لم تفعل انتخابات فنزويلا الرئاسية الأخيرة أي شيء لإنهاء الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية العميقة في البلاد، فالتضخم يتصاعد خارج نطاق السيطرة، وإنتاج النفط يتراجع، ويتم الاستيلاء على الأصول الأجنبية، وهناك نقص خطير في الغذاء والدواء، ويفر عشرات الآلاف من البلاد، وقد أضعفت حكومة نيكولاس مادورو الحاليّة على نحو متزايد الأدوات الديمقراطية للبلاد للتشبث للسلطة، ليبقى السؤال الطبيعي في بلد يضم أكبر احتياطي نفطي في العالم هو: كيف وصل الأمر إلى هذا؟ الكثيرون قدَّموا إجابة بسيطة: الاشتراكية، لكن هل هي حقًا بهذه البساطة؟
هل تقع الاشتراكية على عاتق الفنزويليين؟
الأسباب الكامنة وراء أزمة فنزويلا متعددة المشاكل والصعوبات والعقبات هي أسباب اقتصادية، خاصة فيما يتعلق بالنفط والعملة الأجنبية التي تجلبها إلى البلاد، فالسبب المباشر للاضطرابات الأخيرة هو بلا شك انخفاض أسعار النفط بنسبة 70% عام 2014.
لكن نفس المشاكل التي تفاقمت في تلك المرحلة كانت موجودة بالفعل قبل 5 سنوات، وبعد ذلك – كما هو الحال الآن – عززتها الخيارات السياسية السيئة، حيث يعود النقص الحاد إلى حد كبير إلى ضعف الإنتاج المحلي والافتقار إلى العملة الأجنبية للواردات، وكلاهما يتعلق بسوء إدارة العملة المحلية “البوليفار”.
كلما اتسعت الفجوة بين أسعار النفط أو المواد الغذائية في فنزويلا والدول المجاورة، زاد الحافز لتهريب هذه المنتجات عبر الحدود لإعادة بيعها
بشكل أساسي، وفي محاولة لمنع هروب رؤوس الأموال وانهيار العملة مع حماية المنتجين المحليين وتطبيق قانون العمل، أدخل هوغو تشافيز، سلف نيكولاس مادورو، ضوابط على الوصول إلى العملة الأجنبية، كما نفَّذ الإعانات وضوابط الأسعار للعديد من المواد الغذائية من أجل إبقائها في متناول الفقراء، وحافظ على إعانة سخية للغاية على البنزين.
لكن منذ انخفاض قيمة البوليفار مقابل الدولار، أصبحت المنتجات المحلية أقل تنافسية في الخارج، في حين أصبحت المنتجات الأجنبية أرخص في البلاد، مما قلل الطلب على المنتجات الوطنية، هذا الدعم الفعال على شراء الدولارات دفع إلى الطلب القوي بالفعل من أولئك الذين يحرصون على تجنب التضخم أو تخفيض قيمة العملة المحلية.
كما كانت العديد من الشركات والأفراد على استعداد لدفع علاوة للتحايل على الضوابط، إما لتفادي الحواجز التجارية البيروقراطية أو لحماية قيمة رؤوس الأموال، ولتلبية هذا الطلب، نشأت السوق السوداء للعملات أو ما يُعرف بـ”الاقتصاد التحتي” القائم على المعاملات التجارية التي يتم فيها تجنب القوانين الضريبية والتشريعات التجارية.
وفي حين أصبحت دولارات السوق السوداء (سعر الدولار المباع في السوق السوداء وصل إلى 3.5 مليون بوليفار) جزءًا من هيكل تكاليف السلع الأساسية، فإن هامش الربح بين تكلفة الإنتاج والأسعار التي تسيطر عليها الدولة قد تقلص أو اختفى بالكامل، مما تسبب في مزيد من الضرر للإنتاج المحلي.
وإلى جانب تقويض الأعمال التجارية المحلية، خلقت هذه السياسات أيضًا فرصًا ومحفزات للفساد الذي نما بالتوازي مع التشوهات الاقتصادية، الأمر الذي خلق حلقة مفرغة، فكلما اتسعت الفجوة بين أسعار الصرف الرسمية وأسعارها في السوق السوداء، زاد الحافز للحصول على دولارات رخيصة بالسعر الرسمي وبيعها في السوق السوداء، وهو ما يُعرف في عالم الاقتصاد بـ”مراجحة العملات”، وهي إستراتيجيات التداول بالعملات الأجنبية التي يستفيد فيها متداول العملات من فروقات الأسعار.
وكلما اتسعت الفجوة بين أسعار النفط أو المواد الغذائية في فنزويلا والدول المجاورة، زاد الحافز لتهريب هذه المنتجات عبر الحدود لإعادة بيعها، وفي هذه الحالة يتم الاحتفاظ بفروق الأسعار على انفراد على نفقة الدولة بينما لا تنتج شيئًا، وهذا بدوره يترك القليل من الموارد المتاحة للأعمال اليومية لإدارة البلاد.
وعندما استقال وزير المالية الاقتصادي اليساري خورخي جيورداني احتجاجًا على سوء إدارة مادورو للاقتصاد، سعى إلى إجراء تحقيق لمعرفة مصير مبلغ 300 مليار دولار زُعم أنها اختُلست بين عامي 2003 و2012، من خلال نظام “مراجحة العملة” المعقد للتحكم في العملة، وقد أجرى الوزير – الذي كان أقرب مستشار اقتصادي لتشافيز – حسابات تبين أن الحكومة لا تستطيع تفسير كيف أنفقت ما يقارب ثلث التريليون دولار التي دخلت خزائنها في العقد الماضي.
بقدر ما كانت هذه سياسات إحصائية للاشتراكية في القرن الواحد والعشرين، قد نقول إن اللوم يقع على الاشتراكية، ولكن هناك ما هو أكثر من ذلك
على المدى القصير، منع تشافيز – بخلاف مادورو – هذه المشكلة من الخروج عن السيطرة بتخفيض قيمة العملة المحلية عندما بدأت الأسعار الرسمية وأسعار السوق السوداء في التباعد بشكل كبير، ولكن على المدى الطويل، وضع تشافيز إيمانه بقوة في استخدام الاقتصاد في دراسة المجتمع أو ما يُعرف بـ”سوسيوإقتصاد“، وقد استند هذا التحول إلى قوة الاقتصاد الاجتماعي الذي يستخدم أشكالًا بديلة للتنظيم، مثل المصانع التعاونية وذاتية الإدارة لإحياء الإنتاج المحلي وإثارة التحول الثقافي نحو المشاركة الاجتماعية النشطة والتضامن.
لكن الاستثمار الضخم الذي قامت به الدولة في الصناعات المؤممة وذاتية الإدارة أو المشتركة كان له ثمار ضئيلة، وعلى الرغم من نجاح عدد من التعاونيات، فإنها في الواقع كانت في كثير من الأحيان غير فعالة وفاسدة واستغلالية كالقطاع الخاص الذي كان من المفترض أن تحل التعاونيات محله، وبقدر ما كانت هذه سياسات إحصائية للاشتراكية في القرن الـ21، قد نقول إن اللوم يقع على الاشتراكية، ولكن هناك ما هو أكثر من ذلك.
الإرث السلطوي لرجل الاشتراكية
من المهم أن ندرك أن رئيس فنزويلا السابق هوغو تشافيز اختار أن يسمي مشروعه التحويلي “اشتراكية القرن الـ21″، وظل يدافع باستماتة عن مبادئ الاشتراكية ويكرسها في بلاده، معتبرًا أن الرأسمالية “تقضي على الجنس البشري”، وعمل خلال النصف الثاني من رئاسته على تحويل فنزويلا إلى دولة اشتراكية، كما كان من أشد منتقدي الولايات المتحدة الأمريكية وسياستها الخارجية في العالم.
اقتصاد فنزويلا ظل قائمًا على السوق ويهيمن عليه القطاع الخاص طوال فترة توليه المنصب، ودعمت سياسته المثيرة للجدل سلطة الدولة وقلصت عددًا من الحقوق والحريات
واعتمد تشافيز – الذي كان أشد منتقدي الرأسمالية – نظامًا اشتراكيًا يقوم على توسيع صلاحيات الدولة في اقتصاد بلاده من خلال عمليات تأميم وفرض مراقبة الدولة، ما أضعف ريادة الأعمال، بموازاة إقامة تحالفات جديدة مع قوى ناشئة مثل الصين وروسيا والبرازيل.
لكن اقتصاد فنزويلا ظل قائمًا على السوق ويهيمن عليه القطاع الخاص طوال فترة توليه المنصب، ودعمت سياسته المثيرة للجدل سلطة الدولة وقلصت عددًا من الحقوق والحريات، وفقًا لانتقادات المنظمات الحقوقية.
وعلى الرغم من تشجيع الاقتصاد الاجتماعي والقطاع العام بشكل كبير – بما في ذلك ما تم من خلال التأميم – كان من المتوقع أن يظل القطاع الخاص هو السائد، وقد تحقق ذلك، فلم يكن الاقتصاد الاشتراكي المخطط مركزيًا مثل كوبا الهدف ولا الواقع.
كان جزءًا من المشكلة دائمًا أن فنزويلا الغنية بالنفط كانت المكان الأخير الذي تتوقع أن تزدهر فيه الاشتراكية، وهذه الخصائص تسببت في مشاكل خطيرة للحكومة، فالدور الحاسم للنفط في النظام الرأسمالي الدولي يجعل من تقلب أسعار النفط لاعبًا مركزيًا في التنمية الفنزويلية.
لكن الأهم من ذلك، أن القيمة الهائلة للنفط تثير “لعنة الموارد” في الاقتصادات غير المتنوعة مثل فنزويلا، وفي ظل ازدهار تحولات سعر الصرف التي تجعل الصادرات الأخرى غير قادرة على المنافسة، يؤدي “البترونيا” إلى الإنفاق العام الباذخ، بينما تقوض الحوافز المشوهة الأخلاقيات وريادة الأعمال والكفاءة في جميع أنحاء الدولة والمجتمع ككل.
ويشرح الفيلم الوثائقي لقناة الجزيرة “المعركة من أجل فنزويلا” الصورة الكبيرة للأزمة الحاليّة في فنزويلا من خلال استكشاف الانقسامات المتأصلة في الماضي، وكيف أن استغلال النفط خلق الأمة الحديثة في فنزويلا، وكيف ساعدت صناعة النفط في خلق هذا المجتمع المقسّم وكذلك عدم المساواة المتوطنة.
كان تكوين فنزويلا كدولة وكمجتمع مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالصناعة النفطية، وينعكس ذلك في سياساتها، وتقول جوليا بوكستون مؤلفة كتاب “فشل الإصلاح السياسي في فنزويلا”: “على الرغم من أن فنزويلا بدأت فعليًا في تطوير اقتصادها النفطي، فإنها لا تستفيد منه بشكل كبير، لأنها في الأساس تؤجر الأرض فقط”.
النفط والمعارضة وعقبات التنمية
قبل وقت طويل من تولي تشافيز السلطة عام 1999، كان هناك فنزويليتان: واحدة تستفيد من النفط، والأخرى لا تزال في ظلال صناعة النفط، كما يقول المحلل الفنزويلي المخضرم ميغيل تينكر سالاس، فقد أدركت النخبة المستفيدة التي انبثق منها جوهر المعارضة في فنزويلا، أن وعد تشافيز بإعادة توزيع الثروة النفطية على الأغلبية المهمشة كان صادقًا، لكنهم فهموا بشكل غريزي أيضًا أن تشافيز أراد إعادة كتابة الرواية الوطنية بدون النخبة الغنية والبيضاء المتعلمة التي تواجه الغرب كأبطال، وبالتالي حرمانهم من الوضع الاجتماعي الذي أعاد إنتاج ثروتهم المادية.
هذا هو التهديد الثقافي الذي يفسر شراسة ومتانة غضب النخبة وسعيها لعرقلة نظام تشافيز عبر القيام بانقلاب عام 2002 على الرغم من أن الشرعية الديمقراطية لتشافيز لا شك فيها، ثم تنظيم إضراب في شركة النفط التابعة للدولة “PDVSA“، في وقت ظلت فيه سياسات تشافيز الاقتصادية راديكالية إصلاحية أكثر منها.
كان رد تشافيز على المعارضة الشديدة والفساد المستشري هو اللجوء إلى أولئك الذين يثق بهم في الجيش والوعد بتحول اجتماعي من خلال تنشئة الاقتصاد
وبحسب روايته الخاصة، فإن قسوة وعناد هذه النخبة، التي ورَّثها له التاريخ الفنزويلي الرأسمالي، هي التي دفعت تشافيز نحو فكرة اشتراكية أكثر حداثة في القرن الواحد والعشرين عام 2005، كما كان لدى الشركات والأفراد الأثرياء دائمًا أوضح الوسائل وأكبر رأس مال للاستثمار في “المراجحة النقدية” على نطاق واسع، التي كانت قد استنزفت أموال فنزويلا لأكثر من عقد من الزمان.
لكن آثار الاعتماد على النفط تمتد إلى ما هو أبعد من مجموعة أو فئة معينة، وباعتبارها واحدة من محركات الاقتصاد الاجتماعي في فنزويلا، كان رد تشافيز على المعارضة الشديدة والفساد المستشري هو اللجوء إلى أولئك الذين يثق بهم في الجيش والوعد بتحول اجتماعي من خلال تنشئة الاقتصاد.
ثالوث الإيمان في غير محله
رد تشافيز أيضًا على هذه الظروف الصعبة عن طريق وضع ثقته في ثلاثة أمور: نفسه والجيش والاشتراكية، فالإيمان بذاته يعني الارتجال للمؤسسات الجديدة ومصادر التمويل المرتبطة بالرئاسة حتى يتمكن من تنفيذ أفكاره على الفور ودون معارضة داخلية.
في حين كان الإيمان بالجيش يعني وضع رجال موثوق بهم، وخاصة أولئك الذين شاركوا في محاولة الانقلاب التي قام بها عام 1992، في مناصب ذات سلطة مؤسسية ومالية ، فضلاً عن تعيين وظائف اقتصادية رئيسية للجيش.
بدأ تشافيز في استغلال أدوات تحوله الاشتراكي – خاصة التأميم والوصول إلى العملة الأجنبية – أكثر كوسيلة لتأديب القطاع الخاص بدلاً من إعادة تشكيل الاقتصاد
وكان الإيمان بالاشتراكية يعني الإيمان بالقدرة التحويلية للديمقراطية التشاركية والاقتصاد الاجتماعي ليحل محل عقلية الدولة البترولية السائدة، أي “الاستيلاء على ما تستطيع” بأخلاقيات اجتماعية قائمة على التضامن.
كان لكل طفرة من الإيمان عواقب وخيمة غير مقصودة، فقد أدى نقل السلطة بعيدًا عن الحالة التقليدية إلى إبعاد المراقبة والمساءلة، الأمر الذي أعاق السيطرة وتمكين الفساد، وتبين أن القناعات الإيديولوجية للملازمين الموثوقين من انقلاب 1992 كانت أضعف بكثير من الحوافز الضخمة لإختلاس موارد الدولة، كما أنهم لم يكونوا خائفين من وضع مرؤوسيهم للعمل في شبكات التهريب.
على نطاق أوسع، على الرغم من أن العديد من المواطنين المهمشين كانوا بلا شك متمكنين ومستنيرين من تجربتهم في ثورة تشافيز البوليفارية، بدأ تشافيز في استغلال أدوات تحوله الاشتراكي – خاصة التأميم والوصول إلى العملة الأجنبية – أكثر كوسيلة لتأديب القطاع الخاص بدلاً من إعادة تشكيل الاقتصاد.
ومع وفاة تشافيز عام 2013، مرّ هذا النظام المختزل والمركب إلى حد كبير في يد مادورو، وهو زعيم يتمتع بقدر قليل من السيطرة على القوات التي تدمر البلاد، وبدلاً من السماح للسياسات الديمقراطية بأن تأخذ مجراها في ظل تعرض قيود إدارة بوش للانهيار بسبب انخفاض أسعار النفط، كان مادورو يخوض صراعًا مع مجموعة “روبيكون” الفوضوية المناهضة للمؤسسات للديموقراطية، الذي لم يقم تشافيز إلا بوضع أصابع قدمه عليها.
ومن خلال إلغاء الاستفتاء وسحق المعارضين السياسيين والتذرع بمجلس تأسيسي للسيطرة على البرلمان المنتخب ديمقراطيًا وخلق رابط بين الدعم السياسي والوصول إلى السلع الأساسية، قام مادورو الآن بحجب أي طريق للخروج من أزمة فنزويلا.
هناك بعض السياسات الاقتصادية الرسمية المرتبطة بمشروع يُطلق عليه “اشتراكية القرن الحادي والعشرين”، وهي متورطة بالفعل في العديد من التشوهات الاقتصادية والحوافز الضارة التي تدمر الاقتصاد الفنزويلي، لكنها نُفذت أيضًا في مجتمع شديد الانقسام والنزاع حيث يُنظر إلى الدولة الغنية بالنفط كوسيلة لتأمين الثروة الشخصية.