في جولة هي الأولى له من نوعها منذ توليه السلطة في 2017 وبينما تتواصل احتجاجات “السترات الصفراء” في باريس، بالتزامن مع حوار رئاسي يجري بشأن مطالبها، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون القاهرة برفقة زوجته وعدد من وزراء حكومته، زيارة من المقرر أن تستمر لثلاثة أيام يلتقي خلالها نظيره المصري اليوم الإثنين.
الزيارة التي استهلها ماكرون بجولة سياحية سريعة لمعبد أبو سمبل بأسوان وعدد من المواقع الأثرية الأخرى، حملت الكثير من التساؤلات عن الدوافع الحقيقية ورائها، خاصة أنها تأتي في وقت تتصاعد فيه الاحتجاجات والضغوط الداخلية على حكومة الرئيس الفرنسي، وهو ما دفع البعض إلى وصفها بـ”زيارة البحث عن مخرج”.
الاستجابة لضغوط اتخاذ موقف أكثر حزمًا مع الملف الحقوقي المصري في ظل الانتهاكات التي تمارسها القاهرة وفق ما تراه بعض الجمعيات الحقوقية الفرنسية في مواجهة الحفاظ على عمق العلاقات بين البلدين كان العنوان الأبرز لتلك الزيارة.. فهل ينجح ماكرون في تحقيق المعادلة؟
4 ملفات في حقيبة ماكرون
عدد من الخبراء تحدثوا عن 4 ملفات أساسية حملها ماكرون في حقيبته خلال زيارته للقاهرة، على رأسها مساعي باريس الوجود على الساحة الإفريقية بقوة خلال الفترة المقبلة، تزامن هذا مع ترأس مثير لرئاسة الاتحاد الإفريقي هذا العام، ومن ثم تأمل فرنسا في تحقيق أقصى استفادة ممكنة بشأن استعادة حضورها القاري مجددًا في ظل منافسة قوية من الولايات المتحدة وروسيا والصين وغيرها من القوى المنافسة.
الأكاديمي المصري البارز طارق فهمي، أستاذ العلاقات الدولية، أشار إلى أن الملفات الإقليمية تستبق القضايا الثنائية خلال اللقاء المرتقب بين الرئيسين المصري والفرنسي المقرر اليوم، موضحًا في حديثه لـ”الأناضول” أن القضية الليبية ستكون على رأس الملفات الإقليمية، حيث هناك توافق وتطابق في وجهات النظر، خاصة مع دور مصري قوي في الأزمة من خلال استضافة أطرافها في اجتماعات متعددة.
ماكرون يدرك أن هناك حدودًا لدبلوماسيته الصامتة، ويتعين عليه أن يحقق التوازن بين عدم إزعاج السيسي وإثبات نقطة عامة بشأن حقوق الإنسان
كما أشار إلى أن الأزمة السورية ستكون هي الأخرى حاضرة بقوة على جدول أعمال الرئيسين، وخاصة ملء الفراغ بعد قرار الانسحاب الأمريكي، فباريس تحتاج إلى التنسيق مع الدول العربية المركزية المطروح أن يكون لها دور في الفترة المقبلة، مثل مصر والإمارات والأردن، وهو نفس ما ذهب إليه سعيد اللاوندي خبير العلاقات الدولية بمركز “الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية” (حكومي)، خاصة أمر بقاء رأس النظام بشار الأسد في السلطة من عدمه في المستقبل، وضمانات ذلك من إجراء دستور وانتخابات نزيهة.
أما الملف الثالث فيتمثل في القضية الفلسطينية، فبحسب فهمي فإن باريس مشتبكة في ملف الصراع العربي الإسرائيلي، حيث طرحت مبادرة “باريس 1” وكانت ترتب لـ”باريس 2″، إلا أن الأزمة الداخلية والتظاهرات الأخيرة في فرنسا عطلت الأمور بعض الوقت.
ويمثل الملف الليبي كذلك مكانة كبيرة في محادثات الجانبين، خاصة أن هناك توافقصا في الرؤى بين القاهرة وباريس حيال هذا الملف، وبالتالي سيتم التركيز عليه من جانب فرنسا، لمزاحمة الوجود الإيطالي هناك، في ظل علاقات القاهرة المتشعبة في ليبيا، التي تربطها علاقات قوية مع قوات المشير خليفة حفتر التي تسيطر عسكريًا على الجانب الشرقي.
ماكرون يستهل زيارته لمصر بجولة داخل المواقع الأثرية
إدانة حقوقية
في تصريحات أثارت الجدل، قال الرئيس الفرنسي إن حقوق الإنسان في مصر ينظر إليها بشكل متزايد على أنها في وضع أسوأ مما كانت عليه في عهد الرئيس السابق حسني مبارك الذي أطاحت به احتجاجات شعبية في 2011.
ماكرون وخلال لقائء مع عدد من الصحفيين على هامش زيارته الحاليّة قال: “أعتقد أن المثقفين والمجتمع المدني في مصر يعتبرون السياسات الحاليّة أشد صرامة منها في عهد مبارك”، مضيفًا “لا يمكنني أن أفهم كيف يمكنك التظاهر بضمان الاستقرار على المدى الطويل في هذا البلد، الذي كان في لب انتفاضات الربيع العربي وتذوق طعم الحرية، وتتصور أن بإمكانك الاستمرار في التشديد بما يتجاوز المقبول أو المبرر لأسباب أمنية”.
الرئيس الفرنسي ذكر كذلك أنه سيتطرق لذكر حالات فردية من المعتقلين في السجون المصرية في اجتماعات مغلقة مع نظيره المصري، وهي التي كان قد قدم مذكرة بها خلال زيارة السيسي لباريس أكتوبر 2017، مؤكدًا في الوقت ذاته “في مصر، لا نتحدث فقط عن المعارضين السياسيين المسجونين، ولكن أيضًا عن المعارضين الذين هم جزء من المناخ الديمقراطي التقليدي ولا يشكلون خطرًا على النظام، صحفيون ومثليون ورجال ونساء من أصحاب الرأي”.
سيحاول ماكرون استعادة صفقات السلاح الفرنسية التي بلغت قيمتها 6 مليارات يورو، عبر بيع طائرات الرافال الأربع والعشرين والفرطاقة والسفينتين الحربيتين، لتحريك صفقة شراء مصر لعدد 12 طائرة رافال أخرى معطلة منذ عامين
لماذا الآن؟
خلال استضافته للسيسي في باريس بعد 5 أشهر من توليه منصبه، قال ماكرون في مؤتمر صحفي إنه ليس من حقه أن يلقي محاضرة على مصر في مجال الحريات المدنية، وذلك ردًا على دعوات عدد من الجمعيات الحقوقية الفرنسية باتخاذ موقف حاسم إزاء الانتهاكات الحقوقية التي تمارسها القاهرة.. فما الذي تغير ليعيد الرئيس الفرنسي النظر في موقفه الآن؟
يبدو أن إستراتيجية ماكرون في إدارة الدولة قد شهدت عددًا من التغيرات مقارنة بما كان عليه الوضع بداية تنصيبه، هذا بخلاف المستجدات الإقليمية والدولية التي دفعته إلى إعادة تقييم مواقفه السابقة حيال عدد من الملفات، حسبما ذهب عدد من الخبراء والمقربين من دوائر صنع القرار في الإليزيه.
فهذه المرة لم تكتف باريس بتقديم قائمة بأسماء محددة لأشخاص يجب الإفراج عنهم، إذ أرسلت السلطات الفرنسية إلى القاهرة دراسة أوسع نطاقًا لأوجه القصور في حقوق الإنسان وقائمة بنشطاء غير إسلاميين مسجونين تعتقد أن السيسي سيجد صعوبة في رفضها، وفق ما نقلته “عربي21” عن مصدر دبلوماسي فرنسي.
وأضاف المصدر “أعتقد أن ماكرون يدرك أن هناك حدودًا لدبلوماسيته الصامتة، ويتعين عليه أن يحقق التوازن بين عدم إزعاج السيسي وإثبات نقطة عامة بشأن حقوق الإنسان”، فيما قال جلال حرشاوي وهو محاضر في مجال الجيوسياسة بجامعة فرساي: “في مقابل غض فرنسا الطرف عن حقوق الإنسان والمعايير الديمقراطية، اشترت القاهرة أسلحة بمليارات الدولارات، لكن الأمور تغيرت قليلاً في الآونة الأخيرة، فقد باتت قبضة السيسي على السلطة أكثر إحكاما”.
ضغوط اقتصادية
تحت عنوان “لهذه الأسباب.. ماكرون في القاهرة” كشف الخبير الاقتصادي ممدوح الولي في مقالة له أبرز دوافع زيارة ماكرون مرجحًا أن تتصدر الأبعاد الاقتصادية قائمة تلك الدوافع، كاشفًا أن هناك حزمة من الظروف هي التي دفعت الرئيس الفرنسي إلى زيارة مصر في هذا التوقيت بجانب التظاهرات التي تطالب برحيله.
الولي أشار إلى أن الناظر إلى أوضاع الاقتصاد الفرنسي يرصد عجزًا متواصلاً بالميزان التجاري السلعي، منذ عام 2003 وحتى العام الماضي بلا انقطاع، وهو عجز يتوقع استمراره في ضوء شح الموارد النفطية الفرنسية، إذ تنتج أقل من 1% من استهلاكها من النفط، كما تنتج أقل من نسبة واحد بالألف من استهلاكها من الغاز الطبيعي.
وأضاف أن فرنسا تعاني من زيادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة الخارجة مقارنة بنظيراتها الداخلة منذ سنوات، والنتيجة محدودية الاحتياطيات من العملات الأجنبية لتصل 156 مليار دولار عام 2017، بينما بلغت الديون الخارجية في عام 2016 نحو 5 تريليونات و360 مليار دولار، أما فيما يخص الموازنة الفرنسية فإنها مصابة بالعجز المزمن المستمر بلا انقطاع منذ عام 2001، وتوقع صندوق النقد الدولي استمرار ذلك العجز بالموازنة بلا توقف حتى عام 2023.
علاوة على ذلك تراجعت معدلات البطالة بين الفرنسيين بشكل طفيف لا يتناسب وطموحات الشباب، إذ يبلغ عدد العاطلين في نوفمبر الماضي مليوني و656 ألف شخص، كما تشير بيانات العجز التجاري السلعي الفرنسي البالغ 89.5 مليار دولار عام 2017، بحسب المقال.
يمكن تفهم إدانة ماكرون لحقوق الإنسان في مصر بأنها تأتي في إطار انتقاد ناعم لتلك الأوضاع المتردية في عهد السيسي وإن دافع في الوقت ذاته عن أهمية العلاقات بين البلدين
ويخلص الخبير الاقتصادي إلى أن كل تلك الظروف دفعت الرئيس الفرنسي إلى زيارة مصر تزامنًا مع الاحتجاجات الشعبية التي تطالب برحيله، في محاولة لتحسين ميزانه التجاري السلعي المختل جزئيًا من خلال زيادة صادرات بلاده إلى مصر، التي اتجهت للانخفاض خلال عامي 2016 و2017 حسب البيانات المصرية، لتقل من ملياري و484 مليون دولار في عام 2015 إلى مليار و730 مليون دولار في عام 2016، ثم واصلت الانخفاض خلال عام 2017 إلى مليار و480 مليون دولار.
وعليه سيحاول ماكرون استعادة صفقات السلاح الفرنسية التي بلغت قيمتها 6 مليارات يورو، عبر بيع طائرات الرافال الأربع والعشرين والفرطاقة والسفينتين الحربيتين، لتحريك صفقة شراء مصر لعدد 12 طائرة رافال أخرى معطلة منذ عامين، كذلك سيحاول فتح سوق جديدة أمام الشركات الفرنسية أسوة بما حصلت عليه ألمانيا بالأمر المباشر في مجال إنتاج الكهرباء بمصر، بعد دخول شركات دول أخرى في إكمال خطوط مترو الأنفاق التي بدأتها الشركات الفرنسية.
ومن ثم يمكن تفهم إدانة ماكرون لحقوق الإنسان في مصر بأنها تأتي في إطار انتقاد ناعم لتلك الأوضاع المتردية في عهد السيسي وإن دافع في الوقت ذاته عن أهمية العلاقات بين البلدين، بعدما أعرب عن تفهمه للإجراءات “التسلطية” للنظام المصري إزاء جماعات معارضة، في محاولة لإرضاء جماعات الضغط الداخلية وتحقيق الأهداف الاقتصادية المنشودة من وراء هذه الزيارة.