يُقال بأنّ البيت هو كوننا الأول وركننا في العالَم. وليس غريبًا البتّة أنّنا على مدى سنواتٍ عديدة نقضي الكثير من الوقت والجهد والتفاني في تصميمه وتجميع أثاثه وحاجياته وأشيائه بطريقةٍ تُشعرنا بالفعل أنّنا في “البيت”، حتى أنّنا نجد أنفسنا كثيرًا بعد قضاء عددٍ من الليالي في غرف الفنادق أثناء التجوال والترحال أو على أسرّة الأصدقاء في بيوتهم، نشعرُ برغبةٍ قوية للعودة إلى بيتنا الخاص، حيث نكون على طبيعتنا ونتذكّر من نحن.
لذلك، عادةً ما يكون إنشاء منزلٍ وتأثيثه أمرًا شاقًا نظرًا لأنه يتطلب منا العثور على الأشياء التي تعكس هويّاتنا وشخصيّاتنا بشكلٍ صحيح، الأمر الذي يصبح صعبًا وعبئًا وسط وجود مئات الخيارات والبدائل أمامنا والتي تمتاز كلٌّ منها بهوية معيّنة وفلسفة محدّدة تنقلها وتعبّر عنها لكَ وللآخرين.
كما يرتبط السعي لتصميم منزلك مع حاجتك إلى الشعور بالاستقرار وتنظيم نفسك أو ذاتك المعقّدة. ففي الواقع، نحن لا نكتفي بمعرفة مَن نكون في عقولنا ودواخلنا، بل نحتاج إلى ما هو ملموسٌ ومحسوس وماديّ ليحكي عن الجوانب المتنوعة والمعقّدة لهويّاتنا وذواتنا، لتصبح غرفة الجلوس انعكاسًا لمن نكون، وليكون رفّ الكتب والمرآة وخزانة الملابس واللوحات التي نعلّقها وأدوات المائدة كوسيلةٍ نلجأ إليها للتعبير عن أجزاء منّا لا نستطيع التعبير عنها بالكلمات واللغة.
يرتبط السعي لتصميم منزلك مع حاجتك إلى الشعور بالاستقرار وتنظيم نفسك أو ذاتك المعقّدة
البيت والذاكرة والهوية
يعدّ البيت نقطة مرجعية حاسمة نرجع إليها حين حديثنا عن الذاكرة والشعور والخيال، فنحن نستند إلى تلك النقطة لحكاية قصصنا عن أنفسنا ورواية حياتنا في مرحلةٍ ما من العمر. وهو في الوقت نفسه رابطٌ حيويّ نتواصل من خلاله مع أنفسنا من جهة، ومع الآخرين والعالم من حولنا من جهةٍ أخرى.
بالنسبة للكثيرين، يعدّ البيت جزءًا من تعريفهم لذواتهم وامتدادًا لأنفسهم. وهذا هو السبب في أنّنا نسعى إلى إضفاء لمساتنا الخاصة على منازلنا وغرفنا وتزيينها و ترتيبها وفقًا لما نحبّ أو ما نجده يعرّف بنا ويحكي عنا.
والتفاعلات المعقّدة بين كلّ العناصر والأشياء في المنزل تعطي تعريفًا له كما نراه نحن وكما نريد للآخرين أنْ يروه، الأمر الذي من خلاله أيضًا نقوم بتعريف أنفسنا وهويّاتنا. ومن هنا، تعتقد سوزان كلايتون، وهي عالمة نفسية بيئية في كلية ووستر، في واحدة من مقالات صحيفة “ذا أتلانتيك” الأمريكية، إنه بالنسبة لكثير من الناس فإنّ البيت يعدّ جزءًا من تعريفهم لذواتهم وامتدادًا لأنفسهم. وهذا هو السبب في أنّنا نسعى إلى إضفاء لمساتنا الخاصة على منازلنا وغرفنا وتزيينها و ترتيبها وفقًا لما نحبّ أو ما نجده يعرّف بنا ويحكي عنا.
إضافةً لذلك، يعزّز الوقت ارتباطنا بالأماكن التي نعيش فيها. ونظرًا لأن البيئة المحيطة بنا تلعب دورًا مهمًّا في خلق الشعور بالمعنى والتوازن في حياتنا، فليس من المستغرب أبدًا أنْ يرتبط إحساسنا بالمكان الذي نعيش فيه بإحساسنا بما نحن عليه وماهية شخصياتنا وبتعريفنا لذواتنا.
البيت في فلسفة غاستون باشلار
في كتابه “جَماليات المكان” يقدّم لنا غاستون باشلار، الفيلسوف الفرنسي الذي عُرف عنه اهتمامه بالإبداع الشعري والجمالي عمومًا، بعض الأسباب الفلسفية والسيكولوجية العميقة لأسباب ارتباطنا بالأمكنة من حولنا، خصوصًا البيت، الذي يرى فيه رمزًا للألفة المحمية الذي يتعدّى في كونه مجرّد مكانٍ ليصبح ظاهرةً نفسية ذات أبعاد عديدة.
يؤمن باشلار بأنّ البيت وُجد لينحِّي عوامل المفاجأة ويخلق استمرارية، ولهذا فبدونه يصبح الإنسان كائنًا مفتتًا
إذ يرى باشلار أنّ كلّ الأمكنة المأهولة تحمل جوهر فكرة البيت؛ ويعتبره كونًا حقيقيًا بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، فالإنسان يختلق لنفسه بيتًا، ويصمّم له جدرانًا ويعيش تجربة البيت بكل واقعيتها وحقيقتها من خلال الأفكار والأحلام والخيال، والتي تعمل جميعها بطرقٍ عدة على جعل المكان غير مقتصرٍ فقط على أبعاده الهندسية وحسب، ليمتدّ إلى أكثر من ذلك.
وانطلاقًا من تذكّر بيت الطفولة، تتخذ صفات المكان وملامحه طابعًا ذاتيًا ينتفي معه بعدها الهندسيّ. فبيت الطفولة بالنسبة لباشلار هو مكان الألفة ومركز تكييف الخيال، وعندما نبتعد عنه نظل دائما نستعيد ذكراه، كما أننا نُسقط على الكثير من مظاهر الحياة المادية ذلك الإحساس بالحماية والأمن اللذين كان يوفرهما لنا البيت، فالبيت القديم يركّز الوجود داخل حدودٍ تمنح الحماية، ونحن نعيش لحظات البيت من خلال تفاصيله جميعها بما فيه من أدراج وصناديق وخزائن وغيرها من الأشياء.
يرى باشلار في البيت رمزًا للألفة المحمية الذي يتعدّى في كونه مجرّد مكانٍ ليصبح ظاهرةً نفسية ذات أبعاد عديدة
ويستفيض باشلار قائلًا: “إن البيت الذي ولدنا فيه محفور بشكل مادي في داخلنا، إنه يصبح مجموعة من العادات العضوية. بعد مرور عشرين عامًا ورغم السلالم الكثيرة التي سرنا فوقها، فإننا نستعيد استجاباتنا للسلم الأول، فلن نتعثر بتلك الدرجة العالية بعض الشيء، إن الوجود الكلي للبيت سوف ينفتح بأمانة لوجودنا، سوف ندفع الباب الذي يصدر صريرًا بنفس الحركة، كما نستطيع أن نجد طريقنا في الظلام إلى حجرة السطح البعيدة، إن ملمس أصغر ترباس يظل باقيا في يدينا”.
ينظر الكثيرون للبيت على أنه مركز العالم ومكان النظام والتوازن الذي يتناقض مع الفوضى المحيطة بأيّ مكانٍ آخر
يؤمن باشلار بأنّ البيت وُجد لينحِّي عوامل المفاجأة ويخلق استمراريةً ما، ولهذا فبدونه يصبح الإنسان كائنًا مفتتًا. ومن هنا، يعتقد باشلار أنّ تعريفنا لأنفسنا من خلال الزمن وتغيّراته ليس تعريفًا كاملًا؛ وإنما يستطيع المكان من خلال مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها أنْ يحتوي على الزمن مكثفًا والذي من خلاله نستطيع تعريف أنفسنا، وهذه هي وظيفة المكان كما يراها.
وبالمحصّلة، ينظر معظم الناس للمنزل أو البيت على أنه مركز العالم ومكان النظام والتوازن الذي يتناقض مع الفوضى المحيطة بالعالم الخارجي وأيّ مكانٍ آخر، والتي نعجز عن تحمّلها أو استيعابها طويلًا. ولا عجبَ أنّنا نكون خلال العمل أو أثناء رحلةٍ طويلة ننتظر بشغفٍ شديد عودتنا إلى بيوتنا، فلعلّها بتفاصيلها الكثيرة هي الأماكان الوحيدة في العالم الذي نستطيع من خلالها أنْ نشعر بالأُلفة والمغامرة، وأن نكون قادرين على الاعتزال والاختباء أو الانطواء فيها على أنفسنا وسط العالم الصاخب والفوضويّ من حولنا.