قبل أيام قليلة أجرى وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو مباحثات مع المسؤولين في قبرص التركية، حيث التقى مع رئيس جمهورية قبرص التركية مصطفى أكينجي وكان واضحًا أن الزيارة تتعلق بالمستجدات المتعلقة بقضية قبرص والتطورات شرق المتوسط، حيث تم الاتفاق على إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط الذي لم تكن تركيا جزءًا منه.
منتدى غاز شرق المتوسط الذي أقيم في مدينة القاهرة
ويضم منتدى غاز شرق المتوسط الذي سيكون مقره القاهرة كل من مصر و”إسرائيل” وقبرص واليونان وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية، ورغم أن المنتدى أعلن أن أهدافه هي العمل على إنشاء سوق إقليمية للغاز وترشيد تكلفة البنية التحتية وتقديم أسعارتنافسية، فإننا عندما ننظر إلى طبيعة الدول التي شكلت المنتدى نجد أن الدول الرئيسية في المنتدى (مصر و”إسرائيل” واليونان وقبرص) تشهد علاقاتها مع تركيا توترًا كبيرًا، ورغم الإعلان أنه يمكن لأي دولة من دول شرق المتوسط المصدرة أو المستهلكة للغاز أن تنضم للمنتدى لاحقًا فإن أهداف المنتدى وطرق العمل التي سيتبناها وفقًا للأوضاع الحاليّة لا يمكن أن تتوافق مع الخطط التركية وخاصة التي اتفقت عليها تركيا مع روسيا لتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا ثم الغاز الأذري إلى أوروبا عبر تركيا.
تريد تركيا أن توصل رسالة أن المنطقة التي تريد مجموعة دول المنتدى وبالتأكيد خلفها بعض الدول الأخرى تنفيذ مشروع المنتدى فيها هي منطقة نزاع وبالتالي لا يمكن لهذه المشاريع أن ترى النور رغمًا عنها
بل إن المنتدى يرى أن تركيا عقبة أمامه، فهو يقوم على مناقشة تنفيذ فكرة لمشروع خط أنابيب عبر قاع البحر الأبيض المتوسط تقارب تكلفته 7.4 مليار دولار، ويستغرق بناؤه أكثر من ست سنوات، وفيما كانت تركيا تأمل أن تصبح نقطة نقل محورية للطاقة شرق المتوسط وخاصة لموارد الغاز المكتشفة حديثًا وكانت تريد بناء علاقات تعاونية مع الدول المصدرة لكي تنجح في تحقيق عملية استقرار تجعلها دولة معبر للطاقة إلى أوروبا فإن تطور إنشاء المنتدى الذي يبني فكرته على استثناء تركيا وعلى جعل المرور عبر قبرص التي يوجد خلاف مرير على مستقبلها وعملية السلام فيها بين الجزء التركي والرومي يصعب عملية التعاون بين كل من تركيا من جهة ومصر و”إسرائيل” وقبرص واليونان من جهة أخرى.
وبالتالي فإن الأمل الذي كان يتردد لعدة سنوات ماضية بأن عمليات اكتشاف موارد الطاقة الغازية بدلاً من البترولية يمكن أن تعيد ترتيب التوازنات وتحقق نوعًا من الاستقرار المفقود في المنطقة منذ سنوات أصبح أكثر سوداوية.
وكما ذكرنا فحتى قبل تشكيل المنتدى فإن هناك أزمة بشأن الغاز القبرصي المكتشف، حيث استنكرت تركيا عمليات البحث عن الغاز بشكل أحادي من الجانب القبرصي الرومي وحاليًّا فهي تؤكد حق قبرص التركية بالثروات المكتشفة، ولم يتوقف الأمر على المطالبة، فقد بدأت تركيا عمليات المسح والتنقيب في البحر المتوسط قبالة مدينة مرسين حيث أرسلت سفينة محلية الصنع للتنقيب على الغاز ووعدت بإرسال سفينة ثانية.
تريد تركيا أن توصل رسالة أن المنطقة التي تريد مجموعة دول المنتدى وبالتأكيد خلفها بعض الدول الأخرى تنفيذ مشروع المنتدى فيها هي منطقة نزاع وبالتالي لا يمكن لهذه المشاريع أن ترى النور رغمًا عنها، كما أن عمليات التنقيب التركية ستوجد في أماكن تجعل عملية تحديد الحدود البحرية بين أعضاء المنتدى تتعرض لصعوبة، وقد قال وزير الطاقة التركي فاتح دونماز تصريحات تحمل هذه المعاني، حيث قال: “أي مشروع للطاقة في هذه المنطقة لا ترغب فيه تركيا، لا يمكن أن يرى النور، وعلى من يسعون لاتخاذ خطوات أحادية وغير مشروعة تمنع حقوق تركيا، أن يعلموا أن تركيا ستواصل حماية حقوقها النابعة من القانون الدولي وحقوق جمهورية شمال قبرص التركية في المحافل كافة”.
كما أن الرئيس التركي أيضًا أشار في كلمة له في نوفمبر الماضي بهذه العبارات: “من ظنوا أنهم سيقدمون على خطوات في شرق المتوسط وبحر إيجه بمعزل عن تركيا بدأوا يدركون خطأهم الكبير”، و”لن تقبل تركيا أبدًا بالمساعي الرامية لإقصائها وجمهورية شمال قبرص التركية، وسلب الموارد الطبيعية المتوفرة شرق المتوسط”.
تركيا لديها قدرة على الاعتراض ما لم يكن لها ولقبرص التركية نصيب من هذه العملية، كما أن تركيا لديها بديل يصل إلى الجاهزية نهاية هذا العام عبر السيل التركي
يظهر أن فكرة المنتدى هي إظهار حالة من القوة والردع تجاه أي رد فعل تقوم به تركيا وقد قال الكاتب المصري جمال طه في موقع الوطن نيوز إنهم يتوقعون أن “البديل الوحيد المتاح أمام تركيا هو التصعيد العسكري، وفي هذه الحالة ستواجه بردع جماعي من أعضاء المنتدى، وإدانة من المجتمع الدولي”.
وكانت القوات البحرية التركية قد منعت قبل عام سفينة “سايبيم” التابعة لشركة “إيني” الإيطالية من الوصول إلى مياه قبرص في البحر الأبيض المتوسط للتنقيب بحقل غاز في منطقة متنازع عليها بين نيقوسيا وأنقرة بعد أن كانت السفينة (The Saipem 12000) في طريقها للحقل رقم 3 جنوب شرق الجزيرة، بعد حصول إيني على ترخيص من قبرص للتنقيب عن الغاز في هذه المنطقة، وحذر عسكريون أتراك السفينة من استكمال عملية التنقيب، ما أجبر السفينة على عدم استكمال الرحلة.
ومن الجدير بالذكر أن إيطاليا هي عضو في المنتدى وتعتبر “شركتها الوطنية “إيني” مستثمرًا رئيسيًا فى عمليات الاستكشاف والإنتاج بمصر وقبرص، وكان لرئيس إيني التنفيذي كلاوديو ديسكالزي دور في هذا المنتدى وفي تحقيق تفاهمات بين “إسرائيل” ومصر عبر دبلوماسية الغاز.
في تواصل لمسلسل #التطبيع.." #إسرائيل" ضمن منتدى غاز شرق المتوسط pic.twitter.com/gXgxbNTAZi
— نون بوست (@NoonPost) January 15, 2019
يمكن لموقف تركي صلب أن يصعب تحقيق أهداف منتدى غاز شرق المتوسط، ولكن في الحقيقة لا تتمثل الصعوبات فقط بالموقف التركي مع العلم أن مشاريع نقل الغاز من روسيا وأذربيجان عبر تركيا إلى أوروبا قد بدأت ولا بالخلاف بشأن قبرص فقط، بل إن هناك كما ذكر عدد من الباحثين صعوبات أخرى أهمها أن كمية الغاز المكتشفة لا تحقق منافسة كبيرة ولا تعدو كونها 1% من الغاز العالمي، كما أن تكلفة المشروع البالغ 7 مليارات تقريبًا قد يحتاج لإنشاء خط بحري له قرابة 7 سنوات، ويضاف لهذه الصعوبات أن كل من لبنان وسوريا لم ينضما للمنتدى، كما أن حالة الاستقرار في دول مثل مصر والاقتصاد في دول كاليونان وقبرص ستكون مؤثرة جدًا في أي تقدم للمشروع.
قوة تركيا البحرية التي منعت السفن البحرية الإيطالية من التنقيب واعترضت بعض السفن اليونانية ستزيد قوتها مع الوقت ولكن تركيا تميل دائمًا إلى حلول تفاوضية أكثر من الحلول العسكرية
هنا نجد أن تركيا لديها قدرة على الاعتراض ما لم يكن لها ولقبرص التركية نصيب من هذه العملية كما أن تركيا لديها بديل يصل إلى الجاهزية نهاية هذا العام عبر السيل التركي وخط تاناب من جهة، كما أن رضا تركيا مهم جدًا في الاعتبارات الأوروبية لأنها تعتبر بوابة لأوروبا، وكذلك علاقات تركيا وروسيا المتقاربة وعلاقات تركيا وقطر المتجانسة، فروسيا وقطر ولو أضفنا لهم إيران دول لها قدرة ما على التحكم بأسعار وصفقات الغاز.
تضيف عمليات التصنيع المحلية التركية المتمثلة بتصنيع سفن التنقيب والمسح والسفن العسكرية قدرة كبيرة لتركيا في القوة البحرية في المتوسط بالإضافة إلى الخبرة التي اكتسبتها من مناوراتها مع الناتو وبالتالي فإن قوتها البحرية التي منعت السفن البحرية الإيطالية من التنقيب واعترضت بعض السفن اليونانية ستزيد مع الوقت، ولكن تركيا تميل دائمًا إلى حلول تفاوضية أكثر من الحلول العسكرية التي لا تقوم بها إلا مضطرة ومن أمثلة ذلك دخولها قبرص عام 1974 رغم الرفض والعقوبات الأمريكية، وختامًا فإن تركيا ترى أن أي مشروع يستبعدها في المنطقة المحيطة بها لن يكتب له النجاح.