أعلنت مليشيا مسلحة في شرق السودان عن تشكيل قوة جديدة تحت اسم “الأورطة الشرقية”، للانضمام إلى صفوف الجيش في معركته ضد مليشيا الدعم السريع، وجرى الإعلان عن الخطوة، مؤخرًا، على يد تنظيم حركة “التحرير والعدالة” الذي يعد فصيلًا مسلحًا ويمثل جنوده القوام الأساسي للأورطة المقدر جنودها بأقل من 10 آلاف عنصر.
وانخرطت الحركة في العملية السياسية بالبلاد بعد توقيعها على اتفاقية جوبا للسلام بين الحكومة الانتقالية المعزولة بقيادة المدنيين والحركات المتمردة ضد نظام الرئيس المعزول عمر البشير (يونيو/حزيران 1989 – أبريل/نيسان 2019).
وأصبح التنظيم جزءًا من الاتفاقية في إطار ما يُعرف بمسار شرق السودان الذي يحظى برفضٍ واسعٍ من مكونات رئيسة في الإقليم الذي يحتضن العاصمة الجديدة المؤقتة، بمدينة بورتسودان المطلة على ساحل البحر الأحمر.
الأهداف المعلنة
في تبرير تكوينها، قال بيان المليشيا التأسيسي: “قواتكم الباسلة بقيادة الجنرال الأمين داود محمود، تنتشر وتنفتح نحو الإقليم الشرقي، وذلك بعد عملية مشاورات فنية وعسكرية مع قوات الشعب المسلحة”، وأضاف البيان الذي اطلع عليه “نون بوست”، أن ذلك يأتي “ضمن استراتيجية قوات الأورطة الشرقية لحماية الأرض والعرض مع المنظومة الأمنية في البلاد”.
ولم يصدر تعليق رسمي من الجيش بشأن نشر هذه القوات، ما يوحي بموافقته الضمنية على الخطوة. يعزز من ذلك إعلان الجنرال عبد الفتاح البرهان في وقت سابق حالة التعبئة والاستنفار بين المواطنين، لمساندة الجيش في وقف تمدد المليشيا.
وخلال 19 شهرًا من القتال الدامي، قُتل أكثر من 40 ألف سوداني، وفقًا لمنظمة أطباء بلا حدود، فيما اضطر نحو 10.7 مليون سوداني لمغادرة منازلهم قسرًا هربًا من مناطق القتال.
وعلى الرغم من فداحة هذه الأرقام، فإنها لا تشمل الجرائم الأخيرة لعناصر “الدعم السريع” ضد سكان ولاية الجزيرة، أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتي أسفرت عن مقتل المئات وتهجير أهالي أكثر من 120 قرية، بحسب مرصد نداء الوسط.
مخاوف موضوعية
لعل منبع الخوف الرئيس من تكوين قوات الأورطة الشرقية، يتصل بالتجربة المريرة في تكوين المليشيا والكيانات المسلحة إبان حقبة المعزول البشير.
ودون ذرة شكٍ، فإن أبرز تجليات هذه الظاهرة، كان تأسيس مليشيا الدعم السريع بقيادة الجنرال محمد حمدان دقلو “حميدتي” في عام 2013، تحت إمرة الجيش، لقتال المتمردين على السلطة القائمة آنذاك.
وبعد انقضاء فترة “شهر العسل” بين الطرفين: الجيش و”الدعم السريع”، تحولت علاقاتهما من الشراكة في السلطة وقتال المتمردين، إلى حربٍ دامية، يُعاني من تبعاتها المواطن البسيط.
وعن أوجه الاختلاف بينهم وبين “الدعم السريع”، قال القائد الثاني في “الأورطة الشرقية”، جعفر محمد الحسن، في تسجيل صوتي استمع إليه “نون بوست” أن انتشار عناصرها في الإقليم “جاء وفقًا لتفاهمات عالية مع القوات المسلحة”.
وفي ذات الاتجاه، سار المحلل العسكري، اللواء فرج بشارة، برفضه القاطع للمقارنة بين الأورطة و”الدعم السريع”، وقال لـ”نون بوست”: “تعمل هذه القوات بإشراف مباشر من القوات المسلحة، بل وترابط قواتها داخل مباني الفرقة 11 التابعة للجيش في مدينة كسلا”.
وشدد على أن الأورطة وكل القوات المساندة للجيش في “معركة الكرامة”، على حد تعبيره، سيتم حلها وتسريحها بمجرد حسم تمرد مليشيا الدعم السريع.
في المقابل، أبدى المحلل السياسي، حسام صديق، دهشته مما أسماه “استمرار الجيش في تفريخ المليشيات”، دون أدنى اعتبار من تجربة “الدعم السريع”.
وتعد “الدعم السريع” امتدادًا طبيعيًا لمليشيا الجنجويد المسؤولة عن ارتكاب فظائع ضد الإنسانية وجرائم حرب بإقليم دارفور، غربي السودان، ما اضطر المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرة توقيف بحق المعزول البشير، وأربعة من أبرز قادة نظامه في 2009.
وضمن أطر المقارنة، قال صديق لـ”نون بوست”، إن الأورطة الشرقية هي امتداد للمليشيات التي تأسست بدعاوي براقة من شاكلة حماية الأرض والعرض، وتأكيدات مغلظة بالائتمار بأوامر الجيش، ثم ما تلبث أن تتمرد على الدولة أو تستخدم سلاحها في خوض حروب مهلكة ضد المجتمعات المحلية.
تفجير الشرق
أعلن المجلس الأعلى للبجا “كيان أهلي” في شرق السودان، رفضه لتكوين الأورطة الشرقية، وحذر من مغبة إنتاج صراعات قبلية مدمرة في الإقليم، على غرار ما جرى في دارفور بين المكونات العربية وتلك المنحدرة من أصول إفريقية.
وقال المجلس في بيان اطلع عليه “نون بوست” إن رفضه للأورطة لا يقوم على معاداة المكونات السودانية، لكنه “رفض قاطع لعمليات تسليح القبائل، ولسياسات خلق مليشيات قبلية في هذا الاقليم المحتقن أصلًا بسبب ذات السياسات الرامية إلى فتنة مكونات الشرق واستغلال صراعات الإقليم في السيطرة على السلطة المركزية بالسودان من خلال التحكم في النزاع والسلم في الإقليم إشعالًا حين يعزلون وتهدئة حين يحكمون”.
وأدت الخلافات بين البجا (أحد أكبر مكونات الشرق)، والموقعين على مسار شرق السودان، إلى احتقان قبلي أدى إلى سقوط ضحايا، خلال الفترة الانتقالية بقيادة المدنيين (أغسطس/آب 2019 – أكتوبر/تشرين الأول 2021).
وينذر انتشار السلاح في مختلف أجزاء البلاد، وتكوين المليشيا الشرقية، بعودة الاحتقان إلى الإقليم، مع إمكانيات كبيرة للسقوط في مستنقع الحرب القبلية التي تؤثر على كامل المنطقة، جراء التداخل القبلي الكبير بين السودان وجواره الشرقي، حيث تثار كثير من الادعاءات بأن عناصر الأورطة تلقوا تدريباتهم داخل العمق الإريتري.
بيد أنّ الناشطة في شؤون شرق السودان، إسلام عادل، ذهبت للتقليل من إمكانية انزلاق الشرق إلى حرب أهلية، وأيضًا من احتمالية تدخل إريتريا في الصراع العسكري الجاري بين الجيش و”الدعم السريع”.
وقالت لـ”نون بوست”، إن قادة الأورطة أكدوا أكثر من مرة تواصلهم مع قائد المجلس الأعلى للبجا، الزعيم الأهلي محمد الأمين ترك، لطمأنة كل المكونات المحلية بأن التحركات الأخيرة تهدف إلى دعم الجيش، وليست ضد أي فصيل سوداني.
وأشارت إلى تفهم ترك لهذه الرسالة، لا سيما أن “الدعم السريع” أعلنت أكثر من مرة أن اجتياح شرق السودان من ضمن أهدافه الرئيسة القضاء على الدولة القديمة في السودان.
وفيما يخص إريتريا، أشارت إلى أن رئيسها أسياس أفورقي، يعلم يقينًا بأن تورطه في حرب بالسودان، سيؤدي إلى تصعيد الضغوط عليه من القوى المتربصة به، وفي مقدمتهم خصومه السياسيين الساعين لإزاحته من السلطة التي سيطر عليها بالحديد والنار طيلة ثلاثة عقود.
وفي حال تورط إريتريا بحرب السودان، فمن غير المستبعد، وفقًا لإسلام عادل، أن تتحرك جبهة تحرير تيغراي الإثيوبية للانتقام مما تعرضوا له على يد الجيش الإريتري خلال قمع ثورتهم ضد سلطة الرئيس آبي أحمد في عام 2020.
وأهابت إسلام بمكونات الشرق بنبذ الخلافات، وتفويت الفرصة أمام مليشيا حميدتي، في إشعال نار الفتنة لتنفيذ مخططاتها في إقامة دولة لعربان الشتات، في إشارة إلى العمق العربي لقوات الدعم السريع في دول غرب إفريقيا مثل تشاد والنيجر ومالي.
بالمحصلة، فإن محاولة تفكيك مسألة تشكيل الأورطة الشرقية، تضعنا أمام نتائج غير محسومة بالمرة، فهي تمثل بحسب رؤية الكثيرين درع حماية ضد هجمات “الدعم السريع”، لكنها في ذات الوقت بحسب مجموعات ثانية تمنح الذرائع لذات المليشيا لشن هجماتها التترية ضد أهالي الشرق، أسوةً بسكان ولاية الجزيرة المدافعين عن وجودهم حاليًا، فيما هم في نظر “الجنجويد” يستحقون الاستئصال لصلاتهم بالنظام المعزول.