هل سبق لك أن قرأت عملًا أدبيًا ثم داهمك شعورًا قويًا بالروعة والدهشة وتعجبت من قدرة ذلك الكاتب على سبر أغوار شخوص روايته: كيف خلق هذه الحبكة القوية؟ كيف استطاع أن يشد القارئ من أول صفحات روايته وحتى آخر سطورها؟ ثم يباغتك السؤال الأهم: كيف كتب هذا الروائي هذه الرواية المتقنة؟ وهل كتبها أولًا بالورقة والقلم أم عن طريق الحاسب مباشرة؟ ما نوع القلم الذي يستخدمه؟ وما شكل الورق الذي يكتب عليه؟ وهل كتب روايته مرة واحدة أم على فترات متباعدة؟
حقيقة الأمر أن لكل كاتب أجواء خاصة يحرص على توافرها من أجل إطعام ربة الإلهام وذلك حتى يبدأ رحلة الإبداع وتتدفق الكلمات بين يديه، ويُطلق على هذه الأجواء الخاصة اسم “طقوس الكتابة” التي تبدأ من اختيار الوقت والمكان المناسبين للكاتبة وتمتد لتشمل الملابس التي يلبسها الكاتب ونوع المشروب الذي يتناوله.
أجاثا كريستي.. الحمام هو المكان الملائم الذي تأتي فيه أفضل الأفكار
ذكر س. ر مارتين في كتابه “في تجربة الكتابة” أن الروائية البريطانية المشهورة بكتابة القصص البوليسية أجاثا كريستي كانت تأتيها أفضل الأفكار في الحمام، حيث كانت تجلس في البانيو ساعات طويلة حتى تجد القصة المناسبة، وأضافت كريستي أنها تحب أن تضع تصاميم قصصها في أثناء الرياح الممطرة، أما بعد الشروع في الكتابة فتذكر كريستي أنها تحتاج لتركيز تام ولذا تفضل البقاء وحيدة ولا تستقبل الضيوف أبدًا في أثناء الكتابة ولا تتلقى المكالمات أو الرسائل.
إرنست همنغواي.. أديب نوبل الذي فضل الكتابة واقفًا على قدميه
مع دقات الساعة الخامسة والنصف صباحًا في أثناء شروق الشمس كان إرنست همنغواي يبدأ الكتابة، إذ يقول عنه ابنه غريغوري إنه لم يتأخر يومًا واحدًا عن عادة الاستيقاظ المبكر من أجل الكتابة حتى لو كان قد قضى ليلته غارقًا في شراب الكحول، حيث كانت مناعته قوية ضد الأعراض الجانبية للشرب المفرط.
كان همنغواي يكتب واقفًا مقابل خزانة كتبه بارتفاع صدره، وكان يكتب المسودة الأولى بالقلم الرصاص والورق وذلك قبل أن ينتقل للكتابة على الآلة الكاتبة
يقول غريغوري إنه كان يستيقظ مع تنفس الصباح ويظهر بشكل رائع وكأنه نام نوم طفل في غرفة معزولة لا تتخللها أي ضوضاء، وفي لقاء أجراه همنغواي في باريس عام 1958 شرح ما كان يقوم به في صباحاته المبكرة حيث قال “عندما أعمل على قصة أو كتاب أبدأ كلّ صباح ما إن يطلع الضوء، لا أحد يقاطعك والمكتب بارد وتدفئه بالكتابة، أكتب بلا توقف، أتوقف عندما أعرف ما سيحدث لاحقًا، اكتب حتى تعرف أنك ما زلت تملك المزيد من عصير الكتابة، أنك ما زلت تعرف ما سيحدث، لاحقًا عندما تتابع الكتابة، لا شيء يمكنه أن يؤذيك، لا شيء سيحدث، لا شيء له معنى حتى يأتي اليوم التالي وتتابع ما كنت تفعله من قبل، ما يصعب تجاوزه حقًا هو الانتظار لليوم التالي”.
كما كان همنغواي يكتب واقفًا مقابل خزانة كتبه بارتفاع صدره، وكان يكتب المسودة الأولى بالقلم الرصاص والورق وذلك قبل أن ينتقل للكتابة على الآلة الكاتبة، ويذكر همنغواي أنه كان يحدد لنفسه عدد كلمات يجب أن يبلغه يوميًا وفي حال توقف إلهامه الكتابي كان يترك العمل على القصص والروايات ويتفرغ للرد على رسائل البريد أو ما كان يسميه الكتابة السيئة.
إيزابيل اللندي.. الروائية التشيلية التي تكتب بصحبة الأزهار وأضواء الشموع
الـ8 من يناير هو يوم مقدس للكتابة لدى إيزابيل اللندي، إذ تحرص عادة على بدء مشروعها الكتابي خلال هذا اليوم تحديدًا، حيث تجلس على مكتبها في الصباح الباكر وتوقد الشموع للأرواح وتحيط نفسها بالبخور والأزهار، تقول إيزابيل إنها تجهز تلك الأجواء ولا تعلم تحديدًا ماذا ستكتب على وجه الدقة، وعادة ما تكتب إيزابيل على الكمبيوتر مباشرة فلا تستخدم الأوراق أبدًا.
يقول الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الحاصل على جائزة نوبل إنه خصص ساعات محددة للكتابة كل يوم ولا يتوقف عن الكتابة أبدًا ولو ليوم واحد وعادة ما يكتب بين الساعة السادسة صباحًا وحتى الساعة الثانية ظهرًا
تضيف إيزابيل أنها تقضي من 10 إلى 12 ساعة يوميًا في الكتابة ولا تتحدث خلالها مع أحد ولا تتلقى أي مكالمات هاتفية، وعندما يأتيها إلهام الكتابة وتشعر بتدفق الكلمات تلجأ إلى تسجيل الملاحظات صوتيًا حتى لا تتطاير الكلمات والأفكار، كما تجمع إيزابيل قصاصات الصحف وتدون أخبار التليفزيون وتكتب القصص التي يرويها لها الناس حتى تخرج بقصصها الخاصة.
غابرييل غارسيا ماركيز.. رائد الأدب اللاتيني الذي كتب مرتديًا زي الميكانيكي
يقول الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الحاصل على جائزة نوبل إنه يخصص ساعات محددة للكتابة كل يوم ولا يتوقف عن الكتابة أبدًا ولو ليوم واحد وعادة ما يكتب بين الساعة السادسة صباحًا وحتى الساعة الثانية ظهرًا وعادة ما يكتب ماركيز بالورقة والقلم أولًا ويمزق الكثير من الأوراق حتى يصل للصياغة المناسبة، إذ يقول ماركيز إنه يستهلك يوميًا 500 صفحة من أجل كتابة قصة قصيرة من 15 صفحة.
ولا يشرع ماركيز في الكتابة قبل أن يرتدي بذلة تشبه زي الميكانيكي وذلك حتى يشعر بالراحة في أثناء الكتابة، ويضيف ماركيز أنه يشعر بالكثير من المعاناة في أثناء كتابة الفصل الأول من روايته الذي عادة ما يستغرق سنة كاملة أو أكثر في الكتابة ولكن بمجرد الانتهاء منه تأتي كتابة باقي الفصول سهلة.
محمد شكري.. الأديب المغربي الذي كان يفضل الكتابة في المقابر
حين تقرأ رواية “الخبز الحافي” للكاتب المغربي محمد شكري تتدافع إلى رأسك على الفور صورة المشهد الروائي المليء بالعنف والقسوة والوجع والجريمة، تدرك أن شكري قام بتعرية المجتمع المغربي وفضح ثوابته وتكلم عن حياة مثقلة بالمسكوت عنه وكسر التابوهات المحرمة، والحقيقة أن شخصية شكري كانت جرئية وغريبة مثل كتاباته، حيث كان يكتب أعماله الأدبية في المقابر، وبالنسبة للخبز الحافي فقد كتب أكثر فصولها في مقابر المغرب القديمة لأنه يحب الموت.
عشق نجيب محفوظ الأدب وكرس له حياته ولذلك كان يخصص لموهبته 6 ساعات يوميًا: ثلاث ساعات من أجل الكتابة ومثلها للقراءة
وفي الوقت الذي لا يكتب فيه شكري في المقابر كان يكتب في الفنادق الصغيرة والحانات والمقاهي والمطاعم حتى لو كان الصخب يملأ أجواء تلك الأماكن، فكان يستطيع التركيز ويقوم بالكتابة، ففي حوار أجراه شكري مع الكاتب والروائي الشهير يوسف القعيد في أكتوبر/تشرين الأول لعام 1999 قال الراحل إنه يستطيع الكتابة في المقهي حتى لو الزبائن يشاهدون مبارة مهمة لكرة القدم، وأضاف شكري أنه يكتب بالورقة والقلم أولًا ويعيد تنقيح النص على الورق أكثر من مرة قبل الذهاب للمطبعة.
نجيب محفوظ.. ثلاثة فناجيل من القهوة وصوت أم كلثوم لأجل الكتابة
كان يجلس على مكتبه في غرفته المغلقة وأمامه فنجال من القهوة الخالية من السكر وصوت أم كلثوم يصدح في الخلفية ودخان السجائر يتصاعد ليملأ الأجواء، تلك هي طقوس الكتابة لدى المصري المبدع نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل للأدب، حيث كان يحرص على الكتابة في غرفة مكتبه المغلقة ويشرب ثلاثة فناجيل من القهوة ويدخن بشراهة.
عشق محفوظ الأدب وكرس له حياته ولذلك كان يخصص لموهبته 6 ساعات يوميًا: ثلاث ساعات من أجل الكتابة ومثلها للقراءة، وكان محفوظ يكتب المسودة الأولى على ورقة كوبيا وعندما ينتهي منها يعيد كتابتها مرة أخرى على ورق أبيض بالقلم الحبر، ولم يكن محفوظ ينتظر الوحي فقد كان يكتب باجتهاد وبشكل يومي وفي حال شعر بأنه غير قادر على الكتابة كان يذهب إلى المقهى ملتمسًا الوحي في أجواء القهوة الشعبية الساحرة مثل قرقعة أكواب الشاي وأحجار الدومينو وصوت ارتطام الملاعق الصغيرة مع قاع الأكواب.