250 مليار دولار كُلفة إعادة إعمار سوريا بعد 8 سنوات عجافٍ من اقتتالٍ لا يكاد تُغلق صفحاته حتى تُفتح من جديد بواسطة فاعلٍ من الفواعل، فالمعارضة كانت قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على دمشق، لولا التدخل الروسي الذي أحدث تغييرات جذريةً في مسار الأزمة السورية، ومحادثات أستانة أوشكت على حل الأزمة السورية التي ظنّ المواطن السوري، لا سيما الموالي للنظام أكثر، أنها اقتربت إلى الحل، حتى ذاع في الأوساط خبر صادم للجمهور، غير صادم لدول الصراع، يُشير إلى انقلاب أمريكي “مدروس ومُتوقع” على مسار التسوية الجاري تحت أضلع الدب الروسي، انقلاب جاء على صيغة “قانون صادر عن النواب الأمريكي” يُقال إن هدفه معاقبة من انتهك حقوق الإنسان في سوريا!
بالمناسبة 250 مليار دولار مبلغ ليس بالكثير عند النظر إلى حجم الكارثة التي حلت بمعظم المدن السورية، لكنه كثير بالنسبة لموسكو وطهران ودمشق وبكين، تلك هي الدول التي تُحاول قضم الحصة الأكبر من عملية إعادة الإعمار إما بالتمويل الاستثماري أو بالمشاركة لوجستيًا فيها، ويبدو أن لوجستيًا أفضل لها من التمويل الاستثماري الذي تكاد تعجز، باستثناء ربما الصين، عن توفيره لإصلاح اقتصادها الوطني، وهذه هي الورقة، أي ورقة تمويل عملية إعادة الإعمار، التي، في الغالب، تركن إليها واشنطن من أجل تثبيت نفوذها الجزئي جغرافيًا المُطلق دبلوماسيًا في سوريا.
يبدو أن الهدف الأساسي من إعادة إنعاش قانون “القيصر” الذي مكث في غرفة الإنعاش لما يقارب الـ3 أعوام، يكمّن في منح الإدارة الأمريكية ورقة تفاوض قوية أمام القوى الأخرى
وفي خضم وصول الأزمة السورية إلى مرحلة إخراج عملية التسوية، أظهر النسر الأمريكي أجنحته القوية ملوّحًا بطموحه في إخراج الأزمة وفقًا لطموح مصلحته في منطقة شرق الفرات الزاخرة بالنفط، والمتموضعة في مثلثات حدودية ذات أهمية جيوسياسية تربط سوريا بالعراق والأردن من جهة، وسوريا بالعراق وتركيا من جهةٍ أخرى، على نحوٍ يمكّنه وحلفاؤه من ترسيخ توازن قوى جيد أمام نفوذ الدب الروسي في منطقة الشرق الأوسط، ويمنحه الإمكانية لضرب العمامة الإيرانية حال خرجت عن الحدود المرسومة لها، وهنا يتساءل القارئ: ما هدف النسر الأمريكي في ضرب كلاكيت يبدو أنه يُغيّر مسار الأزمة السورية نسبيًا؟
يبدو أن الهدف الأساسي من إعادة إنعاش قانون “القيصر” الذي مكث في غرفة الإنعاش لما يقارب الـ3 أعوام، يكمّن في منح الإدارة الأمريكية ورقة تفاوض قوية أمام القوى الأخرى، وقد صدر القانون عن مجلس النواب بالإجماع، في 22 من يناير/كانون الثاني 2019، وعن فحوى القانون، فقد شمل فرض عقوبات جديدة على نظام بشار الأسد وداعميه، وتشجيع المفاوضات بين واشنطن وأطراف الصراع لإنهاء الأزمة.
يبدو أن جملة “تشجيع وتسريع المفاوضات لإنهاء الأزمة” تحمل في طياتها الهدف الأساسي للقانون، وهو تسريع وتسيير المفاوضات على نحوٍ يخدم المصلحة الأمريكية، ولعل ما يزيد صواب افتراض أن الهدف الأساسي للقانون هو “ابتزاز” الأطراف الأخرى لتثبيت النفوذ الأمريكي، وليس إنزال عقوبة فعلية على النظام، منحه المرونة الكافية للإدارة الأمريكية، للتنازل عن العقوبات على أساس كل حالة على حدة، بغية الحفاظ على استمرار المفاوضات، ويمكن تعليق العقوبات، بحسب نص القانون، “في حال انخرط أطراف الصراع في سوريا، في مفاوضات هادفة، مع ضمان توقف العنف ضد المدنيين”.
مُختصر القول، يوفر القانون الذي ينتظر مصادقة مجلس الشيوخ، للإدارة الأمريكية النفوذ الكافي للمناورة من خلاله في “ابتزاز” نظام الأسد وداعميه خلال عملية المفاوضات، إذ يوفر لها فرصة التلويح بإلحاق بعض الشخصيات والمؤسسات والميليشيات بقائمة الإرهاب، ومعاقبة كل من يتعامل مع الحكومة السورية أو يقدم لها التمويل، بما في ذلك أجهزة الاستخبارات والأمن السورية أو البنك المركزي السوري، وحتى الدول والمؤسسات الدولية، والتلميح إلى إمكان رفع هذه العقوبات حال أبدت أطراف الصراع “انصياعًا” إيجابيًا لعملية المفاوضات التي ستجري ضمن أجنحة النسر الأمريكي وأجنداته.
سرّب مصور عسكري سابق معروف حركيًا باسم “قيصر” 55 ألف صورة لقتلى تحت التعذيب في سجون النظام، ما أحال مجلس النواب الأمريكي ليُسمي القانون نسبةً إليه
وربما إشارة القانون إلى أن العقوبات ستشمل كل “من يشارك في مشاريع البناء والهندسية التي تديرها الحكومة السورية”، وتصريح البيت الأبيض بأنه “يؤيد بقوة مشروع القانون الذي يحرم الحكومة السورية إمكان الولوج إلى النظام المالي الدولي”، يوفران دليلًا دامغًا آخر بشأن فرضية المقال القائمة على احتمال استخدام الإدارة الأمريكية للقانون كأداة “ابتزاز” للحيلولة دون البدء في عملية إعادة الإعمار قبل تثبيت نفوذها.
ويكاد شمول القانون “المتعاون مع النظام السوري في مجال استخراج والتنقيب عن الطاقة” ينكز موسكو التي غاصت في الهيمنة على مُعظم موارد الطاقة السورية في مناطق سيطرة النظام، ويبدو من الطبيعي جدًا، شمول القانون لموسكو التي تُشكّل الطرف الأساسي في عملية المفاوضات المستقبلية مع واشنطن، وهذا ما يزيد صواب فرضية المقال المطروحة.
لقد سرّب مصور عسكري سابق معروف حركيًا باسم “قيصر” 55 ألف صورة لقتلى تحت التعذيب في سجون النظام، ما أحال مجلس النواب الأمريكي ليُسمي القانون نسبةً إليه.
إن عرض القانون في هذا التوقيت لم يأتِ جزافًا، بل أتى في وقتٍ تحتاج واشنطن فيه إلى أداةٍ سياسيةٍ قويةٍ تستطيع من خلالها تثبيت نفوذها في سوريا؛ أي منطقة شرق الفرات، دون الكثير من العوائق، وانطلاقًا من حاجة موسكو والنظام السوري الماسة لتوفير دعمٍ دولي لعملية إعادة الإعمار، وبالتالي إعادة اللاجئين، وصولًا لإعادة تطبيع النظام، تكون هذه الأداة الممثلة بالقانون قوية جدًا في تدعيم الشروط الأمريكية لعملية التسوية.
“أصلح بلادك ليه، بلادي وشبابي أولى”، بذلك أوضح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، على هامش “منتدى الشباب المصري”، المُنعقد في 5 من نوفمبر/تشرين الثاني 2018، إحدى طرق جمع التمويل لعملية إعادة الإعمار، وهو عقد مؤتمر دولي يستجدي دعم الدول التي قد لا تُعطي سوريا الكثير لانعدام قدراتها، ولأنّ اقتصادها وبلادها أولى، ولأنّها لن تجده أصلًا مناسبًا للانضمام إلى مؤتمر لم تمنحه واشنطن الضوء الأخضر بعد، أما الطريقة الثانية والأكثر نفعًا فهي طريق تقديم طلب لصندوق النقد والبنك الدوليين.
في يوليو/تموز 1944، دعت واشنطن زعماء 44 دولةً لحفلات شواء على وقع النسيم العليل لغابات مدينة بريتون وودز في ولاية نيو هامبشير، وخلال هذه الحفلات عرضت واشنطن فكرة تأسيس نظام “بريتون وودز” الذي يضمن إرساء نظام إداري نقدي يعتمد على الدولار الأمريكي في سعر عمليات التبادل المالي الدولية، ويوفر قروضًا تنمويةً للدول من خلال صندوق النقد والبنك الدوليين.
يمنح القانون الإدارة الأمريكية حرية التقدير في رفع العقوبات عند شعورها بتجاوب الأطراف الأخرى، وفي حال تم التوصل إلى نتائج إيجابية، وهذا ما لا يدع مجالًا للشك بأن الهدف الأساسي للقانون هو توفير ورقة “ابتزاز”
وفيما تعرض النظام المذكور لهزة جزئية مطلع السبعينيات، أدت إلى تحرر الدول جزئيًا من الدولار الأمريكي، بقيّت قروض التمويل التنموية الصادرة عن صندوق النقد والبنك الدوليين تخضع، بشكلٍ أو بآخر، للدولار الأمريكي الذي يعني بدوره النفوذ الأمريكي، ما يشي بأن تقدم النظام السوري، وإن ما زال يتمتع بشرعية دولية، بطلبٍ إلى النقد والبنك الدوليين، ربما لا يعودان عليه بالنتيجة المأمولة، إلا في حال تم التوافق بين واشنطن وأطراف الصراع على صيغة تناسب الجميع.
في الختام، يقول المثل التركي “القرية الظاهرة ـ واضحة المعالم ـ لا تحتاج لدليل”، والهدف الأمريكي من القانون واضح وساطع سطوع الشمس في ضحاها، لكن من باب تثبيت فرضية “فرض واشنطن القانون لتسهيل اقتطاعها ما تريده من الكعكة السورية”، بمؤشرات ملموسة، يُشار إلى استمرار النظام في انتهاكات حقوق الإنسان منذ 8 أعوام، فأين كان هذا القانون؟ ويُنوّه إلى شمول القانون قطاعات ومسائل بعينها، تجعل منه أقرب ما يكون لورقة تفاوض قوية بيد واشنطن خلال عملية المفاوضات.
أخيرًا يمنح القانون الإدارة الأمريكية حرية التقدير في رفع العقوبات عند شعورها بتجاوب الأطراف الأخرى، وفي حال تم التوصل إلى نتائج إيجابية، وهذا ما لا يدع مجالًا للشك بأن الهدف الأساسي للقانون هو توفير ورقة “ابتزاز”.