وسط تصفيق حاد وهتافات تأييدية متواصلة، انسحب رئيس البرلمان وزعيم المعارضة الفنزويلية عن حزب “الإرادة الشعبية” خوان غوايدو، من مقاعد السياسة الخلفية وأعلن نفسه رئيسًا مؤقتًا للبلاد على المسرح الدولي، وذلك في أعقاب مظاهرات جماهيرية في العاصمة كراكاس مطالبةً باستقالة رئيس البلاد نيكولاس مادورو الذي تولى السلطة عام 2013 وتم تنصيبه لولاية جديدة تنتهي عام 2025.
في الوقت ذاته، خرجت حشود أخرى في عدة مدن من البلاد تأييدًا لمادورو ورفضًا لقرار غوايدو الذي دعا منذ البداية إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية الأخيرة وتسليم السلطة للبرلمان وتجميد كل الحسابات المصرفية الخاصة بحكومة مادورو، وعلى الرغم من أنه لم يكن أحد قد سمع بالمنافس السياسي الجديد قبل بداية العام الحاليّ، فإن أمريكا والاتحاد الأوروبي والعديد من دول أمريكا اللاتينية وقفوا في صفه، على اعتبار أنه أمل فنزويلا وسط الأزمة الاقتصادية الساحقة التي أجبرت الملايين على الفرار هربًا من الجوع والفقر.
وتبعًا لهذه التصادمات السياسية الداخلية والخارجية، أثيرت العديد من التساؤلات عن المصالح التي شجعت دول العالم على مساندة حكومة مادورو، لا سيما أن الدولة النفطية الثرية لطالما كانت مخبأ جذابًا للاستثمارات وتحديدًا بالنسبة لروسيا والصين اللتين تبحثان دومًا عن حقول جديدة لزرع مصالحهما وتنمية نفوذهم السياسي وجهًا لوجه ضد أمريكا.
بالنسبة لحكومة مادورو.. النفط أولًا وثانيًا بوتين
كما جرت العادة، انقسم المجتمع الدولي إلى قطبين، الأول مؤيد للمعارضة ويضم أمريكا وكندا والبرازيل وبارغواي والأرجنتين وكولومبيا والاتحاد الأوروبي ودول أخرى من مجموعة “ليما” التي تضم 14 دولة، والقطب الثاني متضامن مع حكومة مادورو ويجمع بين كوبا وبوليفيا والمكسيك وتركيا وروسيا، ورغم حصيلة الدعم الوفيرة لسلطة مادورو فإنها تعتمد من جهة على دعم الجيش الفنزويلي الذي رفض قبول رئيس فُرض في ظل مصالح غامضة وبشكل غير قانوني، بحسب تصريح وزير الدفاع الفنزويلي فلاديمير بادرينو.
وتستند من جهة أخرى على روسيا التي نمت مصالحها تدريجيًا في البلاد، وأصبحت شريان الحياة لحكومة مادورو التي يتلقى رجالها وجيشها الأموال من فلاديمير بوتين، فعلى الرغم من المأساة الإنسانية التي يعيشها الشعب الفنزويلي في ظل حكومة مادورو فإن روسيا تعتبرها منفذًا جيدًا لعرقلة الديمقراطيات الغربية وفرض وجودها في أكبر احتياطي للنفط في نصف الكرة الغربي، إذ يقول إريك فارنسورث نائب رئيس مجلس الأمريكتين: “إقامة روسيا مركزًا إستراتيجيًا في النصف الغربي من الكرة الأرضية هو فوز إستراتيجي”، ويضيف “لا أعتقد أن روسيا تهتم بموضوع بقاء نظام مادورو، إنه وسيلة لإبراز القوة والخروج من العقوبات التي فرضها الغرب وأمريكا”.
فقد بدأ التقارب الحقيقي في أواخر عام 2013، عندما أعلن إيجور سيشن عميل الكيه جي بي السابق والرئيس التنفيذي لشركة النفط الحكومية الروسية “روس نفط”، عن خطط شراء أصول في شركة “لوك أويل” الروسية واستثمار 13 مليار دولار أمريكي في أصول النفط والغاز الفنزويلي على مدى السنوات الخمسة التالية، بعد 3 أعوام تقريبًا، صرحت “روس نفط” عن استثمار إضافي بقيمة 500 مليون دولار في شركة “بترو مونجاس” النفطية، كما أصبحت شريكة في شركة النفط الحكومية “بي دي في إس إيه” للتنقيب عن الغاز في البحر، وفي نفس العام، استحوذت أيضًا على حصة تبلغ 49.9% من شركة توزيع النفط الفنزويلية “سيتغو” مقابل 105 مليارات دولار.
يفضل بوتين إخفاء يد روسيا المباشرة في فنزويلا، ولذلك يستعين بصديقه سيشن الذي يعتبر ثاني أقوى رجل في روسيا من بعده لإدارة أعمال الحكومة الروسية في أرض النفط والبترول
وهناك قائمة طويلة من المشاريع واتفاقيات السلاح بين روسيا وفنزويلا، مثل مشروع بناء أكبر مصنع للكلاشينكوف خارج أوروبا الشرقية لإنتاج 25 ألف بندقية من طراز AK-103، وتوريد 100 ألف بندقية أخرى من نفس النوع، شملت هذه الاتفاقيات أيضًا طائرات هليكوبتر من طراز “مي 26، مي-35″ و”مي- 17” بمبلغ قدره 201 مليون دولار أمريكي (ويشمل العقد أيضًا التدريب في روسيا)، وبذلك أصبحت روسيا منذ عام 2006 أكبر مورد رئيسي للأسلحة والمنظومات الدفاعية الجوية في فنزويلا.
والأهم من الاستثمار الروسي في حقول النفط هو اتفاق تم توقيعه في مايو 2013 الذي سمح لشركة روس نفط بالحصول على بيانات جيولوجية عن الكتل البحرية الفنزويلية للاستكشاف المستقبلي المحتمل وكان من الواضح أن هذه الاتفاقية تهدف إلى تجنب المصالح التجارية الصينية وضمان روسيا الوصول إلى مواقع النفط والغاز المستقبلية في فنزويلا.
ومع ذلك، يفضل بوتين إخفاء يد روسيا المباشرة في فنزويلا، ولذلك يستعين بصديقه سيشن الذي يعتبر ثاني أقوى رجل في روسيا من بعده لإدارة أعمال الحكومة الروسية في أرض النفط والبترول، خاصةً أن شركة “روس نفط” مسؤولة عن إنتاج 6% من النفط الخام في العالم ويحتكر سيشن 83 مليون دولار من قيمة أسهمها التي تبلغ قيمتها نحو 65 مليار دولار، والأهم من ذلك أنها امتداد جيوسياسي للسياسة الخارجية للكرملين.
ما الذي تسعى إليه موسكو؟
وفقًا للأستاذ فلاديمير روفينسكي من مركز الدراسات متعددة التخصصات في كولومبيا، فإن روسيا سوف تستمر بالتدخل في فنزويلا طالما أن الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية تتدخل في أوكرانيا وهي الطريقة الأمثل ليبرهن بوتين أنه قادر على الانتقام من تدخلاتهما في شؤونه الداخلية، ولا شك أنه يسعى أيضًا لتأكيد مكانة بلاده العالمية ويرى أن الاستثمارات الروسية في فنزويلا أقصر طريق لخلق شبكة من الدول الصديقة والمتحالفة، وبما فيها دول التحالف البوليفاري المعروف باسم “ألبا” الذي يميل إلى الاستقلال عن أمريكا.
تدفعنا هذه الغايات إلى سؤال آخر وهو لماذا فنزويلا بالذات دون غيرها من الدول؟ تقول الباحثة السياسية ديانا فيلير نيغروبونتي، أن أسباب انجذاب روسيا لفنزويلا خصيصًا تتلخص بقرب فنزويلا من أمريكا وثرائها بالنفط والغاز الطبيعي، إضافة إلى حنين المواطنين الروس إلى زمن الاتحاد السوفيتي وتلهفهم لرؤية بلادهم تلعب على المسرح العالمي بأقل تكلفة ممكنة، ففنزويلا بعيدة عن روسيا جغرافيًا ولا تحتاج للخوض في تفاصيل الفوضى الاقتصادية والاجتماعية في البلاد عند حدوثها، علاوة على ذلك، فإنها تسمح لروسيا باستكمال مشروعها في كوبا التي انسحبت منه في أوائل التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
تثير الاستثمارات الروسية غضب واشنطن من جهة وتدير محفظة فنزويلا الاقتصادية من جهة أخرى فيما يتعلق بمبيعات الأسلحة العسكرية ومشاريع الطاقة وصفقات البنية التحتية
إذ لم يتم استعادة الثقة المتبادلة بين السوفييت وكوبا منذ أزمة الصواريخ التي كادت تشعل حربًا نووية بين أمريكا وروسيا، ولكن في السنوات الأخيرة، بدأ بوتين باستعادة نفوذه هناك وضاعف حركة الشحن وأبرم صفقات تجارية وصناعية بقيمة تجاوزت الـ260 مليون دولار في إطار تنمية الاقتصاد الكوبي المنهك من العقوبات الأمريكية التي فرضت عليه بسبب دعمها للاتحاد السوفيتي منذ الحرب الباردة عام 1960.
فعلى الرغم من أن الخسائر التي تسبب بها الحصار الأمريكي على كوبا بلغت 4.321 مليار دولار، فإنه أتاح فرصة مثالية لروسيا لكسب ود وولاء الحكومة الكوبية مجددًا، الأمر نفسه ينطبق على فنزويلا التي فُرض حظر على صادراتها النفطية إلى أمريكا، ما أدى إلى خلق سوق بديلة ووثيقة بين هذه الدول بقيادة روسيا وغياب السلطة الأمريكية.
وبهذا تثير روسيا غضب واشنطن من جهة وتدير محفظة فنزويلا الاقتصادية من جهة أخرى، فيما يتعلق بمبيعات الأسلحة العسكرية ومشاريع الطاقة وصفقات البنية التحتية، وتدعم علاقاتها القديمة والاستثمارات في منطقة الكاريبي وأمريكا اللاتينية ككل، فقد سبق وصرح وزير الخارجية آنذاك إيغور إيفانوف، أن إجمالي التجارة بين روسيا وأمريكا اللاتينية بلغ 3 مليارات دولار في عام 2000، وكانت المشتريات الرئيسية لروسيا هي القهوة والسكر وزيت النخيل والفواكه الاستوائية والمشروبات غير الكحولية والزهور، في المقابل، صدرت روسيا طائرات مروحية قتالية وعسكرية ودبابات وصواريخ أرض-جو، وصواريخ أخرى لتحل محل المعدات العسكرية القديمة في أمريكا اللاتينية.
موسكو وكراكاس تحتاجان إلى بعضهما البعض، وربما بالقدر نفسه، لكن الوضع المالي لروسيا وفنزويلا مختلف جدًا، ما يتيح للكرملين أن يملي على شركائه اللاتينيين الشروط التي تناسبه
وتعمقت العلاقات بحلول عام 2013، ليصل التبادل التجاري إلى 24 مليار دولار موفرة لنفسها فرصة للنمو في الأسواق التي خسرت علاقتها مع الاقتصاد الأمريكي ونقلتها إلى مستويات مختلفة من الاستياء والعداء، علمًا أنها لا تزال في موقف ضعيف أمام المصالح التجارية الصينية، فلا يمكن الاستهانة بكم الأموال والاستثمارات التي تضخها الصين في أمريكا اللاتينية التي وصلت إلى 260 مليار دولار، ما جعلها الشريك التجاري الأول أو الثاني لفنزويلا.
بالمحصلة، يرى المحللون أن روسيا لا تبعثر أموالها وتستثمرها بدقة متناهية في الموارد التي تمتلكها فنزويلا، كما أنها تتسلل من خلالها إلى قطاع النفط الأمريكي، فوفقًا لتقرير نشر على صحيفة روسيا اليوم، فإن كاراكاس وضعت حصة 49.9% من سيتغو بيد موسكو، وهي شركة فنزويلية 100%، مسجلة وتعمل في الولايات المتحدة، وتمتلك شبكة من خطوط الأنابيب في جميع أنحاء البلاد وثلاث مصافي للنفط، ما يعني أن موسكو وكراكاس تحتاجان إلى بعضهما البعض، وربما بالقدر نفسه، لكن الوضع المالي لروسيا وفنزويلا مختلف جدًا، ما يتيح للكرملين أن يملي على شركائه اللاتينيين الشروط التي تناسبه.
هل تتضارب المصالح الروسية مع النفوذ الصيني في فنزويلا؟
لقد نما النفوذ الصيني والروسي بشكل ملحوظ خلال السنوات التي تخلت فيها الولايات المتحدة إلى حد كبير عن المنطقة، حيث ينبع تدخل الصين في فنزويلا من خطة الرئيس الصيني شي جين بينغ، لتوسيع النفوذ الصيني دوليًا، ما جعله يهرول من أجل التوقيع على اتفاقيات مالية أحادية الجانب مع فنزويلا المنهارة التي تلقت 62 مليار دولار من 53% من جميع الأموال التي قدمتها الصين لأمريكا اللاتينية، وذلك فضلًا عن شهيتها المتزايدة في استيراد السلع، فمنذ عام 1980، انضم نصف سكان الصين إلى الطبقة الوسطى، ومن المتوقع أن تتوسع الطبقة الوسطى بأكثر من 80% بين الآن ومنتصف 2020، ما سيؤدي إلى زيادة الطلب على السلع وبالتالي ستصبح الصين أكثر اعتمادًا على الموارد الطبيعية لأمريكا اللاتينية في العقود القادمة.
اعتبارًا من عام 2013 أصبحت الصين أكبر مزود للأسلحة لفنزويلا ما جعل بعض الأوساط تتهم الصين بتغذية نظام مادورو القمعي
بالجانب إلى ذلك، تسيطر الصين على نحو 70% من احتياطي فنزويلا النفطي، إذ استثمرت أكثر من 55 مليار دولار في قطاع الطاقة خلال العقد الماضي، حيث كان أهم التزام للصين تجاه قطاع النفط في فنزويلا هو استثمارها في حزام أورينوكو، أحد أغنى مناطق النفط في العالم، الذي ينتج النفط الخام الثقيل، أما فيما يتعلق بالأسلحة، فما بين عامي 2000 و2017، اشترت فنزويلا أسلحة تزيد قيمتها على 5.6 مليار دولار، ورغم أن روسيا كانت أكبر مزود للأسلحة لفنزويلا، لكن اعتبارًا من عام 2013 تولت الصين هذا الدور، ما جعل بعض الأوساط تتهم الصين بتغذية نظام مادورو القمعي.
تدلنا هذه الاستثمارات إلى أن المصالح الروسية والصينية تتجمع في محور واحد، ورغم أن الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز، كان يتصور أن الصين ستكون أكبر شريك فنزويلا في قطاع النفط، فإن الشركات الروسية أنتجت المزيد من النفط في مشاريع مشتركة مع شركة PDVSA من نظيراتها الصينية، علمًا أنه لا توجد إحصاءات رسمية بهذا الشأن، ولكن وفقًا للبيانات الميدانية التي قدمتها شركة (GBC)، وهي شركة استشارية للطاقة مقرها كراكاس، كان الإنتاج الروسي الفنزويلي في أواخر عام 2015 يبلغ 209 ألف برميل في اليوم (bpd)، مقارنة مع 171 ألف برميل باليوم مع الصين.
وبهذا تكون الصين غلبت روسيا في صفقات السلاح مع فنزويلا، وتخلت عن قطاع النفط، وليس هناك أي احتمالية لتطور الأمور لسوء تفاهم بين جهودهما الاقتصادية لتعبئة الفراغ الذي تركته أمريكا في فنائها الخلفي، ولكن رغم الرؤية الجيوسياسية المشتركة بين فنزويلا والصين وروسيا وتطلعهم إلى الترويج لعالم متعدد الأقطاب، فإن استثماراتهم محفوفة بالعديد من المخاطرة وخاصة بالنسبة لمادورو التي قالت عنه ماري كارمن أبونتي، التي عملت كأكبر دبلوماسي لإدارة أوباما في أمريكا اللاتينية، إن “مادورو في الأساس وحيد وليس لديه ما يكفي من أجل البقاء دون حلفاء ويعرف أنهم يتلاعبون به بشكل فعال للغاية”.