في أبريل/نيسان من عام 2017، أعلنت بريطانيا عن “ضريبة البدانة”، نموذج جديد ابتكرته الحكومة في شكل ضريبة متعددة المستويات، ضمن تصعيدها لفرض الالتزام الغذائي بالقسوة لإجبار المواطن وشركات المشروبات الغازية في وقت واحد، على الالتزام بالعادات الصحية، بعدما وصلت البدانة بالمملكة المتحدة إلى مستويات خطرة قد يصعب السيطرة عليها مستقبلاً.
انتصار الحملة.. ماذا حدث؟
هدف رئيسي وضعته هيئة الصحة العامة في إنجلترا، وهو دفع شركات المياة الغازية وخاصة “كوكاكولا وبيبسي ورد بول” إلى تغيير تركيبة منتجاتها بحيث تقلل من السكر، ووضعت ذلك الشرط مقابل حزمة من الحوافز وحزمة من العقوبات أيضًا، فالفشل يعني ارتفاع الضرائب على المخالف، مما يؤدي إلى اشتعال فوضى بين تجار التجزئة، نتيجة رفع الأسعار، ولم تجد الشركات إلا الامتثال للقرار وتغيير وصفاتها الخاصة بالمشروبات الشعبية، ونجحت الحكومة في معركة الانتصار لصحة ورفاهية المواطن الإنجليزي باعتبارهما هدفها الأسمى.
واجهت الحملة تحديات عدة، أهمها صعوبة إقناع المواطنين بالتخلي عن عادات سيئة سواء كان ذلك بشكل مفاجئ أم بطريقة تدريجية للإقلاع عن تناول المشروبات الغنية بالسكريات، وهي عادات سيئة مترسخة في القيم الاستهلاكية للغذاء في بريطانيا، وأدت في النهاية إلى تفشي السمنة، وقدرت بحسب إحصاءات حديثة، بإصابة شخص واحد من كل 4 بالغين، و5 من 10 إلى 11 عامًا، وتصيب ثلث الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 2 إلى 15 عامًا.
اهتمت بريطانيا قبل الوصول لضريبة البدانة، بشرح الأزمة جيدًا عبر وسائل الإعلام، ونشرت جميع الإحصاءات لخلق رأي عام مؤيد لها
وينطبق مصطلح “السمنة” في بريطانيا على الشخص الذي يعاني من زيادة الوزن مع وجود الكثير من الدهون في جسده، وبدأت إنجلترا في محاربته بشكل حقيقي بداية من عام 2016، إثر تقرير صادم لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الإنجليزية التي أكدت إصابة ما يقرب من 27% من البالغين في المملكة المتحدة بمرض السمنة، بزيادة نحو 92% عن نسبة الإصابة بها عام 1996، وقال التقرير إن ارتفاع معدلات الإصابة بهذه الطريقة، ستجعل نصف سكان المملكة المتحدة بدناء بحلول عام 2030.
اهتمام بريطانيا بالأزمة، جعل الأمم المتحدة، تسير في اتجاه مواز، وأجرت دراسة نشرتها في سبتمبر 2018، أكدت أن المملكة المتحدة كانت الدولة الثالثة في أوروبا بعد تركيا ومالطا في معدل السمنة بنسبة 27.8%.
بداية العلاج.. التشخيص أولاً
اهتمت بريطانيا قبل الوصول لضريبة البدانة، بشرح الأزمة جيدًا عبر وسائل الإعلام، ونشرت جميع الإحصاءات لخلق رأي عام مؤيد لها، للوقاية من السمنة وخاصة عند الأطفال، حتى لا تعرضهم لما أصبحت عليه الأجيال الشابة التي عانت من السمنة في سن مبكرة وظلت على بدانتها لفترات طويلة.
كانت العاصمة لندن وفقًا للبحوث، على رأس سبع مناطق توغلت فيهم البدانة بشراسة، ومع التفسير الجيد لخطوط الأزمة، بدأت في وضع سيناريوهات الحل، بإجراءات بسيطة مع الأطفال لمنع تسرب السمنة إليهم، وطالبت الأسر باحترام شهيتهم، وفي نفس الوقت الابتعاد عن العادات السيئة مثل الإصرار على مطالبة الأبناء بإنهاء وجباتهم، على أن يكونوا هم قدوة لهم ولا يفعلوا ذلك.
كما تضمنت خطة المواجهة التدريجية، التوعية بضرورة ممارسة التمارين الرياضية كل يوم لمدة 60 دقيقة على الأقل، بالإضافة إلى مزيد من النوم وتقليل وقت الجلوس أما الشاشات بجميع أنواعها، وتصميم وجبات خفيفة صحية للأطفال، وتحذيرهم من الأطعمة ذات السعرات الحرارية العالية والمشروبات السكرية.
بعد الانتهاء من التعامل السلمي مع الأزمة، بدأت الحكومة في اتخاذ قرارات أكثر صرامة، ووضعت قائمة طويلة من الحلول، على رأسها فرض ضريبة على المشروبات الغازية
في الوقت نفسه، كشفت الحملات الإعلامية للحكومة، التكلفة الاقتصادية الفادحة للسمنة التي تجعل بريطانيا تنفق كل عام على علاج البدانة وأمراض السكري أكثر مما تنفق على هيئات الشرطة والمطافئ والقضاء مجتمعين، بإجمالي 5 مليارات جنيه إسترليني سنويًا، وارتفع الرقم عام 2018، ليبلغ نحو 6 مليارات جنيه إسترليني.
بعد الانتهاء من التعامل السلمي مع الأزمة، بدأت الحكومة في اتخاذ قرارات أكثر صرامة، ووضعت قائمة طويلة من الحلول، على رأسها فرض ضريبة على المشروبات الغازية، باعتبارها مواجهة مثالية للتعامل مع جذور المشكلة، وأعلن وزير المالية السابق جورج أوزبورن، ضريبة جديدة في بيان ميزانية 2016 أسماها ضريبة السمنة، وأمهل جميع أطراف الصناعة “عامين” قبل تطبيقها، حتى يتسنى للمصنعين تعديل وصفاتهم.
في تفاصيل الضريبة، فرضت إنجلترا 18 بنسًا لكل لتر “0.23 دولار” على المشروبات التي يحتوي منها كل 100 ملم على أكثر من 5 غرامات من السكر، وفرضت 24 بنسًا لكل لتر “0.31 دولار” لكل مشروب يحتوي على أكثر من 8 غرامات سكر، وتوقعت الحكومة جني إيرادات سنوية من حزمة الضرائب الجديدة، بنحو 500 مليون إسترليني، بحسب هيئة الصحة العامة في إنجلترا التي أكدت أن المبالغ المحصلة، سوف تستثمر في برامج الحد من السمنة عند الأطفال.
رد فعل شركات المشروبات الغازية، كان الأكثر إثارة في هذه المواجهات، ولم يخرج عنها أي رد فعل عنيف أو يفيد بالاستنكار على الأقل، وامتثلت تمامًا للتعليمات وسارعت لاستثمار الفرصة الزمنية المتاحة للبحث عن طرق لإعادة صياغة منتجاتهم، بما يتماشى مع اللوائح الجديدة، وانتهت أغلب الشركات المصنعة إلى استخدام المُحليات الصناعية بدلاً من السكر، ليرتفع عدد العمليات الجديدة، لتصنيع المشروبات الغازية التي تقل بها نسبة السكر عن 5 غرامات في كل 100 ملم منذ صدور تقرير 2016 من 32 إلى 45 عملية، وفي المقابل، انخفض عدد المشروبات الجديدة التي تزيد فيها نسبة السكر على الحد الموصى به من 60 إلى 49 مشروبًا عام 2018.
أصعب ما تواجهه المملكة المتحدة حاليًّا، صعوبة تغيير المواطن الإنجليزي لعاداته
ومع تلبية العديد من الشركات للمعايير التي أوصت بها هيئة الصحة العامة في إنجلترا، انخفض تبعًا لذلك حجم الإيرادات المتوقعة جراء الضريبة من 500 مليون إسترليني إلى 385 مليون إسترليني بحلول منتصف عام 2017، ثم إلى 275 مليون استرليني في نوفمبر/تشرين الثاني، وبعد مرور أكثر من سبعة أشهر على التطبيق الرسمي للضريبة، بلغ إجمالي الإيرادات 62 مليون استرليني “80 مليون دولار” فقط.
هل يمكن تغيير العادات الغذائية في إنجلترا؟
أصعب ما تواجهه المملكة المتحدة حاليًّا، صعوبة تغيير المواطن الإنجليزي لعاداته والإقلاع عن إدمان مشروب غازي، لا سيما أن الفرد يتناول نحو 6 لترات من المشروبات الغازية يوميًا، وقد يستيقظ ليلاً لاحتسائه، وهو أمر طبيعي في الأوساط الإنجليزية.
ويرى خبراء أن الحد من المشروبات الغازية قد يكون بداية رائعة، لكنه لا يمثل إلا 5% فقط من قضية البدانة بشكل عام في بريطانيا، لا سيما أن البحوث الميدانية تؤكد أن 62% من البريطانيين يدّعون أنهم غيروا سلوكهم الاستهلاكي بعد فرض ضريبة السكر، في حين أن الخُمس فقط، هو الذي يهتم بفحص محتوى السكر على العبوات أكثر من مرة، منذ أن دخلت الضريبة حيز التنفيذ.
بجانب المشروبات الغازية، تتصدر إنجلترا مستويات استهلاك الكحول في أوروبا، وكما هو معروف، يتسبب الخمر بأنواعه المختلفة في تخزين الدهون على الخصر، بسبب مكوناته المصنوعة من السكر أو النشا والسعرات الحرارية الفارغة التي ليس لها أي قيمة غذائية على الإطلاق إلا تكوين الدهون.
من يحفظ للعرب رشاقتهم؟
في الوقت الذي تقاتل فيه بريطانيا لحماية مواطنيها من السمنة، يحذر نافيد مدني العالم البارز في قسم الصحة والطب الاجتماعي بكلية الطب جامعة هارفارد، الدول العربية من الرضا المبالغ فيه وافتراض حسن النية، في أن جميع الأمراض المعدية المنتشرة بالمنطقة، ستنخفض مع تحسن مستويات المعيشة.
يدون المركز ملاحظاته على الأمراض الشائعة في المنطقة، وخاصة ارتفاع ضغط الدم الذي زاد بنسبة 59% عن عام 1990، كما زادت السمنة بنسبة 138%، وزاد التدخين بنسبة 10%
يرى مدني أن سوء الوصول إلى العلاج والفحص الدقيق للأمراض المعدية، وصمة عار على جبين العرب، وما يقوله مدني، يؤيده تقرير صادر عن البنك الدولي ومعهد القياسات الصحية والتقييم، وهو مركز أبحاث مستقل مقره جامعة واشنطن في سياتل، ويكشف أن عوامل الخطر للأمراض تتراكم بسرعة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ويدون المركز ملاحظاته على الأمراض الشائعة في المنطقة، وخاصة ارتفاع ضغط الدم الذي زاد بنسبة 59% عن عام 1990، كما زادت السمنة بنسبة 138%، وزاد التدخين بنسبة 10% ويدخن المدخنون عادة في سن مبكرة جدًا، كل ذلك يحدث دون أن يسمع العالم بحملات عربية لإجبار المواطن العربي وصاحب المنتج على اتباع شروط آمنة تحفظ صحة الأسرة العربية، بما ينعكس على الوطن في حاضره ومستقبله!