ترجمة وتحرير: نون بوست
لقد عاد اللبنانيون مجددا إلى الشوارع وسط تنامي الإحساس بالإحباط من فشل الطبقة السياسية، ما ينذر ببروز موجة جديدة من الحركات الاحتجاجية. وقد أدرك المتظاهرون أن الاحتجاجات هي الطريقة الوحيدة التي ستمكنهم من التعبير عن مخاوفهم حول العديد من المسائل، وفي الوقت الحالي يسعى اللبنانيون الساخطون إلى الاتحاد معا من أجل إيجاد رؤية أوضح يمكنهم نقلها من الشوارع إلى مواقع السلطة. لكن السؤال المطروح هو: هل بإمكان مجموعات من المجتمع المدني المتباينة والسياسيين الخارجيين إيجاد طريقة للاتحاد سويا وإحداث تغيير حقيقي في النظام السياسي الراكد في لبنان؟
لقد مرت ثمانية أشهر على تنظيم الانتخابات البرلمانية لأول مرة في لبنان منذ تسع سنوات. وعوض أن يشهد نظام الحكم انتعاشة، انزلق لبنان نحو التطهير السياسي في ظل فشل السياسيين في تشكيل حكومة. ولكن هذا الوضع مألوف في بلد غالبا ما تتسبب فيه الطائفية والزبائنية في تعطيل عمل الحكومة.
في مقابلة لها مع موقع “ميدل إيست آي”، صرحت بولا يعقوبيان، وهي النائبة الوحيدة من القائمة المستقلة التي انتخبها الشعب في شهر أيار/ مايو الماضي، بأنه “لا بد من تشجيع اللبنانيين على غض النظر عن السياسيين الذين يعتمدون على نظام حكم الزبائنية والتركيز أكثر على إنشاء هيكل يستند بقوة على القاعدة الشعبية”.
امرأة تضع قناعا كتب عليه “انتفاضة سعيدة” احتجاجا على الحكومة، وهي عبارة مستوحاة من مظاهرات السترات الصفراء في ساحة الشهداء في وسط بيروت
في الوقت الحالي، بدأت المظاهرات تجوب الشوارع مرة أخرى. ويوم الأحد الماضي، توجه الآلاف من المتظاهرين نحو وزارة المالية في بيروت للاحتجاج على خطط مشبوهة لرفع ضريبة القيمة المضافة وتخفيض الدعم على الوقود. وقد أكد كل من الحزب الشيوعي اللبناني ونقابات العمال ومجموعة من الجماعات المستقلة أن هذا الاحتجاج هو الأكبر في سلسلة الاحتجاجات، التي بدأت منذ أكثر من شهرين.
خلال الأسبوع الماضي، احتج العشرات من الطلاب على الوضع الاقتصادي وارتفاع رسوم التسجيل في الجامعات. وقبل أيام، طالب المئات بتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية في احتجاج ضد وزارة العمل في بيروت ووزارة الصحة. كما شارك الآلاف في مظاهرتين منفصلتين خلال الشهر الماضي، بما في ذلك مظاهرة ارتدى فيها الكثيرون السترات الصفراء في إشارة إلى المتظاهرين الفرنسيين في باريس، الذين أطلقوا على احتجاجاتهم اسم “السترات الصفراء”.
في الواقع، لا يوجد أي مؤشر يدل على إمكانية تراجع وتيرة المظاهرات، خاصة بعد أن أعلن النشطاء عن تنظيم مسيرة أخرى في الثاني من شباط/ فبراير. وتمثل هذه الاحتجاجات أكبر سلسلة تحركات وقعت في بيروت منذ سنة 2015، التي كانت ضد سوء إدارة قطاع النفايات الصلبة التي تسببت في تراكم القمامة في شوارع العاصمة. وقد عبر عشرات الآلاف من اللبنانيين عن مطالب واسعة النطاق لوضع حد للفساد وإسقاط النظام السياسي الطائفي الذي يتبعه لبنان منذ الاستقلال.
عضوة البرلمان اللبناني المستقلة بولا يعقوبيان
لم تُلبى مطالب المتظاهرين بأي طريقة. ووفقا لمنظمة الشفافية الدولية، تفشت مظاهر الفساد في البلاد ولا يزال النظام الطائفي قوياً، وهو ما أظهرته انتخابات أيار/ مايو. كما أن القمامة التي كانت سببا في خروج المواطنين إلى الشوارع باتت ترمى في مكبات النفايات الساحلية وتلوث البيئة. وبفضل احتجاجات 2015، برزت مجموعة مهمة من الجماعات المستقلة التي شاركت منذ ذلك الحين في الانتخابات البلدية والوطنية.
الأمر يتعلق بالاقتصاد وبالعديد من الأمور الأخرى أيضا
ظهرت موجة الاحتجاجات الجديدة لإيجاد حل للانهيار الاقتصادي في البنان، خاصة وأن المتظاهرين يعتقدون أنهم هم من سيتحملون عواقب ذلك. في هذا السياق، أفاد نزار حسن، وهو عضو في حركة “لحقي” المستقلة الذي ترشح في انتخابات أيار/ مايو، بأن “الناس احتشدوا في الشوارع بناء على مصالحهم المشتركة، وليس بناء على القيم المثلى فحسب”.
حذر مسؤولون من بينهم وزراء الاقتصاد والمالية من أن البلاد بحاجة إلى إحداث إصلاحات جادة لمنع الانهيار. وعلى الرغم من تعهد المجتمع الدولي بتقديم قروض تتجاوز قيمتها 11 مليار دولار إلى لبنان من أجل تنفيذ مشاريع متعلقة بالبنية التحتية في مؤتمر عُقد في شهر نيسان/ أبريل، إلا أن الأوضاع ازدادت سوءا. ومن أجل الحصول على هذه القروض لابد من تشكيل مجلس وزراء.
قال جان قصير، وهو عضو في شبكة نشطاء شبان تعرف باسم “مدى” التي شاركت في تنظيم احتجاج في وقت سابق من هذا الشهر: “لقد عملنا من بعيد لوضع بيان سياسي واضح المعالم يُحمّل النظام المسؤولية عن الفوضى التي نواجهها حاليا”.
في هذا الصدد، بين حسن أن “لبنان أصبح الآن في مرحلة انتقالية تاريخية، حيث يتعين على الطبقة الحاكمة إما التملص من إخفاقات سياساتها وإعادة توزيعها بطريقة غير عادلة، أو تحمل مسؤولية أفعالها”. وأضاف حسن أنه “يجب أن يدفع الأشخاص الذين استفادوا من هذا النموذج الاقتصادي لعقود من الزمن ثمن هذه الأزمة، تحديدا الشركات العقارية والبنوك والشركات الكبرى التي دفعت ضرائب قليلة”.
في حين أن هناك ما يبرر القلق بشأن الأوضاع الاقتصادية، حذر كلود جبر، وهو عضو في حركة “طلعت ريحتكم” الذي قاد الاحتجاجات سنة 2015، من أن التركيز على الانهيار الاقتصادي قد يؤدي في النهاية إلى خدمة مصالح السياسيين. كما أشار جبر إلى أن “السياسيين غالبا ما يستخدمون تكتيكات الخوف، أو ما يطلق عليها “عقيدة الصدمة”، وهم يزعزعون الاستقرار ثم يمررون القوانين التي يريدونها”.
في سياق متصل، أفاد كلود جبر بأن المسؤولين يرغبون على الأرجح في خصخصة مؤسسات القطاع العام في لبنان، بما في ذلك خدمات المياه والكهرباء. وستحاول الحكومة تسويق هذه المؤسسات إلى العامة باعتبارها السبيل الوحيد للخروج من الأزمة، ولكن “لن نسقط في هذا المأزق”.
الشارع ليس الهدف
في حين أعرب النشطاء والسياسيون المستقلون عن حماسهم بشأن العودة إلى الشوارع، أخبر كثيرون “موقع ميدل إيست آي” أن ما يحدث حول طاولات النقاش وقاعات المحاضرات لا يقل أهمية عن المظاهرات في الشارع. وقال جان قصير، وهو عضو في شبكة نشطاء شبان تعرف باسم “مدى” التي شاركت في تنظيم احتجاج في وقت سابق من هذا الشهر: “لقد عملنا من بعيد لوضع بيان سياسي واضح المعالم يُحمّل النظام المسؤولية عن الفوضى التي نواجهها حاليا”.
إلى جانب ذلك، أشار جان قصير إلى أن مجموعته ركزت في الآونة الأخيرة على مسائل مثل فرض الضرائب التصاعدية وتجميد الزيادات الكبيرة في رسوم التعليم الجامعي وإعادة هيكلة الديْن العام في لبنان. وتجدر الإشارة إلى أن لبنان يمتلك ثالث أعلى نسبة من الدين العام من حجم الناتج المحلي الإجمالي في العالم، التي تقدر بحوالي 150 في المائة. ومن المتوقع أن تستأثر خدمة الديون على نصف ميزانية الحكومة هذه السنة.
يحمل المتظاهرون اللبنانيون المناهضون للحكومة علم لبنان، مستوحين احتجاجاتهم من حركة “السترات الصفراء” الفرنسية، بينما تراقبهم شرطة مكافحة الشغب في ساحة الشهداء وسط بيروت.
أكد جان قصير أنه نظرا “لوجود أكثر من ألفي مطلب مختلف، أردنا أن ننزل إلى الشارع برؤية سياسية موحدة”. للقيام بذلك، خططت شبكة “مدى” لتنظيم سلسلة من المحاضرات حول الاقتصاد وحرية التعبير وقضايا الطلاب، “لجمع الناشطين والمثقفين معا وتحديد البدائل التي نريد العمل بها”.
على الميدان، يسعى نشطاء مثل رين نمر، وهي من المُنظِمات النسويات لهذا الحدث التي سبق لها المشاركة في الاحتجاجات لسنوات، إلى تقريب وجهات نظر أصحاب الخبرات الذين ينتمون إلى مجموعات لا تشترك في نفس الإيديولوجيات من أجل المصلحة الكبرى للمجتمع.
حيال هذا الشأن، قالت رين نمر إنها تعمل على جمع معلومات حول المساعدات الطبية في الشوارع لعلاج أولئك الذين قد يصابون في الاحتجاجات في المستقبل. وأضافت نمر “في الآونة الأخيرة، كنت ألتقي بأشخاص من هذه الأوساط المترابطة، لذلك يكفي أن نعلمهم القليل من هذه الخبرات”، مشيرة إلى أنها كانت تخطط لتنظيم تدريبات على الإسعافات الأولية مع الصليب الأحمر مخصصة لهذه المجموعة.
التلاعب بالسياسة
مثلت الانتخابات اللبنانية التي عقدت خلال شهر أيار/ مايو مناسبة للحركات المستقلة، التي انبثقت عن الاحتجاجات التي اندلعت سنة 2015، للمشاركة في الانتخابات البرلمانية وتقديم مرشحيها. وقد رشحت هذه الحركات 66 شخصا على قوائمها في تسع دوائر انتخابية من الدوائر الخمس عشرة في البلاد، لكنها فازت بمقعد واحد فقط شرق بيروت.
شارك عضو البرلمان اللبناني عن التنظيم الشعبي الناصري أسامة سعد في الاحتجاجات الأخيرة. وقد أخبر سعد موقع “ميدل إيست آي” أنه “بإمكان المواطنين تصنيف الأمور كما يريدون، لكننا نتحدث عن حركة وطنية ضد الطائفية”.
وفي تصريح لها لموقع “ميدل إيست آي”، أفادت النائبة البرلمانية بولا يعقوبيان بأنها تعمل على إقناع الأشخاص الذين ينتمون إلى الأحزاب التقليدية بتغيير توجههم والعمل كمستقلين. ومن جهته، أكد كلود جبر أن المرشحين المستقلين سوف يكسبون عن طريق استقطابهم أعضاء من أحزاب أخرى يهدفون للإصلاح ولن يكونوا حكرا على حزب معين.
في سياق متصل، أوضح جبر أن “هؤلاء الأعضاء يعرفون كيف يعمل النظام جيدا وغالبا ما يكون التعامل معهم أسهل من الشباب غير المسيّس الذي يصب جل اهتمامه على مغادرة البلاد، الأمر الذي قد يكون أكثر خطورة”. لقد توسعت موجة الاحتجاجات ويظهر ذلك من خلال مسيرة وقعت في وقت سابق من هذا الشهر في الضاحية الجنوبية، وهي منطقة فقيرة يتجنبها بعض اللبنانيين نظرا لأنها تخضع لسيطرة حزب الله. وكما هو الحال دائما في لبنان، لا تعتبر مسألة توحيد المجموعات التي لا تتشارك نفس الأيديولوجيات مهمة بسيطة، كما أن التاريخ يلعب دورا كبيرا فيما يتعلق بهذه المسألة.
وفقا لحسن، من المتوقع أن يعرف المشهد السياسي اللبناني بعض التغييرات، حيث يسعى الحزبان المقربان تاريخيا من الحكومة السورية، وهما الحزب الشيوعي والتنظيم الشعبي الناصري في لبنان، إلى الابتعاد عن الأحزاب اللبنانية التقليدية الموالية لدمشق مثل حزب الله. كما قال حسن “إنهم يتخذون موقفا مختلفا ضد النخبة الحاكمة، لكن ذلك لا يعني أن الماضي أصبح طي النسيان”. من جهته، أكد جبر أنه يتفق مع الكثير من الخطابات الأخيرة لهذين الحزبين، مؤكدا “لن نتقيد بهم، بسبب تاريخهم”.
رفع علم الحزب الشيوعي اللبناني خلال احتجاج على المشاكل الاقتصادية والسياسية في البلاد، في بيروت
لقد شارك عضو البرلمان اللبناني عن التنظيم الشعبي الناصري أسامة سعد في الاحتجاجات الأخيرة. وقد أخبر سعد موقع “ميدل إيست آي” أنه “بإمكان المواطنين تصنيف الأمور كما يريدون، لكننا نتحدث عن حركة وطنية ضد الطائفية”. وأضاف سعد أنه “لا يوجد حلفاء لهذه الحركة من الطبقة السياسية نظرا لأنهم يتحملون جميعا مسؤولية ما يحدث اليوم”.
كما عبر الأمين العام للحزب الشيوعي حنا غريب عن نفس الموقف، قائلا “لا نحتاج لتقديم أنفسنا لأننا جزء من مشروع مستقل، فنحن حزب علماني ونريد دولة مدنية. يجب علينا أن نجتمع، وإذا كنت تريد الدفاع عن حقوقك والمطالبة بسياسات اقتصادية سليمة، اذهب إلى الشارع وستجدني هناك”.
من جهته، قال الناشط جان قصير إن “الأصوات المتباينة لا يجب أن تشكل معضلة”. ومن المهم أن تدرك الطوائف المختلفة أنها غير ملزمة بتسوية وجهات نظرها المختلفة وتصبح كتلة مستقلة واحدة، حتى لو كانت تنتمي إلى نفس القائمة كما حدث في انتخابات أيار/ مايو. وأضاف قصير “نحن نختلف على الكثير من الأمور، وهذا أمر عظيم لتعزيز سياسة حقيقية في البلاد”.
المصدر: ميدل إيست آي