في 29 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي حث رئيس الوزراء الأيرلندي سايمون هاريس الاتحاد الأوروبي لإعادة النظر في العلاقات التجارية مع الكيان الإسرائيلي بسبب انتهاكاته التي لا تتوقف في غزة، الدعوة ذاتها طالبت بها حكومات كل من إسبانيا وبلجيكا وسلوفينيا وغيرها، التي اتخذت إجراءات عملية لتقويض العلاقات الاقتصادية مع تل أبيب.
هذا على المستوى الرسمي، أما على مستوى المجتمع المدني فطالبت أحزاب سياسية في تلك البلدان بوقف استيراد المحاصيل والسلع من المستوطنات الإسرائيلية المقامة فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة، فيما حدد حزبا “شين فين” و”الديمقراطيون الاجتماعيون” الأيرلنديان جلسة خاصة في برلمان بلادهم الأسبوع المقبل لمناقشة مشروع قانون الأراضي المحتلة، وبحث قرار منع الواردات الإسرائيلية في ظل استمرار حرب الإبادة ضد الفلسطينيين.
أما على الجهة الأخرى، فتشير البيانات الرسمية الصادرة عن مكتب الإحصاء الإسرائيلي إلى زيادة كبيرة في حجم العلاقات التجارية بين دول التطبيع العربية و”إسرائيل” خلال العام الأول من الحرب، مقارنة بما كانت عليه قبل عملية طوفان الأقصى، إذ وصل حجم التبادل التجاري (صادرات وواردات دون ألماس) بين خماسي التطبيع (الإمارات – مصر – المغرب – الأردن – البحرين) و”إسرائيل” إلى 4 مليارات دولار، خلال الأشهر العشر الأولى من الحرب (أكتوبر/تشرين الأول 2023 – أغسطس/آب 2024) مقارنة بـ3.6 مليار دولار خلال الفترة ذاتها من عامي 2022/2023 بزيادة قدرها 400 مليون دولار.
ففي الوقت الذي تطالب فيه بلدان غير عربية بإعادة تقييم العلاقات التجارية مع دولة الاحتلال كإحدى أوراق الضغط، لإجبارها على وقف الحرب المتوحشة التي تمارسها ضد المدنيين العزل في غزة، إذ بالدول العربية تهرول نحو تعزيز تعاونها الاقتصادي مع تل أبيب، لإنعاش خزائن حكومة الحرب التي تنفق منها على قتل الأطفال والنساء في القطاع.. تناقض يعكس وبشكل كبير المستوى المتدني الذي وصل إليه الخذلان العربي الفاضح.
طفرة في حجم التبادل التجاري.. أرقام فاضحة
بحسب البيانات الرسمية الإسرائيلية:
– بلغت صادرات الدول العربية الخمسة المطبعة إلى دولة الاحتلال 2.89 مليار دولار خلال الفترة من أكتوبر/تشرين الأول 2023 حتى نهاية أغسطس/آب 2024، بزيادة قدرها 122 مليون دولار مقارنة بنفس الفترة من عامي 2022/2023.
– بلغت واردات “إسرائيل” لتلك البلدان 1.1 مليار دولار خلال الفترة المذكورة مقارنة بـ923 مليون دولار خلال نفس الفترة من العامين الماضيين، بزيادة قدرها 177 مليون دولار.
– احتلت الدول الموقعة على اتفاق أبراهام (الإمارات – البحرين – المغرب) مرتبة الصدارة في حجم التبادل التجاري مع الاحتلال، والذي بلغ قرابة 3 مليارات و54 مليون دولار، بما يمثل نحو 76.3% من حجم التبادل التجاري للدول الخمسة المطبعة مع “إسرائيل” خلال الحرب والبالغ 4 مليارات دولار.
– بلغت صادرات الدول الثلاثة لـ”إسرائيل” خلال الأشهر العشر الأولى من حرب غزة 2.4 مليار دولار، فيما وصلت واردات “إسرائيل” لتلك البلدان إلى 652 مليون دولار.
– تأتي الإمارات على رأس قائمة الدول الأكثر تبادلًا للتجارة مع “إسرائيل” خلال الحرب، حيث وصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى 2.8 مليار دولار خلال الفترة المذكورة، منها 2.2 مليار دولار قيمة الصادرات الإماراتية للكيان المحتل بزيادة تبلغ 122 مليون دولار عن الفترة ذاتها من عامي 2022/2023، فيما بلغت الواردات الإسرائيلية للإمارات 516.1 مليون دولار، مقارنة بـ645.5 مليون دولار في نفس الأشهر من العامين الماضيين.
– أما البحرين فضاعفت حجم تبادلها التجاري مع “إسرائيل” خلال أشهر الحرب العشر الأولى بنسبة 950%، حيث وصل إلى 109.6 مليون دولار مقارنة بـ12.3 مليون دولار خلال الفترة ذاتها من العامين الماضيين، منها 102.4 مليون دولار قيمة الصادرات البحرينية لـ”إسرائيل” (كانت 9.6 مليون دولار خلال العامين الماضيين) في مقابل 7.2 مليون دولار واردات إسرائيلية (كانت 2.7 مليون دولار عن الفترة نفسها قبل عامين بزيادة قدرها 166% خلال الحرب).
– لا يختلف الأمر كثيرًا مع المغرب الذي ضاعف هو الآخر حجم تبادله التجاري مع “إسرائيل” خلال الحرب، حيث وصل هذا التبادل إلى 143 مليون دولار مقارنة بـ72 مليون دولار خلال الفترة ذاتها من 2022/2023، بزيادة وصلت 98%، وتشير البيانات إلى مضاعفة الرباط وارداتها من تل أبيب خلال تلك الفترة بنسبة 129% حيث بلغت 129.5 مليون دولار بدلًا من 56.5 مليون دولار خلال ذات الفترة في العامين الماضيين.
– أما مصر فيعد التبادل التجاري بينها وبين “إسرائيل” خلال فترة الحرب هو الأعلى منذ ما يقرب من عقد كامل، إذ تأتي في المرتبة الثانية بين الدول العربية من حيث حجم التبادل التجاري مع دولة الاحتلال والذي بلغ نحو 548.4 مليون دولار مقارنة بـ326 مليون دولار خلال الفترة ذاتها من 2022/2023، ويعد هذا الرقم هو الأعلى منذ عام 2014.
وتشير الأرقام إلى ارتفاع الصادرات المصرية لـ”إسرائيل” من 179.2 مليون دولار خلال أكتوبر/تشرين الأول 2022 – أغسطس/آب 2023، إلى 193.9 مليون دولار خلال الفترة ذاتها من 2023/2024، فيما رفعت مصر وارداتها من دولة الاحتلال من 146.9 مليون دولار خلال عامي 2022/2023 إلى 354.5 مليون دولار خلال الأشهر العشر الأولى من حرب غزة، بزيادة وصلت 141%.
– ويأتي الأردن خلف مصر كمرتبة ثالثة بين الدول العربية في حجم التبادل التجاري مع “إسرائيل” خلال فترة الحرب، الذي بلغ 398.5 مليون دولار مقارنة بـ474.9 مليون دولار خلال الفترة ذاتها من العاميين الماضيين، وتشير البيانات إلى زيادة الأردن من وارداته من “إسرائيل” بنسبة 34.5% عما كانت عليه قبل الحرب، حيث ارتفعت من 72 مليون دولار 2022/2023 إلى 96.9 مليون دولار شهور الحرب الأولى، أما الصادرات الأردنية فبلغت 301.6 مليون دولار، بتراجع قدره 101.3 مليون دولار عما كانت عليه في أكتوبر/تشرين الأول 2022 والذي وصل حينها إلى 402.9 مليون دولار.
الدول الإسلامية ليست بمعزل
تشير البيانات الإسرائيلية إلى أن الطفرة الكبيرة في حجم التبادل التجاري مع “إسرائيل” لم تقتصر على البلدان العربية الخمسة المطبعة مع تل أبيب فقط، بل شمت بلدانًا أخرى إسلامية، حيث ارتفعت قيمة التجارة مع بلدان منظمة التعاون الإسلامي الـ14 بنحو 11%، ليصل حجم التجارة بين الدول الـ19 ( 5 دول عربية و14 دولة عضو بالمنظمة) و”إسرائيل” نحو 7 مليارات دولار، تشكل نسبة 10% من مجمل التجارة الإسرائيلية مع العالم خلال تلك الأشهر، لتساهم بشكل لافت في تخفيف أزمة التجارة الخارجية للكيان المحتل بسبب الحرب التي خفضت الصادرات الإسرائيلية بنسبة 6% ووارداتها بنحو 5%.
وتكشف تلك البيانات عن نمو حجم تجارة الكيان المحتل مع ألبانيا بنسبة 500% ومع أوزبكستان بنحو 65%، ونيجيريا 45%، وأذربيجان 34%، وإندونيسيا 25%، بينما انخفض المعدل مع كل من ماليزيا والكاميرون والسنغال وكازاخستان وتركمانستان والجابون وكوت ديفوار وأوغندا، رغم تواضع اقتصاديات تلك البلدان مقارنة بالدول الإسلامية التي زاد حجم علاقاتها التجارية مع تل أبيب.
أما تركيا فقد فتراجعت قيمة صادراتها لـ”إسرائيل” خلال الأشهر العشرة الأولى من الحرب بنسبة 65%، كما تراجعت الواردات منها بنسبة 55%، وفي المقابل تراجعت قيمة الصادرات الإسرائيلية لتركيا بنسبة 32%، كذلك الواردات منها بنسبة 15%، لتتراجع تركيا في تبادلها التجاري في المجمل مع “إسرائيل” من المركز الخامس في العام الماضي إلى الخامس عشر في العام الحالي، حيث تراجع ترتيبها في الصادرات الإسرائيلية من المركز العاشر في العام الماضي إلى المركز السابع عشر في الشهور التسعة الماضية، كما تراجع مركزها في الواردات الإسرائيلية من المركز الخامس في العام الماضي إلى المركز الثالث عشر.
المقاطعة الفردية.. المجد للشعوب
عكس الحكومات والكيانات التابعة لها، جاء الموقف الشعبي أكثر انضباطًا نسبيًا على بوصلة المرتكزات والقيم العربية والإسلامية، حيث نجح الشارع العربي في إيصال رسالته الرمزية – أضعف الإيمان – من خلال تكبيد الشركات الداعمة للاحتلال الخسائر تلو الأخرى في الأرباح والإيرادات، وهو ما تكشفه البيانات المالية الرسمية الصادرة عن السلاسل العالمية الكبرى وأهمها:
– سلسلة متاجر “ستاربكس” للقهوة.. تراجعت مبيعاتها 7% خلال الفترة بين يوليو/تموز وسبتمبر/أيلول 2024 مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، كما تراجعت أرباحها إلى 909.3 ملايين دولار في ربعها الأخير مقارنة بـ1.21 مليار في الربع المقابل من السنة الماضية، بحسب بياناتها المالية للربع الأخير من العام الجاري.
– شركة “أمريكانا” للمطاعم.. والحاصلة على امتياز سلاسل عالمية، أبرزها بيتزا هت وكنتاكي، وهي مدرجة كذلك في البورصة السعودية، فقد انخفض صافي أرباحها خلال الأشهر التسع الأولى من العام الجاري إلى 117.4 مليون دولار مقارنة بـ226.7 مليون دولار خلال الفترة ذاتها من العام الماضي بنسبة تراجع وصلت 48.2%.
– شركة “ماكدونالدز”.. تراجعت مبيعاتها في الأسواق بالمجمل 1.5% في الربع الثالث من العام الجاري مقارنة بارتفاع 8.8% في الربع المقابل من السنة الماضية، فيما كان التراجع الأكبر في الشرق الأوسط والصين، أما أرباحها فتراجعت بنسبة 3% تقريبًا، من 2.25 مليار دولار في الربع الثالث من العام الحالي إلى 2.31 مليار دولار في الفترة ذاتها من العام الماضي.
– شركة “كوكاكولا” للمياه الغازية.. تراجع الدخل التشغيلي للشركة في أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا إلى 977 مليون دولار في الربع الثالث من 2024 مقارنة بـ1.15 مليار في الربع المقابل من السنة الماضية، بنسبة انخفاض وصلت 14%، كما انخفضت إيراداتها بنسبة 1% من 11.95 مليار دولار العام الماضي إلى 11.85 مليار دولار العام الحالي، فيما تراجعت أرباحها 8% إلى 2.84 مليار دولار من 3.07 مليارات في الربع المقابل من السنة الماضية، بحسب بياناتها المالية.
– شركة “بيبسيكو”.. تشير بيانات الشركة إلى تراجع إيراداتها في الشرق الأوسط وإفريقيا وجنوب آسيا بنسبة 4% في الربع الثالث من العام الحالي، حيث انخفضت من 1.61 مليار دولار العام الماضي إلى 1.55 مليار دولار في الأشهر التسع الأولى من العام الجاري، كما انخفضت الأرباح التشغيلية المحققة من المناطق الثلاثة إلى 197 مليون دولار من 238 مليونًا في الربع المقابل في السنة الماضية، وفي المجمل هبطت إيرادات الشركة إلى 23.31 مليار دولار في الربع الثالث من السنة الحالية من 23.45 مليارًا في الربع المقابل من السنة الماضية، وانخفضت الأرباح إلى 2.93 مليار دولار من 3.09 مليارات في الربع الثالث من السنة الماضية.
عطفًا على ما سبق، تكشف تلك الأرقام والبيانات الصادرة عن الحكومة الإسرائيلية عن مفارقتين أساسيتين فاضحتين:
الأولى: إصرار ممنهج وغير مفهوم من الحكومات العربية على خذلان القضية الفلسطينية وطعن الفلسطينيين بخنجر دعم الاحتلال في جميع المجالات، والانبطاح المخزي لتل أبيب وحلفائها ولو على حساب الإنسانية، ناهيك عن القضية العروبية الأهم، ففي الوقت الذي تنتفض فيه بعض حكومات الغرب – بدافع إنساني بحت – للمطالبة بإعادة تقييم العلاقات التجارية مع الاحتلال، بسبب جرائمه في غزة، تتسابق حكومات بعض الدول العربية لتعزيز تلك العلاقات وكأنها تعوض “إسرائيل” عما تتعرض له من ضغوط اقتصادية خارجية، وهو ما يمكن تلمسه من إرسال بعض الأنظمة العربية جسور من المساعدات الإغاثية للداخل الإسرائيلي التفافًا على ما تتعرض له السفن الإسرائيلية من استهداف في البحر الأحمر.
الثانية: انكشاف وافتضاح البون الشاسع بين الكثير من الأنظمة العربية وشعوبها من جانب، وبينها وبين مرتكزاتها القومية والأخلاقية والوطنية من جانب آخر، فما عادت تلك الحكومات تعبر بشكل أو بآخر عن المزاج الشعبي العربي، ولا حتى عن أبجديات العروبة والإسلام، وهو البون الذي سيكون له ما بعده، عقب إسدال الستار على تلك الجولة الدامية من المواجهة مع الكيان الإسرائيلي المحتل.