّا XX أو XY، وعلى إثر ذلك الاتحاد يصبح الجنين إما أنثى أو ذكرًا. لكن وفي الوقت نفسه، يبقى ذلك التعريف مقتضبًا وناقصًا.
فالهوية الجنسية بالنهاية لا تتوقّف على العوامل البيولوجية وحسب، بل تتعدّاها إلى العديد من العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية التي تحيط بالفرد وتؤثّر عليه بدءًا من مراحل طفولته المبكّرة وحتى نهاية حياته. لتصبح طريقة تعبيرنا عن الجنس، وكيفية نظرنا إليه أو شعورنا تجاهه أو سلوكيّاتنا التي نأتي بها تبعًا له، جزءًا أساسيًّا ومهمًّا في تعريفنا للمصطلح.
تعدّ الهوية الجنسية نتاجًا للتفاعل الحتمي والضروريّ بين الجينات (النمط الجيني) والبيئة التي تحيط بالشخص بما تحمله من عوامل عديدة ومختلفة
وبكلماتٍ أخرى أكثر وضوحًا، في حين أنّ تحديد الجنس يتمّ من خلال ما هو مكتوب في الكروموسومات الجنسية أو ما تمليه عليها البيولوجيا، أي ما هو معروف بمصطلح النمط الجيني genotype. إلا أنّه يمتدّ إلى أبعد من ذلك، ليصبح نتاجًا للتفاعل الحتمي والضروريّ بين الجينات (النمط الجيني) والبيئة التي تحيط بالشخص بما تحمله من عوامل عديدة ومختلفة.
كيف يطوّر طفلك هويّته الجنسية؟
مما يثير الدهشة، يبدأ الأطفال بالتفكير فيما يتعلق بالجنس بمرونة أكثر من الطريقة التي نفكر بها نحن البالغين. فقبل سن الخامسة، يكون الطفل قادرًا على تمييز جنسه وتسميته بسهولة، أي يستطيع تصنيف نفسه ولدًا أو بنتًا، لكن دون أن يكون قادرًا على تمييز ديمومة جنسه على الإطلاق. فقد يسأل طفل أمه عما إذا كانت ولدًا أو بنتًا عندما كانت صغيرة، أو قد يقول إنه يريد أن يكبر ليصبح أمًا. أو تعتقد طفلتك أنها ستصبح ولدًا في حال قصّت شعرها كأخيها، تمامًا كما يعتقد طفلك أنه سيصبح بنتًا في حال ارتدى فستان أخته.
في واحدة من الدراسات المشهورة، عرضت عالمة النفس ساندرا بيم على مجموعة من الأطفال في سنّ ما قبل المدرسة ثلاث صور مختلفة لطفلة أنثى وآخر ذكر. في الصورة الأولى يكون كلٌّ منهما عاريًا. وفي الثانية يرتدي الفتى أو الفتاة الملابس المتعارف عليها لجنسه، على سبيل المثال ثوب وربطات شعر للبنت وقميصًا للولد مع كرة بيده. أما في الصورة الثالثة، فكان الطفل والطفلة يرتديان ملابس متعارف عنها أنه للجنس الآخر.
قبل سن الخامسة، يكون الطفل قادرًا على تمييز جنسه وتسميته بسهولة، أي يستطيع تصنيف نفسه ولدًا أو بنتًا، لكن دون أن يكون قادرًا على تمييز ديمومة جنسه على الإطلاق
قامت الباحثة بعد ذلك بتوجيه عددٍ من الأسئلة عن كلّ صورة لكلّ طفلٍ من الأطفال المشاركين. أما النتيجة فكانت أنّ معظم الأطفال من الذين تتراوح أعمارهم بين ثلاث وخمس سنوات قد اعتقدوا أنّ الصبي الذي قرر أن يرتدي ملابس فتاة قد أصبح فتاةً بالفعل، والعكس صحيح.
لاحقًا، وما بين عمر الرابعة والخامسة من عمره، يصبح لدى الطفل شعور ثابت بهويته الجنسية، إذ يعتقد معظم الأطفال بعد سن الخامسة أنّ التغييرات الخارجية في الملابس أو تسريحة الشعر لا تؤدي إلى أيّ تغييرٍ في نوع الجنس. كما يبدؤون بإدراك الفروقات البيولوجية بين الجنسين، ليقوموا على إثرها بتحديد هويّتهم الخاصة والشخصية.
يبدأ الأطفال بعد سن الخامسة بإدراك الفروقات البيولوجية بين الجنسين، ليقوموا على إثرها بتحديد هويّتهم الخاصة والشخصية
وبالتالي، نجد أنّ الأطفال في هذه المرحلة يفضّلون اللعب مع أفراد من جنسهم ويميلون للمشاركة في الألعاب والنماذج النمطية للجنسين. فعلى سبيل المثال؛ تميل الفتاة إلى اللعب بالدمى والألعاب المنزلية، في حين يميل الصبيّ إلى اللعب بألعاب الجنود أو السيارات والشاحنات. وغالبًا ما يصبحون صارمين للغاية بشأن التقيّد بالقوالب النمطية الجنسانية التي يستلهمونها ممّن حولهم.
دور المجتمع.. هل الورديّ للفتيات والأزرق للفتيان؟
بالنهاية، فالهوية الجنسية لا تقتصر على العوامل البيولوجية للجنس وحسب، بل تتأثر أيضًا بالعوامل البيئية والاجتماعية والثقافية المحيطة. عليك فقط السير في محلٍ لبيع ألعاب أو ملابس الأطفال، لترى أنّ اللون الزهريّ مخصص للفتيات والأزرق للفتيان، أو قد تسمع أحدهم يصرخ في وجه طفله بألّا يبكي لأنّ البكاء من شيم الفتاة، وغيرها الكثير من الصور النمطية التي ترسمها مجتمعاتنا فتؤثر على هوية الطفل الجنسية وتشكّلها.
بمجرد أن يتعلم الأطفال هوية محددة للجنس، فإنّ سلوكهم سيتم توجيهه تبعًا للمقاييس الموضوعة على أنها مناسبة لنوع جنسهم المحدّد
وعلى الرغم من اختلاف التطوّر الهرموني لكلٍّ من الولد والبنت بدءًا منذ فترة الحمل؛ فالأجنّة الذكور يبدؤون بإنتاج هرمون التستوستيرون في الأسبوع الثامن من الحمل تقريبًا ما يؤثّر حقًا على تفضيلاتهم فيما يتعلّق بالألعاب الذكورية التي غالبًا ما تكون خشنة كالسيارات والشاحنات أو ألعاب القتال وما إلى ذلك. في حين أنّ الفتيات يملن إلى الدمى والألعاب التي ترتبط بالبيت والتربية والأمومة.
يخبرنا علم النفس التطوّري بأنّ التستوستيرون يؤثر على نمو الدماغ لزيادة الاهتمام بالمركبات والشاحنات، وأنّ هذا جزء من تاريخ تطورنا البشريّ، على الرغم من أن هذا التاريخ حدث قبل وجود السيارات. وقد دفعت هذه النتائج الخبراء إلى إعادة التفكير في دور الألعاب في تنمية الأطفال. فوفقًا لإحدى الدراسات، فإنّ الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12-24 شهرًا يظهرون بالفعل تفضيلات جنسية للألعاب، حيث تظهر الفتيات اهتمامًا أكبر بالدمى والأولاد الذين يظهرون اهتمامًا أكبر بالسيارات. ولكن في هذا العمر أيضًا، تفضل البنات والبنين اللون الوردي والأحمر على الأزرق.
جزء كبير من السلوكيات والصور المرتبطة بالجنس عند الأطفال هي نتاج للتعزيز الاجتماعي والتنشئة
وبما أنّ الفتيات يقضين سنواتهنّ الأولى بالتعرّض للون الورديّ، في محلات الألعاب والملابس وعلى شاشات التلفاز وبرامج الأطفال، فإنّ الصورة النمطية تلتصق بهنّ في السنوات اللاحقة. لكن في الحقيقة، تشير الدراسات إلى أنّ الرجال والنساء يفضّلون على حد سواء اللون الأزرق على اللون الوردي في مرحلة البلوغ.
وكما تشير مجلة العلوم اليوم، فإن هذه النتائج تتماشى مع الدراسات السابقة حول الصور النمطية للجنس التي تشير إلى أنه “بمجرد أن يتعلم الأطفال هوية محددة للجنس، فإنّ سلوكهم سيتم توجيهه تبعًا للمقاييس الموضوعة على أنها مناسبة لنوع جنسهم المحدّد”، والتي قد تستمرّ معهم طوال حياتهم.
ما يعني أنّ جزءًا كبيرًا من السلوكيات والصور المرتبطة بالجنس عند الأطفال هي نتاج للتعزيز الاجتماعي والتنشئة، إذ يستجيب الآباء والمعلمون والمجتمع بشكلٍ محدّد مسبقًا فيما يتعلّق باختيارات وتفضيلات الطفل، ما عليك سوى التفكير في ردود الفعل المختلفة تجاه الطفل الذي يلعب بدميةٍ أو إذا كان يبكي.
وفي حين قد يصر البعض على أن الفتيات يفضلن الدمى فقط، إلا أن هناك القليل من الأدلة العلمية لدعم ذلك. وكما تشير الدراسات التي ذكرناها، فإن العوامل الاجتماعية تؤثر بشكل كبير على التفضيلات والسلوكيات والاعتقادات فيما يتعلّق بما هو ملائم للجنس وما هو غير ذلك. وبالتالي، قد يكون عليك أنْ تعيد النظر في شرائك للدمى لطفلتك والسيارة لطفلك، فربما أرادا العكس. تمامًا كما يجب عليك إعادة النظر في طريقة تصنيف السلوكيات تبعًا للجنس أمام طفلك، حتى لا يتحوّل الأمر إلى مجموعة من الصور النمطية والتحيّزات العنصرية تجاه جنسه والجنس الآخر، والتي يصعب التخلّص منها لاحقًا.