تستعد قيادات في حركة “السترات الصفراء” الاحتجاجية في فرنسا إلى الترشح للانتخابات البرلمانية الأوروبية القادمة المقرر إجراؤها في الـ26 من مايو/أيار المقبل، في الوقت الذي تسعى فيه السلطات الفرنسية إلى حل أزمة الاحتجاجات، ترشح من شأنه أن يؤكد نية بعض قيادات الحركة التحول إلى حزب سياسي بعد أن كانت مجرد حركة احتجاجية ضد ارتفاع أسعار الوقود، فكيف وصلت الحركة إلى هذه المرحلة؟
من الوقود إلى المطالبة باستقالة الرئيس
في الـ17 من شهر نوفمبر/تشرين الثاني، انطلقت حركة “السترات الصفراء” الاحتجاجية على وسائل التواصل الاجتماعي كرد فعل على ارتفاع أسعار الوقود، واتسعت الحركة مع ارتفاع سقف مطالب المحتجين الذين اشتكوا من غياب المساواة الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء وتدني القدرة الشرائية وزيادة الضرائب.
وأطلق محتجو “السترات الصفراء” هذا الاسم على أنفسهم لارتدائهم السترات الصفراء العاكسة للضوء التي يفترض أن توجد لدى جميع السائقين في فرنسا، وذلك طبقًا لقانون فرنسي دخل حيز التنفيذ في 2008، يوصي جميع قائدي السيارات بحمل سترات تميزهم يرتدونها عند الخروج عن الطريق في حالات الطوارئ.
الشعبية التي اكتسبتها هذه الحركة الاحتجاجية، طيلة الأسابيع الماضية، جعلت بعض قياداتها يفكرون جديًا في الدخول إلى قبة البرلمان الأوروبي
عدم وجود قيادة موحدة للحركة، وعدم انتماء أعضائها لأي من الأحزاب الموجودة على الساحة السياسية، صَعَب تعامل الحكومة الفرنسية معهم، لذلك فإنه كلما تراجعت الحكومة خطوة للخلف تقدم المحتجون خطوة أخرى للأمام من خلال تصعيد مطالبهم، فسرعان ما تحول مطلبهم من وقف رفع أسعار المحروقات إلى مطالب أخرى متعلقة بالضرائب المرتفعة وتردي القدرة الشرائية، وصولاً إلى حد المطالبة باستقالة ماكرون من الرئاسة الفرنسية وتنظيم استفتاء.
حظيت الحركة في بدايتها، بدعم على نطاق واسع، الأمر الذي أظهرته نتيجة استطلاع الرأي الذي أجراه معهد “إيلاب” الفرنسي، التي أشارت إلى أن نحو ثلثي المشاركين دعموا “السُترات الصفراء”، بينما أبدى 70% من المشاركين رغبتهم في تراجع الحكومة عن قرار الرفع الأخير لأسعار الوقود.
وتضم حركة “السترات الصفراء” مجموعة غير متجانسة من المتظاهرين الذين تختلف أعمارهم ووظائفهم والمناطق الجغرافية التي ينتمون إليها، كما تضم شبابًا عاطلين عن العمل ومتقاعدين من ذوي المعاشات المنخفضة للغاية وأشخاصًا يحصلون على الحد الأدنى للأجور فقط.
الترشح للبرلمان الأوروبي
الشعبية التي اكتسبتها هذه الحركة الاحتجاجية، طيلة الأسابيع الماضي، جعلت بعض قياداتها يفكرون جديًا في الدخول إلى قبة البرلمان الأوروبي، وهو ما تجلى في تقديم البعض منهم ترشحه لخوض للانتخابات البرلمانية الأوروبية المرتقبة.
وأطلق على القائمة، التي تقودها إنغريد لوفاسور وهي ممرضة في الـ31 من العمر تحولت في بضعة أشهر إلى أحد الوجوه البارزة في الحركة الاحتجاجية للسترات الصفراء، اسم “تجمع مبادرة المواطن” تيمنًا بشعار “استفتاء مبادرة المواطن” وهو الاستفتاء الذي دعا لتنظيمه أقطاب السترات الصفراء ويقضي باستفتاء الشعب دون اشتراط موافقة السلطة التنفيذية ممثلة في الرئيس أو التشريعية أي البرلمان.
وتعمل إنغريد لوفاسور مساعدة في مجال الرعاية الصحية، وهي مطلقة وأم لاثنين، ويعود مسقط رأسها إلى منطقة “أور” شمال البلاد، وسبق أن اشتغلت اختصاصية رعاية منزلية، وتؤكد لوفاسور تخصيص كامل وقتها لخدمة قضية “السترات الصفراء”، رغم النقد الموجه إليها من بعض المنتمين للحركة، وتعتبر هذه الشابة من أبرز الشخصيات الإعلامية للسترات الصفراء، فهي دائمة الظهور في وسائل الإعلام، وقد عرض عليها منصب كاتب عامود في قناة BFMTV، قبل أن ترفض تحت ضغط رفاقها.
Voici la liste des 10 premiers candidats. Les 69 autres places seront ouvertes à candidature. «Nous voulons que cette liste soit portée par des gens qui ont fait cette mobilisation depuis le début sur les ronds-points. Pas des technocrates», appuie au @Le_Figaro Hayc Shahinyan. pic.twitter.com/CElzEoYhRl
— Charles Sapin (@csapin) January 23, 2019
وتقول إنغريد لوفاسور إنه لم يكن لها أبدًا أي التزام سياسي أو نقابي أو ارتباطي من أي نوع، وتأمل أن تكون قادرة في الانتخابات القادمة على تمثيل جميع المواطنين الذين لا يجدون أنفسهم في السياسة اليوم، وفق قولها لصحيفة فرنسية.
وتتضمن القائمة حتى الآن نحو 10 أسماء وما زال هناك مجال لترشح 69 شخصًا آخرين في الأسابيع المقبلة في مدة أقصاها الـ10 من فبراير/شباط المقبل، ويتراوح عمر المرشحين الآخرين بين 29 و53 سنة، بمختلف المهن والحالات (رئيس الأعمال التجارية الصغيرة، السائق، المحامي، ربة البيت، الموظف المدني).
وفي حديث لإحدى الصحف الفرنسية، رأى هايك شاهينيان الذي سيتولى مهمة الإشراف على الحملة الانتخابية للحركة أن “الأشخاص الذين خرجوا للاحتجاج على الطرقات هم الذين تقع على عاتقهم مسؤولية إيصال مطالبهم وإسماع صوتهم وليس التكنوقراط”، وأضاف “هذه القائمة لا تتعارض مع الحراك الشعبي بل هي مكملة له”.
إنغريد لوفاسور مساعدة في مجال الرعاية الصحية
ويعتبر تشرح هذه القائمة عن السترات الصفراء، بمثابة الاستجابة لبعض المطالب التي كانت تدعوها لتنظيم صفوفها والانخراط في العمل السياسي والانتخابي والمشاركة كتجربة أولى في الانتخابات الأوروبية المقبلة، ومن المنتظر أن توجه هذه القائمة دعوة للتبرع الشعبي لجمع الأموال اللازمة لتجد التمويل الكافي لخوض غمار انتخابات البرلمان الأوروبي، وهو مبلغ يتراوح بين 700 ألف 800 ألف يورو، خاصة أنها لا تمتلك هذا المبلغ في الوقت الحاليّ، حسب ما يؤكده أعضاؤها.
الديمقراطية تقتضي ذلك
في أول رد لها على عزم حركة السترات الصفراء – وهي حركة لا تربطها علاقات مباشرة بأي أحزاب سياسية أو منظمات غير حكومية أو نقابات – خوض الانتخابات البرلمانية، قال المتحدث باسم الحكومة الفرنسية بنيامين جريفو لراديو كلاسيك أول أمس الخميس: “خوض أعضاء في حركة السترات الصفراء الاحتجاجية، انتخابات البرلمان الأوروبي هذا العام، أمر جيد”.
وأضاف جريفو لمحطة الإذاعة: “أفضل أن يقدموا أنفسهم علانية في صندوق الاقتراع بدلاً من التخفي خلف أسماء مستعارة على شبكات التواصل الاجتماعي، أو الاختباء خلف الأقنعة بينما يتصرفون بعنف في الاحتجاجات“، وقال أيضًا: “من الإيجابي أنهم سيقدمون مقترحات ملموسة للناخبين”، واستطرد جريفو: “الجميع في بلدنا حر في تقديم قائمة حتى يمكن إدراج أفكارهم”، مضيفًا أن الديمقراطية ليست مفهومًا يخشى منه.
من شأن هذا الترشح، أن يحرم اليمين المتطرف واليسار من أصوات كان ستتجه لهم
بدوره، عبر حزب الجمهوريين، عن ترحيبه بقرار السترات الصفراء، وجاء ذلك على لسان كل من برونو رتويلو وكريستيان جاكوب، حيث قال الأول على قناة فرنسا 2: “إنها لعبة الديمقراطية، أهنئهم، وأشجعهم”، فيما رأى الثاني أنها مبادرة جيدة، من اللحظة التي يؤكد فيها المرء نفسه باسم الشعب، وهذا هو ما تريد السترات الصفراء أن تقوله: “نحن الشعب”، ويجب على المرء أن يقبل الخضوع لها، إنها قاعدة الديمقراطية.
لا يعتبر ظهور “السترات الصفراء” ظاهرة جديدة في فرنسا، فقد ظهرت في السنوات الأخيرة حركات شعبية مماثلة مثل “القبعات الحمراء” التي احتجت على فرض ضريبة على الشاحنات عام 2013، وحركة “ليلة وقوف” التي تظاهرت عام 2016 ضد إصلاحات في قانون العمل.
هدية لماكرون
ترشح قائمة عن حركة السترات الصفراء الاحتجاجية من شأنه أن يمثل أفضل هدية للرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون وحزب “الجمهورية إلى الأمام”، خلال الانتخابات البرلمانية الأوروبية المقبلة، حيث يؤملان في تحقيق نتائج مهمة تمكنهم من تنفيذ برامجهم الأوروبية.
ويواجه ماكرون وحزبه، صعوبات كبيرة في إدارة الاحتجاجات الاجتماعية التي اتسمت بها السنة الأولى لتوليه الحكم في البلاد، كما يواجه منافسة شرسة من طرف اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبين حيث تقول استطلاعات الرأي إن حزبها قد يحقق اختراقًا تاريخيًا في هذا السباق الانتخابي الذي يأتي قبل الانتخابات البلدية والرئاسية.
ومن شأن هذا الترشح، أن يحرم اليمين المتطرف واليسار من أصوات كانت ستتجه لهم، فأغلب أنصار “السترات الصفراء” ومحركيها البارزين، منتمين لليمين المتطرف واليسار الفرنسي، ويظهر ذلك من خلال الشعارات المرفوعة في التظاهرات، وهو ما سيؤدي إلى إضعاف هذه التيارات وتفرقة مخزونها الانتخابي.
ترشح السترات الصفراء في قائمة مستقلة يمنح ماكرون فرص أكبر للفوز في الانتخابات الأوروبية
في هذا الإطار، قال النائب من اليسار المتطرف أوغو برناليسيس، تعقيبًا على ترشح قائمة للسترات الصفراء في الانتخابات الأوروبية القادمة، إنها لعبة إيمانويل ماكرون، وأوضح في تصريح لفرانس أنفو “ذلك سيؤدي إلى تفريق أصوات تقدمية أو على الأقل معارضة للحكومة، عندما يكون التركيز فيها، مركزة على قوة معارضة مركزية”.
وأظهر استطلاع للرأي نشر الأربعاء أن القائمة إذا ما رأت النور، فإنها قد تحصل على 12% من الأصوات وهي نتيجة إن صدقت تضع السترات الصفراء في المرتبة الثالثة بعد حزب الجمهورية إلى الأمام الحاكم وحزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان.
تحول حركة السترات الصفراء من مجرد حركة احتجاجية إلى حزب سياسي، من شأنه أن يقلب الخريطة السياسية في فرنسا، ويعيد تشكيلها مجددًا خاصة أن شعبية هذه الحركة ما فتئت تتصاعد في ظل استجابة الحكومة لأغلب مطالبها.