لا احد ينكر أن أطرافا سياسية في تونس وفي دول الاستبداد العربي كانت الأشد سعادة بالانقلاب الحاصل في مصر واعتبرته تدشينا لعصر نهاية الإسلام السياسي في المنطقة انطلاقا من الساحة المصرية وهي تحاول استنساخ التجربة على الرغم من أن الظواهر الإنسانية يصعب استنساخها لعوامل كثيرة اقلها الخصوصيات التي تميز البنية المجتمعية والهيكل السياسي القائم في كل بلد والملابسات الداخلية والتجاذبات الإيديولوجية التي تتشكل من خلالها المجتمعات .
لا ريب أن الذين دفعوا ومولوا وحرضوا على ما جرى في مصر كانوا يهدفون إلى إفشال تجربة الإسلام السياسي ولكنهم قبل هذا وذاك كان سعيهم إلى إيقاف عجلة التمدد في بسط الحريات التي شهدتها المنطقة وهو ما يشكل خطرا كبيرا على بنية أنظمة سياسية مترهلة لازالت تجتر تاريخا اسود من الاستبداد وإغلاق مجال الحريات ومنع المعارضة بل ولا تملك تاريخا سياسيا بقدر ما هي أنظمة عشائرية متخلفة ( حتى بالمنطق الاجتماعي ) تحكمها عائلات تتوارث الوطن والشعب والمال وتتصرف بعدائية تجاه كل تحول قد ينالها منه بعض الشظايا .
حصاد الانقلاب:
والآن وقد بلغ الانقلاب في مصر مداه بعيدا عن لغة التمويه بأن ما حصل هو ثورة ودون إنكار لنزول الناس للشارع فإن تاريخ الثورات يعلمنا أن تحركا يتم برعاية الداخلية ويشارك فيه بقايا النظام وبتغطية إعلامية من قنوات كانت تسبح من قبل بحمد الطاغية مبارك وبتمويل خليجي معلن لا يمكن أن تكون ثورة وما لحقها من تدخل عسكري يتجاوز التوصيف بأنه انقلاب عسكري بل هو أسوأ حيث يشكل عودة إلى الدولة البوليسية التي كانت تحكم مصر زمن مبارك ،تأخذ الناس بالشبهة وتمارس عنفا على المجتمع كأنها في حرب معه.
لقد افتتح نظام المخابرات عهده بجملة من الإجراءات التي بشرت بعودة زمن الاستبداد والمطاردة على الشبهة وتكميم الأفواه وصولا إلى قتل المخالف وسحله علنا في الشوارع وسط صخب إعلامي يرقص حول نار الفتنة بكل وحشية تذكر بما هو كامن في نفوس أصحابها من نزعات بدائية .
وفي جرد أولي لما فعله نظام الانقلاب نجد الحصيلة تتضمن إغلاق 7 قنوات تلفزيونية وإيقاف 15 صحيفة ومجلة عن الصدور واعتقال واغتيال عشرات الصحفيين (بما فيهم صحفيي شبكة الجزيرة) بالإضافة الى آلاف القتلى والمعتقلين ممن يعسر عدهم بصورة دقيقة لتزايد الأعداد بصورة يومية. وكل هذا الذي جرى كان موجها ضد تيار واحد وهو أمر لا يقدم نموذجا جيدا لباقي الساحات العربية بل ينبئ بمستقبل مليء بالدم والعنف والتصفيات إن لم يتدارك العقلاء ما يجري في البلاد .وهو أمر يفسر لماذا اتخذت القوى التي تؤمن بالعمل السياسي في تونس ولا تغلب عليها الخصومة الإيديولوجية والعداء المرضي للخصوم مواقف مناوئة للانقلاب في مصر وهو أمر رأيناه متجليا في مواقف احمد نجيب الشابي والحزب الجمهوري والتحالف الديمقراطي وحزب المؤتمر وحركة وفاء وحزب التكتل بالإضافة إلى التيار الإسلامي وآخرين يرون بعين البصيرة أي مستقبل مظلم لبلد يحكمه العسكر تحت عباءة رقيقة من التبريرات الإيديولوجية .
فشل النموذج الانقلابي :
لقد فشل الانقلاب في مصر حتى وإن سيطر على المشهد السياسي ، فشل في تقديم نموذج سليم كبديل للرئيس الذي أطاح به الذي ورغم كل أخطائه لم يغلق قناة واحدة ولم يحاكم سياسيا واحدا ولم يتعرض أي فصيل سياسي إلى مجزرة ، كما فشل الانقلاب في أن يسير بالبلد إلى الاستقرار بل تقدم به خطوة نحو مزيد من التشطير الاجتماعي والتمزق السياسي لأنه ومهما كانت المبررات لا يمكن إلغاء فصيل سياسي كبير وممتد في التاريخ ومتجذر في المجتمع بين عشية وضحاها ومهما كانت وسائل حسم الصراع عبر فوهات البنادق وسكاكين البلطجية لا يمكن أن تحول الإسلاميين إلا إلى شهداء.
ألم يكن أجدى بخصوم الإسلاميين في مصر ماداموا واثقين من جماهيريتهم ومن نفوذهم الشعبي أن يهزموا الإسلاميين انتخابيا وبالتالي يتحولون إلى مجرد فصيل هامشي بتأثير محدود ؟ ألم يكن الأجدى الدعوة إلى استفتاء عاجل على مواصلة الرئيس مرسي لفترته الرئاسية بدلا من المجيء بدمية تلعب دور رئيس وهمي مؤقت وهو لا يملك في الواقع من أمره شيئا ؟لماذا يتواصل احتجاز الرئيس الشرعي إذا كان الانقلاب واثقا من حسمه للموضوع؟
أي تبرير يمكن أن يقدمه الانقلابيون لنظام قضائي فاسد تفنن في إصدار أحكام الإعدام بالجملة والتفصيل ؟لماذا تراجع زعيم الانقلابيين عن وعوده في عدم الترشح ليفرض نفسه فائزا قبل الاحتكام الى صناديق الانتخاب؟ هل أن الردة السياسية في مصر يمكن أن تفضي لاستقرار سياسي أم أنها لن تؤدي في ظل المؤشرات الحالية إلا إلى الفوضى وأشكال من العنف وتعصف بالوحدة الوطنية لبلد عريق مثل مصر ؟
إن ما جرى ويجري في ارض الكنانة ليس إلا نموذجا سيئا لانقلاب الدولة البوليسية على رئيس منتخب وتريد استعادة زمن هيمنتها أيام المخلوع ولتمارس عنفها على الناس سرا وعلانية وهو أمر لا يمكن أن يمثل حلما لأي شعب تذوق طعم الحرية وعرف معنى التعددية وتمتع بحق التعبير والسخرية من كل شيء ولهذا لن يمثل ما جرى في مصر سوى انتكاسة للمسار الديمقراطي تناقض منطق التاريخ الذي يسير نحو الحرية التي ستعود إلى مصر وأهلها رغم انف الانقلابيين ومموليهم من أباطرة البترودولار ورعاتهم في أمريكا والكيان الصهيوني .