منذ اليوم الأول لمعركة طوفان الأقصى، وظف رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في خطاباته السياسية رموزًا ومصطلحات توراتية، لإضفاء شرعية على الحرب ومنحها صبغة “مقدسة”، وتأجيج الصراع على أسس دينية.
ولجأت وسائل الإعلام العبرية إلى استحضار قصص من التوراة تحرض على العنف ضد الفلسطينيين وخاصة الغزيين، كما استخدمت قيادات سياسية وعسكرية إسرائيلية الخطاب الديني التوراتي في الحرب لتبرير المجازر والإبادة الجماعية التي ينتهجها الجنود في قطاع غزة، باعتبارها مهمة دينية تنفذ وفقًا لتعاليم الرب التي جاءت في التوراة.
ولعل من أبرز الرموز التوراتية التي كانت تتردد طيلة الحرب وبرزت في الخطاب الإسرائيلي: “العماليق” و”المكابيون” وقصة “يوشع بن نون”، فقد اتخذتها الدولة الصهيونية غطاءً لجرائم الإبادة التي يرتكبها الجنود في حرب غزة.
“نون بوست” يحاور الباحث في الفكر اليهودي والصهيوني، نبيه بشير، ليفسر سبب لجوء الدولة الصهيونية إلى الخطاب الديني، وما هي مآربها من استخدام القصص والرموز التوراتية لتبرير جرائم الإبادة التي ترتكبها في غزة، بالإضافة إلى المكاسب الدولية والاقتصادية التي تجنيها “إسرائيل” من وراء استخدمها الخطاب الديني.
متى بدأ خلط الدين بالسياسة في النظام السياسي الإسرائيلي؟ وما هي الدوافع لذلك؟
في البداية، هناك خطأ شائع في الأدبيات العربية والعبرية مفاده أن الحركة الصهيونية أنشئت كحركة أو أيدلوجيا علمانية، وهذا غير صحيح تاريخيًا. فالخطاب الذي حمل شعار “العودة إلى أرض إسرائيل” هو خطاب ديني مسيحي ظهر في أواخر القرن الثامن عشر، وانتقل إلى بعض الحاخامات اليهود منذ عام 1840، وبعد ذلك بدأ أفراد علمانيون متأثرون بالخطاب القومي الحديث عن الخطاب الديني منذ العام 1850 تقريبًا.
ونجح ثيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية السياسية الحديثة، في طمس الخطاب الديني وتحييده وصياغة الخطاب الصهيوني بصفته خطابًا قوميًا.
وبعد تأسيس المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897، استخدم الصهاينة الخطاب الديني من أجل تجنيد الجماهير اليهودية الكبرى في شرق أوروبا للحركة الصهيونية، فنراهم يستخدمون مصطلحات ورموزًا دينية، ويستحضرون معارك توراتية، ويصوّرون التوراة بصفتها سجلًا قوميًا يحتفظ بتاريخ اليهود وكوشانًا يثبّت ملكيتهم بأرض فلسطين.
فنجد الصهاينة يعتمدون في خطاباتهم على المخيلة الدينية لأن معظم اليهود – وعددهم نحو 7 ملايين آنذاك – جمهور الهدف الأول الذي خاطبهم هرتزل، من سكان شرق أوروبا، لا سيما روسيا وأوكرانيا وهنغاريا وبلغاريا، إلخ، وهم بغالبيتهم العظمى من المتدينين.
أما الهدف الأخير لهؤلاء الصهاينة فيتمثّل في حث هذه الجماهير الغفيرة على الهجرة إلى “أرض الميعاد” التي تفيض عسلًا ولبنًا ليجدوا هناك ملجأهم وطعامهم غير المشبع بالدماء.
ما أكثر الرموز والمفاهيم الدينية التي تطغى على الخطابات السياسية؟
أبرز الرموز والقصص التي تطغى على الخطاب الديني كانت قصص التوراة، لا سيما الخروج من مصر، حيث أخذ الصهاينة يشبّهون طيلة الوقت الانتقال من شرق أوروبا لفلسطين كتحرر من عبودية فرعون.
واستخدموا أيضًا في خطابهم الصهيوني شخصية يشوع بن نون الذي حكم على منطقة الغور وأريحا بالإبادة الكاملة واحتل كنعان، وكذلك استحضروا المكابيّين الذين تمردوا على سلطة بيزنطة.
المكابيون حسب التاريخ اليهودي نفسه هم جماعة من قطّاع الطرق، كانوا يسرقون الأغنياء ويحرقون مراكز السلطة وعصب الاقتصاد، لأن القيادات اليهودية – آنذاك – كانوا متحالفين مع السلطة القائمة. وخسر المكابيون معركتهم ودمر الهيكل، لكن الخطاب الصهيوني حوّلهم إلى أبطال لأنهم رفضوا الرضوخ إلى سلطة أجنبية.
وفي اليوم الأول من حرب غزة استحضر الصهاينة في خطاباتهم التعبير التوراتي “العماليق”، وهم الشعب الذي تصدّى لغزو بني إسرائيل كنعان عند خروجهم من سيناء. فقد واجه بنو إسرائيل الخارجون من مصر والساعون إلى غزو أرض كنعان من جهة سيناء – آنذاك – فئة من السكان التي قاومتهم، ومن ضمنهم سكان غزة. وفي ذاكرة الإسرائيليين يرتبط ذكر العماليق بأمر الإبادة الشاملة من أجل الانتقام من الحجر والشجر والبشر على المقاومة التي واجهوها آنذاك.
وما تأثيرها على الداخل أو المجتمع الإسرائيلي؟ هل حققت أهدافًا أو مكاسب معينة؟
يكون تأثير الخطاب الديني في “إسرائيل” عبر تجييش الإعلام والسكان، وهو من أكثر الأهداف الملموسة كونه أمرًا معنويًا، فمنذ بداية حرب غزة، توحد الجميع وبدأوا يستحضرون قصصًا توراتية وقصة العماليق، ويكررون نفس العبارات والتصورات التي وردت في الخطاب الإعلامي.
منذ اليوم الأول، غزة أعادت إليهم أحداث المحرقة، فليس صدفة أن استحضروا الهولوكوست بصورة كبيرة، فأصبح الانتقام حجة “إسرائيل” لما جرى في السابع من أكتوبر.
ولعدم احتمال الإسرائيليين الفشل في حرب غزة، وبفعل تجييش الشعب حول الساسة والحكومة، أطلقت أيادي الجنود لتنفيذ أفعال انتقامية ضد الغزيين، كحرق البيوت والمستشفيات والمدنيين حتى من دون أن يتلقوا أي أمر عسكري بذلك.
كيف استفادت “إسرائيل” من خلط الدين بالسياسة لتبرير جرائمها؟
من شأن الدين أن يمنح شرعية لأي عمل اجرامي، والتوراة مليئة بالقصص التي يأمر فيها الرب يشوع بن نون بدخول أرض كنعان وإبادة كل سكانها وكل شيء حي، فنجدهم دائمًا يستحضرون هذه القصص الإجرامية خاصة في أوقات الحروب والأزمات. ولإضفاء شرعية على أي قرار أو قانون إجرامي، نراهم يتخذون من الشرعية اليهودية غطاءً لذلك، وكانت البداية في الهجرة إلى فلسطين، فلولا الخطاب الديني آنذاك لما فكروا في الهجرة إليها، ومرورًا بتصوير فلسطين على أنها خالية من السكان وقاحلة لأن القلة القليلة من السكان البدو الذين يقيمون هناك كسالى لا يعتنون بالأرض، وصولًا إلى النكبة وسياسات النفي والإقصاء وحرب الإبادة الجالية حاليًا. من أجل إضفاء الشرعية على كل هذه الأمور يمكن دومًا اللجوء إلى الخطاب التوراتي.
كيف انعكس خلط الدين بالسياسة على تصورات “دولة إسرائيل الكبرى” المتخيلة؟
الخطاب الديني جزء لا يتجزأ من الخطاب السياسي الصهيوني، وهذا تكرر كثيرًا وبصورة مكثفة بعد 1967، وأصبح الحديث داخل حزب العمل وأحزاب اشتراكية أن حدود “إسرائيل” – حدود الهدنة 1949 – لا تمنح الأمان والمدى الحيوي – مفهوم جيو استراتيجي -، أي أن شعبًا كشعب “إسرائيل” لا يستطيع العيش والانتعاش ضمن حدود صغيرة، وهو بحاجة إلى حدود واسعة للتعبير عن ذاته وعبقريته.
ويستعمل الصهاينة مصطلح “المدى الحيوي” لتوسيع حدود “إسرائيل” بحيث تشمل أرض “إسرائيل الكبرى”، فالحاخامات ليسوا وحدهم من استعمل هذا المفهوم، بل أشخاص علمانيون أعطوه بعدًا استراتيجيًا أكثر من كونه مفهومًا دينيًا.
كما ساعد الخطاب الديني في منح المستوطنين هدفًا للمشروع الصهيوني على الصعيد الاقتصادي والجيش والمجتمع والعمل والزراعة لتصور وبناء الدولة المثالية.
أين يمكننا أن نلمح تأثيرات خلط الدين بالسياسة وملامحه بوضوح على أرض الواقع؟
منذ عام 1967 بدأنا نلمس أن الحاخامات باتوا يتمتعون بأدوار مهمة في الدولة والمجتمع، لكن خلال الـ20 عامًا الأخيرة شهدنا أن ثقلهم زاد أكثر فأكثر، خاصة بعد استيلائهم على أغلب مؤسسات الدولة والمراكز القيادية والجيش.
وجودهم في الدولة يحرض على الواقع، فهم لا يعملون عبثًا، ويعملون وفق مخططات مدروسة وكذلك الأمر بخصوص عنفهم وانتهاكاتهم ضد الفلسطينيين.
ونلمس ملامح مخططاتهم هذه في الاستيلاء على مواقع قيادية في المجتمع والدولة في “إسرائيل” منذ مطلع الثمانينيات، وبصورة أكثر تكثيفًا منذ محادثات مدريد.
كيف تنظر الفئة العلمانية من المجتمع الإسرائيلي إلى هذا النوع من الخطابات؟
اليوم كل اليهود العلمانيين مرعوبون من قوة الخطاب الديني، كون المتدينين احتلوا أهم مراكز الدولة كوزارة المعارف والمالية والإسكان ومختلف دوائر الأراضي والآثار، وأصبح لديهم ممثلون في المحكمة العليا.
ويرجع تخوف الفئة العلمانية إلى وجود خطة لدى المتدينين تقول “اليسار الصهيوني على شاكلة حزب العمل أنهوا دورهم ولا يوجد لديهم مضمون جديد يعطوه للمجتمع والدولة”، فأصبحوا يستشعرون أن لا دور لهم.
ويدرك العلمانيون أن المتدينين باتوا حملة الشعلة الصهيونية ويريدون تهويد اليهود العلمانيين، ليجعلوا “إسرائيل” حاملة رسالة دينية سامية.
كيف استخدمت “إسرائيل” هذا الخلط لكسب الدعم الدولي لها سياسيًا واقتصاديًا؟
“إسرائيل” تستخدم خطابها الديني فقط مع أمريكا لأن المجتمع هناك متدين، لكن بصورة عامة نجدها تستخدم خطاب المحرقة لكسب الدعم الدولي.
كل دول الغرب تسند “إسرائيل” حتى لو أظهرت بعض الدول كألمانيا وبريطانيا الشجب والاستياء، لكن على أرض الواقع فجميعها يصدر لها الأسلحة والتكنولوجيا المتطورة، وتتعاون معها استخباراتيًا وعسكريًا.
في معركة طوفان الأقصى.. تسرب العشرات من الجنود من الخدمة العسكرية، لماذا لم تنجح “إسرائيل” في استعادتهم من خلال الإغراءات الدينية؟
هناك جزء من الإسرائيليّين لا يتأثر بالخطاب الديني، أو بالأحرى يخشونه، وهم قلائل، وغير مقتنعين من الأساس بالخطاب الديني، فهو يحدث لهم ردة فعل عكسية، عدا عن الخوف الذي كان يسيطر عليهم عند جرّهم إلى العدوان على غزة.