من دون توقف تستمر المظاهرات والاعتصامات في السودان للمطالَبة برحيل الرئيس البشير ونظامه رغم ارتفاع عدد الضحايا في صفوف المتظاهرين إلى 51 قتيلًا بحسب مصادر تجمع المهنيين، بينما تقول الجهات الحكومية إن عددهم لم يتجاوز 29 حتى نهاية الأسبوع الماضي، هذا بخلاف مئات الجرحى والمعتقلين في سجون النظام.
الأسبوع الماضي تسرّب لوسائل الإعلام تسجيل صوتي منسوب إلى مدير جهاز الأمن والمخابرات السوداني صلاح قوش تحدّى فيه منظمي الاحتجاجات من تنظيم مظاهرتين اثنتين في آنٍ واحد، وبعد يومين فقط على كلام قوش قالت صحيفة التغيير الإلكترونية إنها رصدت خروج 70 مظاهرة في معظم أحياء العاصمة الخرطوم وبعدد من الولايات خلال يوم الخميس الماضي الذي راح ضحيته اثنان من المتظاهرين هما محجوب التاج محجوب (طالب جامعي قُتل تحت الضرب والتعذيب) وعبد العظيم بابكر (خريج حديث أصيب برصاصة مباشرة في الصدر) بينما جُرح عدد كبير وإصابات بعضهم وُصفت بالخطيرة.
في هذه الأثناء تستمر انتفاضة طلاب الجامعات الخاصة التي قامت السلطات بإعادة فتحها من أجل التمهيد لفتح الجامعات الحكومية الكبرى، ولكن على ما يبدو لم تأتِ ردة فعل الطلاب كما تشتهي السلطات الحكومية، فقد اندلعت التظاهرات من أول يوم داخل مباني الجامعة الوطنية وجامعة الرازي وجامعة المغتربين وجامعة الأحفاد للبنات بينما اعتصم طلاب جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا عن الدراسة.
الصادق المهدي ينضم للحراك ويدعو الرئيس للتنحي
كان لافتًا الجمعة الماضية انضمام رئيس الوزراء الأسبق الصادق المهدي إلى ثورة الشباب السوداني، ودعوته الرئيس البشير إلى التنحي وتشكيل حكومة انتقالية تدير البلاد إلى حين إجراء انتخابات جديدة.
لا يزال الرئيس عمر البشير وحزبه الحاكم يتعاملان مع الحراك الجماهيري على أنه ذو طابع اقتصادي فقط، في تجاهل تام منهما لشعار “تسقط بس” الذي ظلّ يرفعه المتظاهرون منذ أكثر من شهر
ويعد انضمام المهدي إلى الحراك الشعبي المُطالب بإسقاط البشير خطوة جديدة تعمق المأزق الذي يعانيه الحزب الحاكم في السودان منذ الـ19 من ديسمبر/كانون الأول الماضي في ظل استمرار التظاهرات بصورة يومية واتساع المد الثوري حيث أصبح من المألوف ترديد شعارات مثل “تسقط بس” داخل قاعات الأفراح إلى جانب القصائد الثورية التي تدعو إلى مواجهة آلة القمع والقتل كقصيدة “الطلقة ما بتقتل“.
ودعم رئيس حزب الأمة المعارض الصادق المهدي للاحتجاجات، يضع نظام البشير في موقف أكثر صعوبة، لما لحزب “الأمة” الأصل من ثقل على الأرض برز يوم الجمعة في استجابة أنصار المهدي لخطابه بعد دقائق فقط من خطبة الجمعة التي أعلن فيها موقفه الداعم للحراك، فقد نزل إلى شوارع ضاحية ودنوباوي في مدينة أم درمان الآلاف من طائفة الأنصار للمطالبة برحيل النظام، والأهم من ذلك في خطاب المهدي أنه وضع جدولًا متكاملًا للحراك تتفق عليه القوى السياسية، يبدأ بالتوقيع على ميثاق للخلاص الوطني، وينتهي باعتصام شامل حتى تنحي البشير وحكومته لتحل محله حكومة انتقالية قومية يكون واجبها تحقيق السلام العادل والشامل، وكفالة حقوق الإنسان والحريات، وتطبيق برنامج اقتصادي إسعافي لرفع المعاناة عن الشعب، وتطبيق برامج الإصلاح البديلة، وعقد المؤتمر القومي الدستوري لكتابة دستور البلاد، ما يعد ردًا مباشرًا على السؤال المطروح عن بديل البشير ونظامه في حالة التنحي.
البشير يتحرك دوليًا لاستقطاب الدعم والانتهاكات تحرجه
إلى الآن لا يزال الرئيس عمر البشير وحزبه الحاكم يتعاملان مع الحراك الجماهيري على أنه ذو طابع اقتصادي فقط، في تجاهل تام منهما لشعار “تسقط بس” الذي ظلّ يرفعه المتظاهرون منذ أكثر من شهر، فالشباب المتظاهر يرى أن الأزمة الاقتصادية الواقعة بالبلاد هي مجرد عرض لأزمة سياسية خانقة لن تُحل إلا برحيل الرئيس والنظام كاملا.
وفي ظل التوثيق المباشر لجرائم القتل والانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها قوات الأمن والمليشيات المحسوبة على النظام السوداني، بادر البشير من تلقاء نفسه إلى زيارة دولة قطر والالتقاء بأميرها الشيخ تميم بن حمد ربما لطلب العون والمساعدة الاقتصادية، لكن على ما يبدو لم تتجاوب الدوحة مع طلبات الحكومة السودانية، إذ نشرت وكالة رويترز للأنباء تقريرًا أكدت فيه أن قطر لم تتعهد للبشير بأي مساعدة مالية.
مع أن الأطراف الإقليمية والدولية لم تبدِ حماسًا لدعم ثورة السودانيين ضد نظام الحكم فإنها في الوقت نفسه لم تقدم دعمًا حقيقيًا للبشير
وجاءت زيارة البشير للدوحة في وقتٍ لم يخفِ فيه عدد من المواطنين والنشطاء القطريين غضبهم من زيارة الرئيس السوداني فقد نجح رواد مواقع التواصل الاجتماعي بالسودان في توثيق ونشر الجرائم والانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها القوات الأمنية والمليشيات التابعة للحزب الحاكم بالصوت والصورة.
أما المحطة الخليجية الثانية التي يتوقع أن يحط بها البشير بحثًا عن إسعاف مالي فهي الكويت، غير أن مفكرين ونشطاء كويتيين استبقوا زيارة عمر البشير بوسم #لا_لزيارة_البشير_للكويت ذكّروا فيه بمواقفه الداعمة للغزو العراقي على الكويت، كما لفتوا إلى حجم الرفض الشعبي لاستمراره رئيسًا للسودان، لذلك ستكون الحكومة الكويتية في موقف حرج هي الأخرى، فإذا قدّمت له الدعم حاليّا ستُعد داعمة للبشير شخصيًا وليس للشعب السوداني كما كتب مدونون سودانيون على الوسم نفسه.
ومع أن الأطراف الإقليمية والدولية لم تبدِ حماسًا لدعم ثورة السودانيين ضد نظام الحكم فإنها في الوقت نفسه لم تقدم دعمًا حقيقيًا للبشير، فحتى السعودية والإمارات اللتين يتحالف معهما في حرب اليمن لم يقدما له دعمًا يُذكر، حيث أرسل الملك السعودي وفدًا إلى السودان يحمل رسالةً أشبه بالامتنان على الحكومة والشعب، حين قال ماجد القصبي وزير التجارة والاستثمار السعودي رئيس الوفد: “المملكة قدمت للسودان أكثر من 23 مليار ريال، منها 8 مليارات ونصف في الأربع سنوات الأخيرة”، وقرأ مراقبون سودانيون الرسالة السعودية بأنها تعني أننا “لم نقصر في دعمكم وليس لدينا المزيد”.
كما ينوي الرئيس البشير الأحد 27 من يناير/كانون الثاني زيارة القاهرة للتنسيق الأمني والسياسي مع عبد الفتاح السيسي، إذ تحسّنت العلاقات كثيرًا بين النظامين القمعيين في الآونة الأخيرة، ومن مرافقة وزير الخارجية الدرديري محمد أحمد ومدير المخابرات صلاح قوش للبشير يتضح أن الزيارة ذات طابع أمني وسياسي، وربما تأتي ضمن محاولاته للحفاظ على العلاقة الجيدة مع السيسي بعد زيارته الأسبوع الماضي إلى قطر إذ يحاول البشير حشد أكبر دعم ممكن له، من كل القوى والأطراف العربية رغم تناقضاتها وخلافاتها البينية.
هل هناك مستقبل للبشير في حكم السودان؟
مع دخول التظاهرات أسبوعها السابع في ظل استمرار الأزمة السياسية القائمة وإصرار حكومة البشير على الحل الأمني والقمع والعنف فإن بقاء البشير رئيسًا للسودان يبدو أمرًا بعيد المنال رغم تماسك النظام حتى الآن وعدم وجود بوادر تدخل من الجيش لعزل الرئيس.
يتطلع الجميع إلى استجابة البشير لنداء العقل بالتنحي من أجل حقن دماء السودانيين وإكرامًا للضحايا الذين سقطوا منذ الـ19 من الشهر الماضي
ومع تنامي حالة الاصطفاف المضاد للبشير والحزب الحاكم، فإن ما يمكن أن يحدث بالفعل هو إكمال فترة عمر البشير الحاليّة هذه إلى العام القادم 2020 بتسوية أو توافق سياسي من أجل حفظ ماء الوجه، ولكن مجرد الشروع في إجراء التعديلات الدستورية من أجل السماح له بالترشح في انتخابات 2020 يعد مغامرة استفرازية غير مأمونة العواقب وقد تؤدي إلى الانفجار الشعبي الشامل بدلًا من المظاهرات والاعتصامات المنظمة الحاليّة التي يقودها الشباب وطلاب الجامعات بسلمية تامة رغم آلة القتل والقمع التي تواجههم.
ويتطلع الجميع إلى استجابة البشير لنداء العقل بالتنحي من أجل حقن دماء السودانيين وإكرامًا للضحايا الذين سقطوا منذ الـ19 من الشهر الماضي، أو على الأقل بإعلانه عدم الترشح لانتخابات 2020 كما فعل الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز الذي قطع الشك باليقين، معلنًا عدم نيته الترشح لولاية جديدة في الانتخابات الرئاسية التي ستشهدها بلاده في غضون ستة أشهر، إذ إن إصرار البشير على خوض انتخابات الرئاسة لن يزيد الساحة السياسية إلا احتقانًا وربما يشعلها، فهو بهذه الخطوة سيضمن الفوز مجددًا نسبة لممارسات التزوير الواسعة التي يجريها نظامه وكل أنظمة دول المنطقة، إلى جانب غياب العدالة بين المرشحين، مرشح يستخدم موارد الدولة وأجهزتها لدرجة أنه يعين الانتخابات نفسها وآخر لا يملك مالاً ولا سلطانًا ولا جاهًا.