تنجلي الحرب عن البلدان والمدن، مخلفة وراءها ضحايا وقتلى وجرحى، لكن المؤلم هي الإعاقات التي تبقى مستمرة في المجتمعات، خصوصًا ما يتعلق بالإعاقات البدنية والنفسية والذهنية، وما تتبعه على الأهل من تحمّل تكلفة علاج أولادهم الذين أصيبوا بحربٍ لا ناقة لهم ولا جمل، إلا أن بلدهم ومدينتهم كانت حلبة صراع لدول أخرى، فدفعوا هذه التكلفة الباهظة من أعمارهم وصحتهم وصحة أولادهم، لتستمر المعاناة لعقود متتالية.
تأثير الحرب على عقلية الطفل
تعتبر الأزمات التي تعصف بالبلدان ذات تأثيرات متعددة، فهي تؤثر على اقتصاد البلد ووضعه الاجتماعي، وكذلك تؤثر على الوضع النفسي للكبار قبل الصغار.
الأستاذ في علم النفس عبد المنعم الخطيب، أفاد قائلاً: “إذا كانت ظروف الكوارث فوق طاقة الكبار فهي بشكل مضاعف فوق طاقة تحمل الصغار، وفي هذا الجزء نقدم ظروف الأطفال في ظل الكوارث والأزمات وانعكاساتها النفسية والمعرفية والسلوكية على ذات الطفل وآليات التدخل السريع للحد منها والدور الذي يقع على الأسرة والمؤسسات التطوعية وقت الكارثة”.
العراق شهد حروبًا متعاقبة وظروفًا أمنية قاسية، وآخرها سقوط عدد من محافظاته بيد تنظيم داعش، واستمرت لسنوات تحت وطأة حكمه، مما سبب ابتعاد الأطفال عن المدارس
وأضاف الخطيب “تشكل ظروف الكوارث والأحداث الصادمة اهتزازًا للثقة بالنفس وبالآخرين، فشعور الطفل بالخطر الذي يهدد حياته والخوف والقلق المتزايد الذي يؤثر في سلوكه ومزاجه يكون لديه العديد من ردود الفعل الحادة على الصعيد النفسي والاجتماعي، مثيرة بذلك أزمة وصدمة نفسية للطفل، تجعله يصبح ضحية الخوف الشديد والكوابيس والكآبة وغيرها من الاضطرابات الانفعالية، وهم في أمس الحاجة للمساندة النفسية ليس من الأهل فقط أو من الاختصاصيين النفسيين إنما أيضًا من المتطوعين وفرق الطوارئ والأطباء الذين يوجدون باستمرار في مواقع الأحداث، فتلك المعلومات في غاية الأهمية ويجب أن ندركها جميعًا لتتوج جهودنا المهنية والوطنية بالنجاح والتميز”.
فالعراق شهد حروبًا متعاقبة وظروفًا أمنية قاسية، وآخرها سقوط عدد من محافظاته بيد تنظيم داعش، واستمرت لسنوات تحت وطأة حكمه، مما سبب ابتعاد الأطفال عن المدارس، ولم تنته أزمتهم بسهولة، ولكنها انقضت برحيل عدد كبير من أقربائهم، بالإضافة لدمار مدنهم، مما سبب أزمات نفسية وإعاقات بدنية.
لم نصل إلى أرقام حقيقية عن عدد المصابين بالإعاقات الذهنية والنفسية جرّاء الحروب المتعاقبة، ولكن أفاد أحد الناشطين أنه في حي صغير من أحياء الموصل، اطلع على ما يقرب من 135 حالة إعاقة، في حي صغير جدًا، يوجد هذا العدد الكبير! فكيف لو أجرينا مسحًا عامًا على الموصل بشكل عام، ستكون الأرقام مخيفةٌ ومرعبة، وإذا نظرنا إلى العراق بشكل عام لكانت هناك حالات كبيرة لا تستطيع مؤسسات بسيطة أن تستوعبها.
أحد الصفوف الخاصة في مدينة سامراء العراقية
لمحة موجزة عن صفوف التربية الخاصة
تغيب في العراق بشكل عام المراكز والمعاهد والمدارس المتخصصة التي تهتم بذوي الاحتياجات الخاصة، وتحديدًا الإعاقات الذهنية والنفسية، ولكن ما زالت توجد في المدارس العراقية ما يعرف بصفوف التربية الخاصة، ولكن بشكل نادر لا يُلبي حاجة الناس وحجم الأشخاص المصابين بهذه الأمراض جراء الحروب المتعاقبة والأزمات المتكررة منذ ما يقرب عقدين من الزمن.
يشخص المعلم المختص الحالات التي تستوجب تحويل التلاميذ إلى صفوف التربية الخاصة، حيث يتم نقلهم بعد فترة معينة من الصفوف الاعتيادية إلى الصفوف الخاصة، ويعتمد تشخيص التلميذ على معايير تتعلق بحركته داخل الصف وتقبله أو استيعابه للمادة
وصفوف التربية الخاصة تستقبل الأطفال الذين يعانون من بطء التعلم أو صعوبة النطق أو الخجل الاجتماعي، وكذلك ضعف السمع أو حالات زرع القوقعة أو ضعف البصر وكذلك الطفل البطيء الحركة، إلى جانب حالات التوحد البسيطة وحالات خاصة من العوق الفيزيائي، وهذا أيضًا يعتمد على طلب الأهل وموافقتهم، وكذلك الأطفال الذين لديهم انخفاض في مستوى الذكاء أو التخلف العقلي البسيط.
ويتم فتح صفوف التربية الخاصة في المدارس إذا توافر وجود معلمة للتربية الخاصة وطلاب يتراوح عددهم من 6 إلى 14 طالبًا وهذا ما يجعل مديرية التربية توافق على فتح صف خاص في مدرسة معينة، فليست كل المدارس مشمولة بنظام التربية الخاصة.
يشخص المعلم المختص الحالات التي تستوجب تحويل التلاميذ إلى صفوف التربية الخاصة، حيث يتم نقلهم بعد فترة معينة من الصفوف الاعتيادية إلى الصفوف الخاصة، ويعتمد تشخيص التلميذ على معايير تتعلق بحركته داخل الصف وتقبله أو استيعابه للمادة، أو يتم نقل البعض منهم بعد تكرار رسوبهم في صف معين، ويتعرف المشخص على الحالة النفسية للطفل معتمدًا على دراسة الحالة الاجتماعية والأسرية له، كما يتم التعرف على حالته الصحية أو إذا كان يعاني من مرض معين مثل مرض القلب أو غيره، بعد ذلك تستمر كتابة الملاحظات اليومية التي يقوم بها معلم الصف المختص، وكذلك التقارير الشهرية والتقارير التي يقدمها المعلم المسؤول عن التشخيص وتحديد من هم بحاجة لضمهم بالصفوف الخاصة.
كل ذلك بدوره يساعد كثيرًا اللجان الطبية التي تأتي فيما بعد للكشف على التلاميذ ليتم تحويلهم وبشكل نهائي بعد قرار اللجنة الطبية إلى صفوف التربية الخاصة.
المشاكل التي تواجه صفوف التربية الخاصة
رغم أن العاصمة بغداد شهدت في السنوات الأخيرة افتتاح مدارس للتربية الخاصة لكنها تبقى بصورة قليلة ومخجلة، وفضلًا عن أن بعض المحافظات يوجد بها صفوف للتربية الخاصة، لكنها تعاني من مشاكل عديدة، منها نقص الأدوات التعليمية والوسائل التوضيحية، بالإضافة لعدد الصفوف القليلة في أبنية المدرسة، وكذلك نقص كبير في المقاعد ووسائل الراحة من تدفئة وتبريد وغيرها، وتخوف الأهالي من نظرة المجتمع إلى أبنائهم التي قد تستمر إلى ما بعد هذه المرحلة.
هذه المشاكل التي نتحدث عنها قد تنطبق على محافظات العراق باستثناء مدينة الموصل التي دمّر فيها عدد كبير من المدارس، فتربية نينوى قبل الحرب الأخيرة كانت تضم ما يقرب من 115 مدرسة للتربية، موزعة بين مركز المدينة وخارجها، وعدد المستفيدين منها 1725 طفلًا، وعدد المعلمين القائمين على هذه الصفوف ما يقرب 224 معلمًا ومعلمة.
تعتبر الحروب حالة استثنائية في كل البلدان، لكن آثارها مستمرة لسنوات وعقود على الأصعدة كاقة، وتأثيرها القوي يكون على الصعيد الاجتماعي والنفسي والذهني
لكن المدينة اليوم تشهد حالًا مُزريًا في ملف التعليم، فقد تعرض عدد كبير منها للتدمير بشكل كامل وعدد آخر بشكل جزئي، وأصبح عدد الطلبة في الصف الواحد يزيد على 60 طالبًا، وغابت صفوف التربية الخاصة وقل الاهتمام بها، رغم أن الحاجة ملحةٌ لوجودها بعد الحرب، بسبب الأعداد الكبيرة للمعاقين جسديًا ونفسيًا وذهنيًا.
حلول ومقترحات
تعتبر الحروب حالة استثنائية في كل البلدان، لكن آثارها مستمرة لسنوات وعقود على الأصعدة كافة، وتأثيرها القوي يكون على الصعيد الاجتماعي والنفسي والذهني، بما أن الواقع لا مفر منه، علينا أن ننظر للواقع ونعطي حلولاً لمشاكلنا، وبما أن قضيتنا اليوم تتعلق بالإعاقات الذهنية والنفسية، وفي هذه القضايا تكون المسؤولية ملقاة على الجميع ابتداءً بوزارة التربية والمنظمات التطوعية والمؤسسات التعليمية الخاصة.
يقع الدور الكبير على الإعلام الذي يأخذ دوره بتوعية الناس بضرورة تسجيل أولادهم المصابين بالإعاقة الذهنية في صفوف التربية الخاصة، ومطالبة مديريات التربية بالقيام بهذا الواجب، بتوفير بيئة مناسبة لهؤلاء الطلبة، ويتوجب على وزارة التربية توفير مدارس للتربية الخاصة والاعتناء بها، لا سيّما في المناطق المتحررة من تنظيم داعش، لأن حاجة الناس لها ضرورية جدًا، واختيار كادر متخصص في تعليم هذه الفئة.
أما دور المؤسسات التطوعية والخيرية فيكون بتقديم مشاريع لاحتواء هذه الفئة من الأطفال الموجودة بشكل كبير في العراق وخصوصًا في المناطق المنكوبة كالموصل وغيرها، والمدارس الأهلية يقع على عاتقها مسؤولية توفير صفوف للتربية الخاصة، وتكون أجورها مناسبة، بحيث يستطيع أصحاب الدخل المتوسط إدخال أولادهم في هذه المدارس، بالإضافة إلى إنشاء معاهد ومراكز متخصصة في هذا المجال.