أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قبل أسبوعين، بدء تنفيذ خطة إدارته لسحب القوات الأمريكية من سوريا، ليُضفي المزيد من التوقعات وحالة الفضول الشديدة عن مآل سيطرة قوات سوريا الديمقراطية وسيناريوهات الحكومة المُحتملة في المنطقة.
ركونًا إلى سيطرة الولايات المتحدة الدبلوماسية والعسكرية على المنطقة، يبدو أن سيناريوهات الحوكمة فيها ترتبط إلى حدٍ كبير بتوجهات الإدارة الأمريكية حيال المنطقة التي تشكّل محطة جيوإستراتيجية توفر تموضعًا حيويًا في المنطقة من خلال تمركزها في مثلث حدودي يربط سوريا والعراق وتركيا ببعضها بعضًا، وتزخر بالمواد الريعية، وبالأخص القمح والنفط والموارد المائية.
ربما يرتبط التوجه الأمريكي ـ الدولي الإستراتيجي حيال مصير المنطقة المذكورة بثلاثة محددات، هي: اقتناص حصة من النفط السوري الذي يقع ما يقارب 75% منه ضمن المنطقة التي تسيطر عليها “قسد”، وحماية أمن “إسرائيل” والحلفاء الخليجيين عبر تحقيق انتشار محلي وإقليمي تشاركي يوازن النفوذين الروسي والإيراني، وتحقيق حفاظًا على إستراتيجية “الاحتواء والتطويق” ضد مخاطر الجماعات الإرهابية والخصوم، لا سيما روسيا وإيران والصين، في سوريا.
وانطلاقًا من المحددات المذكورة، يبدو أن السيناريو الأكثر رجوحًا لدى الإدارة الأمريكية هو سيناريو “التحالف التكاملي” الذي يكفل تطبيق إستراتيجيتي “الاحتواء والتطويق” و”العصا الغليظة” ضد الخصوم حال خرجوا عن الإطار المرسوم.
سيناريوهات الحوكمة في منطقة شرق الفرات:
في ضوء السيناريو المذكور أعلاه، الذي كشفت مؤشرات عدة جوانب توجه واشنطن منذ قدومها إلى سوريا نحو تحقيقه، يمكن رصد سيناريوهات الحوكمة، أي السيناريوهات الخاصة بمآل شكل الحكم في منطقة شرق الفرات على النحو التالي:
ـ سيناريو “مهاباد”
يطرح هذا السيناريو إقدام “الإدارة الذاتية” على الابتعاد عن خطابات الفيدرالية التي أطلقتها من أجل خداع دمشق، وتجنب الغضب الأمريكي، والاتجاه، عبر الركون إلى التأييد الشعبي، صوب إعلان “سيادتها المُستقلة الكاملة” على المناطق التي تُسيطر عليها، بما يحول المنطقة التي تُسيطر عليها إلى دولة “أمر واقع” أو ما يُسمى “ديفاكتو”، أي دولة فعلية لكن غير شرعية أو غير معترف فيها، ومن خلال هذا الإعلان، تُثبت سيطرتها الفعلية، التي قد تقتنع بعض الدول ذات المصلحة، بها، وتنطلق نحو الاعتراف بها، ومع الوقت تُصبح دولة مُستقلة مُعترف بها.
في ظل الانحباس الجغرافي، لا يُتصور أن يكون إعلان الاستقلال إلا مقدمة لعكس حالة كردستان العراق
ويُحاكي هذا السيناريو مسألة إعلان جمهورية مهاباد، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث مال بعض القادة الأكراد، وبالأخص الزعيم الكردي قاضي محمد، إلى الاستفادة من نمو الحركة القومية التحررية الكردية، والعوامل الدولية القائمة على الصراع، لا سيما الصراع السوفياتي ـ البريطاني بشأن تقاسم النفوذ في إيران.
لكن عند التمعن في تفاصيل السيناريو، يُلاحظ مجافاته للواقع، لعدة عوامل:
ـ الانحباس الجغرافي: في ظل الانحباس الجغرافي، لا يُتصور أن يكون إعلان الاستقلال إلا مقدمة لعكس حالة كردستان العراق، حينما أعلن إجراء استفتاء الاستقلال في سبتمبر/أيلول 2017، حيث تعرض لحصار من الدول الإقليمية جعلته يتراجع عن ذلك، أيضًا، يمكن الإشارة إلى جنوب السودان، إذ تعاني هذه الدولة من حالة انحباس جغرافي اضطرها لتبقى خاضعة وتابعة للدولة الأم، كما جعلها مسرحًا للفوضى وانتشار الأمراض، وغيرها من الآفات التي قد تدفع أطراف كردية، سياسية وشعبية، لرفض إعلان حالة الاستقلال.
ـ ذات معادلة الصراع الدولي الخاصة بمهاباد: كان الهدف السوفياتي من البقاء في إيران لما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، هو الحصول على امتيازات نفطية، وهو ذات الهدف الأمريكي الذي يُضاف إليه رغبة الولايات المتحدة في تطبيق إستراتيجية “العصا الغليظة” بالاعتماد على “الاحتواء والتطويق”، بغية مواجهة النفوذ الإيراني.
وبذلك يمكن لموسكو إقناع واشنطن بالابتعاد عن دعم هذا السيناريو، من خلال دفع دمشق لمنحها امتيازات نفطية، بالإضافة إلى إظهار ذاتها على أنها دولة يُمكن أن تواجه إيران، فضلًا عن إمكان التلويح بإعاقة حل أوراق تشكّل خطرًا على الأمن القومي للولايات المتحدة؛ كورقة حل الأزمة الكورية.
في ذات السياق، تجدر الإشارة إلى أن التوجه الأمريكي لإبقاء إقليم “كردستان سوريا” بحاجة إليه، بعيدًا عن تحوله لدولة إقليمية يتنوع حلفائها عبر اتفاقيات اقتصادية واجتماعية وأمنية، ووجود عدة مؤشرات لانسحاب واشنطن ونضوب وجود مؤشرات دعمها لأي مشروع انفصالي.
تنعم دمشق، على العكس من بغداد سابقًا، بحليفين دوليين، روسيا والصين، يستعان بهما، مقابل امتيازات عسكرية ودبلوماسية واقتصادية، لإعاقة منح حالة الحكم الذاتي المُطلق
ـ الخلاف البنيوي الكردي الداخلي: قد تدفع حالة التخوف من الغموض الذي قد يولد فوضى عارمة بعد هذه الخطوة التي تم مواجهتها بحصارٍ خانق ضد إقليم “كردستان العراق”، الأحزاب السياسية، وبالأخص المجلس الوطني الكردي والمنظمات الشعبية، لمعارضة هذه الخطوة، لا سيما في ظل انعدام التوجه السياسي والشعبي لإعلان الاستقلال على نحوٍ كامل.
ـ انعدام التوافق الكردي الشعبي على عملية الاستقلال الكاملة، وشعور عدد كبير من المواطنين الأكراد بالانتماء السوري، فضلًا عن الشعور الجماعي باحتمال نشوب حالة فوضى عارمة في حال تم الإقدام على هذه الخطوة.
ـ انعدام تعدد الميزات الجيوسياسية والجيواقتصادية التي يمكن أن تقنع دول إقليمية أو كبرى لدعم مشروع الاستقلال.
ـ وجود تحرك تركي مباشر في سوريا لإجهاض هذا المشروع.
ـ سيناريو الحكم الذاتي “كردستان العراق”
يقوم هذا السيناريو على اقتراح تحول المنطقة ذات الكثافة الكردية في سوريا إلى ما يشابه حالة “كردستان العراق”، ليُصبح هناك “كردستان سوريا” المشابه لكردستان العراق الذي يتمتع بحق الاستقلال الذاتي تحت حكم نظام اتحادي يرتبط بسيادة الحكومة المركزية، مع الحفاظ على بعض جوانب الاستقلال السيادي الأمني والسياسي والاقتصادي الإقليمي.
وفي ضوء ما هو مطروح أعلاه، يُطرح سيناريو إعلان “كردستان سوريا” كحالة مشابهة لكردستان العراق، انطلاقًا من وجود سلطة أمر واقع “ديفكتو” كردية قائمة في سوريا، ووجود سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية في الإقليم، والمتبقي هو فقط اعتراف دستوري بالحكم الذاتي للإقليم، مع منحه حصة منتظمة من ميزانية سوريا السنوية كما هو الحال بالنسبة لكردستان العراق.
قد يبدو هذا السيناريو، من ناحية نظرية طرحية، واقعيًا وممكنًا، غير أنه من الصعب ترجيح قيامه، لعدة اعتبارات، ربما أبرزها:
احتمال ميلاد حالة تكاتف تركي ـ إيراني ضد هذا السيناريو، ضد هذا السيناريو
ـ تنعم دمشق، على العكس من بغداد سابقًا، بحليفين دوليين، روسيا والصين، يستعان بهما، مقابل امتيازات عسكرية ودبلوماسية واقتصادية، لإعاقة منح حالة الحكم الذاتي المُطلق، ويمكن لهذين الحليفين أن يضغطا على القطب الغربي من خلال أوراق مساومة في ميادين أخرى.
ـ الميل الأمريكي، في ظل الإدارتين السابقة والحاليّة، لتحقيق انعزالية وانسحاب تكتيكي من منطقة الشرق الأوسط، والتوجه نحو الشرق، أي شرق آسيا، حيث احتياطات الغاز الطبيعي الهائلة، وجغرافيا قريبة من المنافس الأكبر اقتصاديًا والساعي لفتك النفوذ الأمني والتجاري والمعلوماتي والتمويلي للولايات المتحدة، ألا وهي الصين، بعيدًا عن الغوص في حالة فوضى وتنافس في سوريا “غير المفيدة”.
ـ استمرار الوجود الفعلي لمؤسسات وقوات النظام السوري في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، كمؤشر لوجود سيادة فعلية للنظام.
ـ احتمال ميلاد حالة تكاتف تركي ـ إيراني ضد هذا السيناريو، كما ظهر للسطح إبان جنوح كردستان العراق للاستقلال في سبتمبر/أيلول 2017.
ـ سيناريو “الفيدرالية النسبية”
يميل هذا السيناريو إلى ترجيح سيناريو حكم الإدارة الذاتية المُستقلة نسبيًا، أو ما يُطلق عليه مُصطلح “حكم الفيدرالية”، اصطلاحًا يعني مصطلح الفيدرالية باللغة العربية الاتحادية.
وفي إطار الفيدرالية، تحظى الأقاليم بحق السيادة على حدودها الطبيعية، بما يشمل السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية، لكن يختلف السيناريو المطروح، أي سيناريو الفيدرالية النسبية”، مع التوجه النظري للفيدرالية، في نقطة نسبية أو جزئية السيادة الممنوحة للأقاليم، وتنبع صيغة السيناريو المطروح من الخطط التي طرحتها الدول الفاعلة في المسألة السورية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحادية الروسية، وتقوم صيغته على احتمال منح مناطق شرق الفرات استقلال إداري ثقافي أمني محدود، على أن تبقى متصلة سياسيًا بنظام حكم مناطق مع دمشق.
يُلاحظ أن الخطة الأمريكية الموضحة جوانبها ضمن سيناريو الانتشار التشاركي، تؤمن بالفيدرالية اللامركزية، لكن وفقًا لحكم المجالس الإدارية الشرعية التي يتم تشكيلها وتأسيسها عن طريق انتخابها من سكان المناطق
وإلى جانب الخطط، يُلاحظ من التحركات التي أبدتها الدولتان حيال سوريا، أنّ سيناريو الفيدرالية النسبية فعلًا هو السيناريو المُرشح منها، أيضًا، تجدر الإشارة إلى أن سيطرة الإدارة الذاتية على مساحاتٍ واسعة من المناطق، باتت فعلية وبحاجة إلى تسوية دولية وداخلية لتحويلها لشرعية وفقًا لمصالح الأطراف الفاعلة، لا سيما في ظل منادة الأحزاب الكردية الفاعلة بحكم الفيدرالية، فضلًا عن كونها تأتي في إطار تمثيل الولايات المتحدة على نحوٍ غير مباشر، لذا لا بد من التوصل إلى سيناريو يُمثل الحل الوسط بين حرص روسيا على إبقاء سوريا وحدة جغرافية واحدة، ورغبة الولايات المتحدة في الإبقاء على نفوذ نسبي جزئي يضمن لها فائدة من مقدرات سوريا النفطية، ويحفظ أمن حلفائها (الدول الخليجية و”إسرائيل”) الذين يريدون تقليم نفوذ إيران في المنطقة.
وانطلاقًا من الواقعية السياسية، واستنادًا إلى ملف إعادة الإعمار، كسلاح ضغط على النظام السوري وداعمه الروسي، تسعى الولايات المتحدة لإتمام عملية بناء مجتمع ينعم بالتعددية السياسية في إطار حكم المجالس الإدارية الديمقراطية التي تساهم في الحد من النفوذ الإيراني، وتقضي على مسببات ظهور تنظيمات متشددة كتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
ويُلاحظ أن الخطة الأمريكية الموضحة جوانبها ضمن سيناريو الانتشار التشاركي، تؤمن بالفيدرالية اللامركزية، لكن وفقًا لحكم المجالس الإدارية الشرعية التي يتم تشكيلها وتأسيسها عن طريق انتخابها من سكان المناطق، وترى الورقة أن هذه الخطة لا تعني أن يتم تنفيذها في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية فقط، بل يمكن تأسيس في مناطق سيطرة قوات المعارضة الموالية لأنقرة أيضًا.
وبإمكان تنفيذ هذه الخطة ودسترتها، من خلال الركون إلى الضغط على روسيا والنظام السوري عبر ورقة إعادة الإعمار، حيث تُشير التقديرات إلى أن تكلفتها تبلغ 250 مليار دولار، وبالتالي لا تستطيع موسكو تحملها دون سماح الولايات المتحدة للمؤسسات التمويلية التي تتبعها، صندوق النقد والبنك الدوليين، لتمويل جزء كبير منها، أو دون سماح الولايات المتحدة بعقد مؤتمر تمويلي يتضمن رفع الحصار الاقتصادي المفروض على النظام السوري الذي يصعب عليه استقبال أموال إعادة الإعمار وتفعيلها دون رفع الحصار عنه.
وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن أنقرة التي تقبل بالمجلس الوطني الكردي، التي حاولت التفاوض مع الاتحاد الديمقراطي مطلع عام 2014، لا تعارض التوجه الدولي نحو إقامة استقلال نسبي، لكنها ترفض الهيمنة الكامل للاتحاد الديمقراطي، انطلاقًا من ارتباطها العضوي بالعمال الكردستاني، أيضًا ترفض توجه الاستقلال أو ميلاد كردستان عراق جديد.
وتبيّن المؤشرات أدناه واقعية ذلك التوجه:
ـ ميل واشنطن لتأسيس مجلس حكم محلي في مدينة منبج ومناطق الرقة.
دفع “قسد” للسيطرة على مناطق عربية، تحوي مقدرات ريعية، كتلك المناطق الواقعة في الرقة والريف الشرقي لدير الزور، ما يوحي بقوة بوجود توجه أمريكي نحو تطبيق سيناريو الحكم المناطقي الفيدرالي البعيد عن منح حكم ذاتي بصبغة “كردستان العراق”
ـ غضها الطرف عن سيطرة أنقرة على عفرين التي تقع غربي الفرات، حيث لا أولوية أمريكية لهذه المنطقة، وبالتالي لا حاجة لدعم سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي هناك.
ـ تأسيس قوات سوريا الديمقراطية بخليط ديموغرافي، عربي وكردي، وغيرها من الأعراق.
ـ دفع “قسد” للسيطرة على مناطق عربية، تحوي مقدرات ريعية، كتلك المناطق الواقعة في الرقة والريف الشرقي لدير الزور، ما يوحي بقوة بوجود توجه أمريكي نحو تطبيق سيناريو الحكم المناطقي الفيدرالي البعيد عن منح حكم ذاتي بصبغة “كردستان العراق”.
ـ دفع مجلس سوريا الديمقراطي للتفاوض مع دمشق عشية لقاء هلسنكي الذي تم بين الرئيسين ترامب وبوتين