ترجمة وتحرير: نون بوست
تشارك الولايات المتحدة والصين في المعركة الجيوسياسية الكبرى للقرن الواحد والعشرين على نطاق خرائط مختلفة ولكنها غير دقيقة بشكل متساوي. وتبدو خريطة الولايات المتحدة قديمة التصميم، بينما تعرض الخريطة الصينية الواقع كما تتخيله. وإذا كان هناك قاسم مشترك بين الحقائق المتضاربة لكل من الصين والولايات المتحدة، فهو حسب الإستراتيجي باراج خانا يتمثل في حقيقة أن لا أحد من هذه القوى يدرك أن جائزة هذه المعركة الكبرى، المتمثلة في فرض نظام عالمي جديد، قد تم تحديدها بالفعل. وفي كتابه الذي صدر مؤخراً بعنوان “آسيا هي المستقبل”، قال خانا إننا “نعيش، لأول مرة على الإطلاق، ضمن نظام متعدد الأقطاب ومتعدد الحضارات بالفعل؛ حيث تحظى كل من أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا بحصة كبرى في ميزان القوى”.
في حين ترى الولايات المتحدة أن المعركة الكبرى هي معركة مفتوحة من أجل كسب النفوذ في كل من أوروبا وآسيا، وتعتبر روسيا قوة أوروبية فقط وليست أوروبية آسيوية، تبالغ الصين في تقدير المكانة المستقبلية التي قد تحظى بها، التي تدعمها مبادرة الحزام والطريق التي تبلغ قيمتها مليار دولار، والتي ساهمت في تحسين بنيتها التحتية وشبكة الطاقة. وبالتالي، تخلق المفاهيم المتضاربة لكل من الولايات المتحدة والصين مجالا يسمح لعدة قوى أخرى من قبيل روسيا وبعض دول الشرق الأوسط بأن تتخذ مواقفها الخاصة.
مع ذلك، تتمتع الصين إلى جانب روسيا بميزة واحدة. فعلى عكس الولايات المتحدة، تتبنى الصين فكرة الوزير البرتغالي السابق لأوروبا، برونو ماسياس، التي تفيد بأن عدد قارات العالم سيتقلص من سبع إلى ست قارات فقط؛ ذلك أن أوروبا وآسيا لا تريان بعد الآن أن اليابسة المشتركة بينهما تمثل قاعدتين منفصلتين وهما تتجهان نحو ما يسميه ماسياس بـ “القارة العظمى”. وضمنيا، استدل خانا برأي ماسياس واستنتج أنه خلافا للتوقعات الصينية المقدمة “لن تكون الصين مهيمنة على النطاق الآسيوي أو العالمي، بل ستكون المركز الداعم للنظام الآسيوي والأوروبي-الآسيوي الضخم في الجانب الشرقي”.
أشارت دراسة أجرتها صحيفة “فاينانشيال تايمز” إلى أن 78 دولة من بين الدول التي استهدفتها الصين لتطوير مشاريعها هي من أكثر الاقتصادات المحفوفة بالمخاطر في العالم
في المقابل، تتمثل الميزة الثانية التي تنسبها الصين لنفسها في ظل سعيها لكسب النفوذ في شبه القارة الجديدة في قوتها الاقتصادية والمالية، التي تعتبر كذلك نقطة ضعفها المميتة. ويبدو أن الدافع وراء مبادرة الحزام والطريق جيوسياسي وليس اقتصادي، وهو ما أكدته التوقعات التي تفيد بأن مشاريع الموانئ في المحيط الهندي التابعة للصين لن تحقق أي نجاح مالي.
خلال السنة الماضية، أشارت دراسة أجرتها صحيفة “فاينانشيال تايمز” إلى أن 78 دولة من بين الدول التي استهدفتها الصين لتطوير مشاريعها هي من أكثر الاقتصادات المحفوفة بالمخاطر في العالم. وعلى مقياس خطر من واحد إلى سبعة، سجلت دول مبادرة الحزام والطريق 5.2، وهو أعلى بكثير من معدل 3.5 الذي سجلته الأسواق الناشئة. كما منحتهم مؤسسة “موديز” التي تهتم بتقييم القدرة الائتمانية تصنيف “متوسط” وهو ما يعادل تصنيف “الاستثمار السلبي”.
في الواقع، ينعكس هذا الخطر على الميزانيات العمومية للشركات الصينية الرئيسية التابعة للدولة التي تبني وتدير وتستثمر في العديد من مشاريع الحزام والطريق. وأفادت هذه الدراسة بأن كبار مقاولي البناء والهندسة العالميين التابعين للصين قد عملوا أكثر بأربعة أضعاف من منافسيهم غير الصينيين. وتجنبا لوقوع أزمة مالية، أمرت الحكومة الصينية الشركات التابعة لها بتخفيض ديونها جزئياً من خلال إيلاء أهمية أكبر لاستمرارية المشاريع الخارجية.
لا تواجه الصين خطرا اقتصاديًا بحتا بل خطرا جيوسياسيا يهدد سمعتها. وعلى نحو متزايد، اضطرت الصين إلى التركيز أقل من المعتاد على الأوضاع الحالية للمعركة الكبرى، مقابل الاهتمام أكثر بمواجهة التأثير السلبي للاعتقاد المتنامي بأن اعتمادها لمبادرة الحزام والطريق كمقترح مفيد لجميع الأطراف هو خيال أكثر منه حقيقة. ويشكك عدد متزايد من البلدان، مثل باكستان وماليزيا وميانمار ونيبال، في فوائد مشاريع “الحزام والطريق” ناهيك عن أنها تقاوم الشروط الصينية الصارمة في مجال التجارة والتمويل في كثير من الأحيان.
لكن الغريب في الأمر هو أن الأطراف التي تقوض مجهودات الصين الشاقة في سعيها للحفاظ على مكانتها ليست الولايات المتحدة أو الهند أو اليابان، بل أصدقاؤها الجدد الطموحين في الخليج وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإيران.
تخشى الصين من أن اعتماد باكستان المتزايد على السعودية والإمارات، إلى جانب الحملة الأمريكية التي تهدف إلى الحد من توقعات إيران الإقليمية، من شأنه أن يهدد أمن استثماراتها الضخمة التي تبلغ قيمتها 45 مليار دولار، التي تركز على بلوشستان بشكل خاص
ينطبق هذا الوضع بالأخص على باكستان، جوهرة “الحزام والطريق”، حيث استغلت السعودية والإمارات غضب الصين تجاه المطالب الباكستانية. ويتمحور هذا الصراع حول مطالبة باكستان بتحويل تركيز الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني من البنية التحتية والطاقة إلى قطاع الزراعة، وتوفير فرص العمل وتمكين استثمار الطرف الثالث، خاصة من طرف دول الخليج.
يبدو الغضب الصيني جليا في ترددها بشأن الاستجابة للطلبات الباكستانية من أجل منع وقوع أزمة مالية. في المقابل، قدمت السعودية والإمارات إعانات واستثمارات ضخمة تصل إلى حدود 30 مليار دولار لدعم عملية تسديد الديون، وعمدت إلى تأجيل دفوعات استيراد النفط، والاستثمار في منطقة بلوشستان المضطربة والواقعة على الحدود مع إيران. وقد ساعدت هذه الإعانات حكومة عمران خان في تجنب طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي.
بناء على ذلك، تخشى الصين من أن اعتماد باكستان المتزايد على السعودية والإمارات، إلى جانب الحملة الأمريكية التي تهدف إلى الحد من توقعات إيران الإقليمية، من شأنه أن يهدد أمن استثماراتها الضخمة التي تبلغ قيمتها 45 مليار دولار، التي تركز على بلوشستان بشكل خاص.
من جهة أخرى، تعتقد كل من الولايات المتحدة والسعودية أنه يمكن استغلال منطقة بلوشستان كأداة لزعزعة استقرار الجمهورية الإسلامية من خلال إثارة الاضطرابات بين شعب البلوش والأقليات العرقية الأخرى. كما أن تزايد النفوذ السعودي والإماراتي في بلوشستان قد يضع الصين وسط دوامة التنافس الشديد الذي تخوضه هذه البلدان مع إيران.
لكن المثير للجدل هو أن الاستثمار السعودي والإماراتي ساهم في الوقت نفسه في حماية الصين من الإفصاح عن الشروط المالية للمشاريع التابعة لمشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، التي طالب بها صندوق النقد الدولي في إطار أي خطة إنقاذ. وذكرت تقارير إعلامية أن باكستان قد أبلغت صندوق النقد الدولي، بشكل غير رسمي، أنها ستدفع للصين 40 مليار دولار على امتداد 20 سنة مقابل أن تقدم لها الصين تمويلا بقيمة 26.5 مليار دولار لفائدة مشاريع الممر الاقتصادي.
يعد الشرق الأوسط عاملا حاسما في نجاح مخططات الحزام والطريق التي تنوي الصين إقامتها، حيث تمثل تركيا وإيران الركائز الأساسية التي تزيد من صعود أوراسيا من خلال خطوط السكك الحديدية التي تمولها الصين
حيال هذا الشأن، صرح المحلل السياسي غالب دالاي بأن “الشرق الأوسط المعاصر لم يعد الفضاء الذي يرتكز سياسيا على الولايات المتحدة، الذي لطالما عرفه الأوروبيون. ويمكن لأوروبا أن تستجيب بعدة طرق؛ فإما أن تمضي قدماً في سياساتها الخاصة وغير المنسجمة والموجهة إلى الأزمات في السنوات الأخيرة وتواصل الاندماج في خطة لعب دولة أخرى، كما هو الحال مع المشاركة الفرنسية الألمانية في عملية أستانا التي تقودها روسيا في سوريا، أو وضع أسس برنامج سياسي أكثر تماسكا تجاه المنطقة مع التركيز على إضفاء الديمقراطية والإصلاح والحكم الرشيد والشمولية والمصالحة”.
في سياق متصل، أضاف المحلل في معهد بروكنغز أنه “إذا لم تشارك أوروبا وتستثمر في تحول الشرق الأوسط، فإن التطورات الإقليمية ستغير شكلها على نطاق واسع، وذلك بواسطة التطرف وجحافل اللاجئين وتنامي الإرهاب والإسلاموفوبيا والشعبوية. ومن شأن التفاعلات بين أوروبا والشرق الأوسط أن تؤدي إلى حدوث تغييرات جذرية إما للأسوأ أو الأفضل”.
يعد الشرق الأوسط عاملا حاسما في نجاح مخططات الحزام والطريق التي تنوي الصين إقامتها، حيث تمثل تركيا وإيران الركائز الأساسية التي تزيد من صعود أوراسيا من خلال خطوط السكك الحديدية التي تمولها الصين، والتي تهدف من خلالها إلى ربط الساحل الأطلسي لأوروبا مع الجمهورية الشعبية. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن تأثير الشرق الأوسط يمثل أحد جوانب اللعبة الأكبر التي تتنافس فيها القوى العالمية والإقليمية على منصب في نظام باراج خانا متعدد الأقطاب والثقافات.
في المقابل، يجادل المسؤول السابق في مجلس الأمن القومي خلال ولاية أوباما، ورئيس مجموعة الأزمات الدولية الحالي، روبرت مالي، بأن القادة المستبدين يختبرون حدود اللعبة الكبرى في ظل تآكل قوة الأمم الغربية وعدم قدرة مفاهيم التعددية على تقييدها. ويقول مالي إنه “بالتزامن مع تلاشي الهيمنة الأمريكية، أصبح النظام الدولي يعيش حالة من الاضطراب. ويميل العديد من زعماء الدول إلى اختبار حدود اللعبة والتنافس على السلطة والسعي لتعزيز نفوذهم أو التقليل من شأن منافسيهم عن طريق التدخل في النزاعات الخارجية”.
أشار مالي إلى النموذج الروسي قائلا إنه “بعد أن تم ضم أجزاء من جورجيا وشبه جزيرة القرم، وإثارة أعمال عنف ذات دوافع انفصالية في منطقة دونباس في أوكرانيا، بدأت روسيا بإلقاء ثقلها في بحر آزوف وتسميم المعارضين في المملكة المتحدة وتدمير الديمقراطيات الغربية بواسطة الهجمات السيبرانية”. ويبدو أن الصين تتبع نهجا مماثلا من خلال عرقلة حرية الملاحة البحرية في بحر الصين الجنوبي واحتجاز بعض المواطنين الكنديين بصفة تعسفية.
يعتبر تركيز الولايات المتحدة على روسيا باعتبارها دولة ذات نفوذ في أوروبا فقط عوضا عن النظر إليها على أنها قوة إقليمية تطمح إلى بسط هذا النفوذ على المستوى العالمي، تقليلا مباشرا من شأن الدور الذي تلعبه موسكو في الشرق الأوسط
في حديثه عن المملكة العربية السعودية وإيران و”إسرائيل”، نوه مالي بأن “السعودية تجاوزت حدودها من خلال الحرب التي شنتها على اليمن، فضلا عن اختطاف رئيس الوزراء اللبناني السابق وقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي بطريقة شنيعة في قنصليتها بإسطنبول. ومن جهتها، تخطط إيران لشن هجمات على معارضيها السياسيين في البلدان الأوروبية، في حين تشعر إسرائيل بأن الوقت أكثر من مناسب لتقويض أسس حل محتمل لقيام دولتين على نحو أكثر منهجية في إطار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي”.
حسب روبرت مالي إن الجهود التي تبذلها هذه الدول لتجاوز حدودها استندت بالأساس إلى فشل الولايات المتحدة الأمريكية في إدراك حقيقة تحول أوروبا وآسيا إلى قارة واحدة ذات قدرات ونفوذ فائقين. وقد انعكس هذا الفشل في استراتيجية الولايات المتحدة للأمن القومي التي نشرها البيت الأبيض خلال سنة 2017، بالإضافة إلى دراسة أجرتها مؤسسة راند للأبحاث والتطوير سنة 2018، التي تهدف بالأساس إلى وضع تصور لمفهوم الجغرافيا السياسية الحالية باعتباره عصرًا من المنافسة الدولية المكثفة.
بدلا من الاعتراف بوجود اختلاف واضح في المصالح بين الولايات المتحدة وأوروبا، بينت الدراسة أن الولايات المتحدة ستستمر في إتاحة الفرص لهذه الدول حتى يتسنى لها قيادة تحالف كبير من الديمقراطيات غير المنقسمة وغيرها من الدول التي تشهد تغييرا على مستوى تحالفاتها؛ وذلك بهدف المساعدة على الحفاظ على الاستقرار.
لكن هذه الدراسة تقلل من شأن مواطن التضارب في المصالح من خلال تقليص الاختلافات والإشارة إلى “القومية التي تغذي الهوية”، التي تهدف من خلالها إلى استعادة مكانة (الدول) الصحيحة في السياسة العالمية، في إشارة إلى التنافس مع روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية وبعض الدول الأوروبية. ويمكن القول إن صعود القوى القومية والشعبية واليمينية المتطرفة، فضلا عن التوترات في الشرق الأوسط، تشكل ملامح أوروبا وتؤثر عليها بواسطة قضايا شائكة مثل الهجرة والعنف السياسي والهوية الدينية.
يعتبر تركيز الولايات المتحدة على روسيا باعتبارها دولة ذات نفوذ في أوروبا فقط عوضا عن النظر إليها على أنها قوة إقليمية تطمح إلى بسط هذا النفوذ على المستوى العالمي، تقليلا مباشرا من شأن الدور الذي تلعبه موسكو في الشرق الأوسط. ويبدو جليا أن واشنطن لا تأخذ بعين الاعتبار تدخل روسيا العسكري في سوريا.
استفادت روسيا من نفوذها السياسي والاقتصادي لتشكيل تحالف مع تركيا وإبرام شراكات مع إيران، وهو ما أدى إلى تقليص نفوذ الدولتين التركية والإيرانية في القوقاز وآسيا الوسطى
في شأن ذي صلة، يرى الباحث المختص في الأمن القومي الروسي، ستيفن بلانك، أن استراتيجية الرئيس فلاديمير بوتين في المنطقة تستند على أفكار وزير الخارجية الروسي السابق يفكيني بريماكوف، الذين كان محللا خبيرا في شؤون الشرق الأوسط ورئيسًا سابقا لجهاز الاستخبارات الخارجية الروسي ونائبا لرئيس الوزراء، والذي كان يتصور مثل السيد خانا ظهور عالم متعدد الأقطاب والحضارات تتوسطه أوراسيا.
لطالما اعتقد بريماكوف أن الشرق الأوسط يمثل ساحة رئيسية لمواجهة الولايات المتحدة التي من شأنها تمكين روسيا من استعادة مكانتها كقوة عالمية وإقليمية وضمان مكانتها كقطب واحد في عالم متعدد الأقطاب، خاصة بعد زوال الاتحاد السوفيتي والأزمة الاقتصادية التي أعقبت ذلك. وبما أن منطقة الشرق الأوسط ساحة معاركها المفضلة، استفادت روسيا من كلمات المؤرخ نيال فيرغسون، الذي قال إن الاحتياطات النفطية الهائلة جعلت منها “القوة الوحيدة التي لا مصلحة لها في تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط”.
في هذا الصدد، صرح ستيفن بلانك بأنه “من أجل استعادة عظمة روسيا، عمد كل من فلاديمير بوتين وبريماكوف إلى اتباع الإنكار الاستراتيجي في نهاية المطاف، وذلك عن طريق إنكار امتلاك واشنطن لدور مهيمن في الشرق الأوسط الذي يمكن لها اعتماده كقاعدة لمد نفوذها إلى رابطة الدول المستقلة، أي المجموعة الإقليمية التي تأسست بعد سقوط الاتحاد السوفيتي”.
في الواقع، كان الطرفان يعتقدان بأنه في حال نجحت روسيا في تحقيق أهدافها، ستتمكن من إجبار الولايات المتحدة على التنازل عن التعددية القطبية ومنح موسكو الاعتراف الذي تستحقه؛ وهو ما سيسمح لبوتين بأن يثبت للنخبة الروسية قدرته على إعادة روسيا لمكانتها كقوة عالمية عظمى.
من جهتها، عرضت سوريا على روسيا فرصة استعراض قوتها العسكرية دون تحدي الولايات المتحدة الأمريكية لهذه الخطوة. وفي الوقت ذاته، استفادت روسيا من نفوذها السياسي والاقتصادي لتشكيل تحالف مع تركيا وإبرام شراكات مع إيران، وهو ما أدى إلى تقليص نفوذ الدولتين التركية والإيرانية في القوقاز وآسيا الوسطى. وعلى نحو مماثل، أثبتت روسيا أنها بعيدة كل البعد عن الصين والولايات المتحدة فيما يتعلق بالترويج للإسلام السياسي السلمي أو غير السياسي، وذلك عقب قمعها للمتمردين في الشيشان بطريقة وحشية في تسعينيات القرن الماضي. وتتراوح ممارسات روسيا بين الاشتباك مع الجماعات المسلحة والتعاون مع الحكام المستبدين المسلمين وتشجيع إدانة نوع الإسلام الذي تتبناه المملكة العربية السعودية.
في خضم التصادم من أجل النفوذ في إطار اللعبة الكبرى، يعكس نهج دونالد ترامب القائم على منح الأولوية لتحقيق المصلحة الأمريكية تصور ترينين للسياسة الروسية
في شأن ذي صلة، صرح مدير مركز كارنيغي للأبحاث بموسكو، دميتري ترينين، الذي شغل منصب ضابط روسي سابق، أن “روسيا ليست هي الاتحاد السوفيتي، وهي لا ترى الشرق الأوسط منطقة يمكنها السيطرة عليها. وفي الحقيقة، إن تنحية الولايات المتحدة من دورها القيادي في الشرق الأوسط يتجاوز إمكانيات روسيا، كما أن الحفاظ على المنطقة ضمن حدود نفوذها يتجاوز هذه الإمكانيات كذلك. ومن المؤكد أن روسيا قد استفادت من تضاؤل اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، حيث يمكنها التصرف بحرية وثقة أكبر عندما تكون واشنطن غير نشطة في المنطقة”.
لقد وصف ترينين روسيا بأنها “قوة وحيدة”، معللا ذلك بحقيقة أن الفرق بين الاتحاد السوفيتي وروسيا هو أن الاتحاد الذي سقط سنة 1991 كان متورطا بشدة في الشرق الأوسط وإنفاق الأموال على مشروع أيديولوجي وجيوسياسي، كما كان ناشطا في المنطقة بهدف كسب الأموال أي أنه كان يدور حول فكرة، في حين تدور روسيا حول نفسها وتسعى لخدمة أهدافها.
في خضم التصادم من أجل النفوذ في إطار اللعبة الكبرى، يعكس نهج دونالد ترامب القائم على منح الأولوية لتحقيق المصلحة الأمريكية تصور ترينين للسياسة الروسية. ومن شأن هذه الحقيقة أن تترك الصين مقيدة في إطار تناقضات سياسة تُجمَع في نطاق المُثل العليا، لكنها تسعى بالأساس إلى تحقيق المصالح الصينية وذلك بشكل مماثل للسياسة التي تتبعها الولاية المتحدة وروسيا.
المصدر: مودرن ديبلوماسي