قد تكون مثلك مثل الكثيرين في العالم لا يجدون أنفسهم من هواة الاستماع للموسيقى الكلاسيكية والتقليدية، أو قد تكون عكس ذلك تمامًا، بحيث أنك تجد نفسك وذوقك متماهيًا بشكلٍ كلّي مع كلّ أنواع الموسيقى الكلاسيكية بعيدًا عن أيّ نوعٍ آخر من الموسيقى البديلة أو الحديثة كالبوب والروك والإلكترونية، وما إلى ذلك.
ولعلّ “الحداثة” و”الأُلفة” هي أكثر العوامل التي تؤثر في تعاملنا مع الموسيقى وحبّنا للاستماع إليها؛ فنحنُ نغيّر ذوقنا الفنّي تبعًا لما يتم استحداثه وما نجده أمامنا من تغييرات تمامًا كما نكتسبه بناءً على الألفة والتعويد، لكنّ الموضوع ليس بتلك البساطة أبدًا، فلطالما كان الذوق الفنيّ محط نقاشٍ واسعٍ وعريضٍ في المدارس الفلسفية والعلوم الاجتماعية والنفسية والاقتصادية المختلفة. ولهذا، فسؤالنا عن سرّ حبّك أو عدمه للموسيقى الكلاسيكية ليس سؤالًا بسيطًا البتة، بل يخضع للعديد من العوامل التاريخية والحاليّة التي تؤثّر على ذوقك وميولك الموسيقيّ.
أثر الرأسمالية: لماذا خفت صوت الموسيقى الكلاسيكية؟
بشكلٍ عام، يمكننا القول أنّ أجيالًا عديدة قد نشأت بمعزلٍ تام أو شبه تام عن الموسيقى الكلاسيكية لعقودٍ طويلة. ولعلّ واحدة من أكثر التفسيرات الممكنة لهذا التحوّل هو أثر الرأسمالية الذي امتدّ إلى صناعة الموسيقى بتحويلها إلى سلعة مشتركة مثلها مثل أيّ سلعةٍ أخرى في العالم.
إذ يرى البعض أنّ الموسيقى توقّفت عن كونها شكلًا نقيًّا من أشكال الفنّ وأصبحت مع الوقت أشبه بمنتجاتٍ تجارية تُصمّم وتؤلّف لتقدّم للجماهير الذين يستهلكونها وفقًا لمعايير معيّنة. ومع بداية القرن التاسع عشر، تطوّر سوق الموسيقى بحيث أصبحت شيئًا يمكن شراؤه وبيعه من أجل الربح، ما فتح الباب أكثر على مصراعيه لاختراع شكلٍ جديد للتعاطي والتعامل مع الموسيقى والذوق الموسيقيّ بطريقة تختلف عن السابق.
يرى أدورنو أنّ الموسيقى الجماهيرية تعمل على خلق وعي زائف من خلال إلهائهم عن الواقع المزري للمجتمع الرأسمالي
في مقالته الشهيرة عن الموسيقى الجماهيرية يقدّم الفيلسوف وعالم الاجتماع والنفس الألماني، ثيودور أدورنو، مفهومًا معقولًا للموسيقى الحديثة أو التجارية بصفتها جزءًا أصيلًا من الثقافة الرأسمالية السائدة، عوضًا عن كونها أداةً من أدوات الهيمنة الأيديولوجيّة للطبقات البرجوازية الحاكمة في المجتمعات الرأسماليّة.
وينطلق أدورنو من نقطته تلك إلى أنّ الإنتاج الموسيقي في الأسواق الرأسمالية يعمل على فرض العديد من القيود على خيال المتلقّي وتنميط النصوص الموسيقية من خلال عمليات تكرارية تشبه عمليات الإنتاج الصناعي الأخرى، بحيث يتمّ من خلالها إنتاج الأنماط اللحنية الرائجة تجاريًّا لإرضاء ذوق الجمهور المبرمج مسبقًا.
وبكلماتٍ أخرى، يتعامل أدورنو مع المستمع بصفته مستهلكًا سلبيًّا يقوم فقط بإعادة استهلاك الأنماط المكرّرة والمريحة التي يجدها أمامه. أمّا عن السبب الكامن وراء ذلك، فيرى أدورنو أنّ الناس يندفعون برغبة سيكولوجية للتماهي والتوافق مع البنى الاجتماعية المسيطرة. وبذلك، تدفع الموسيقى الجماهيريّة بالمستهلكين نحو شكل من أشكال الخضوع والإذعان للقيم والمعاني السائدة، وتعمل على خلق وعي زائف من خلال إلهائهم عن الواقع المزري للمجتمع الرأسمالي.
من جهته، يرى عالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو، في نظريته المميّزة أنّ الذوق الفنّي، بمختلف أنواعه وأشكاله، ليس ملَكة فطرية طبيعية عند الإنسان و ليس مُعطىً طبيعيًا في الذات الإنسانية؛ بل هو نتاجٌ لوسطه ومحيطه الاجتماعي الذي يؤثّر به ويتأثر بدوره بعوامل سياسية واقتصادية عديدة. ما يعني أنّ عملية التذوّق تتحدد انطلاقًا من الموقع الذي يحتله الفرد داخل المجتمع.
الذائقة الفنية والاستهلاك الرفيع للموسيقى الكلاسيكية تحوّل إلى رأسمال معنويّ أو سلعة تجارية تؤكّد على تميّز الطبقة البرجوازية وتميّزها عن غيرها من طبقات الهرم الاجتماعي
ونظرًا لأنّ المجتمعات طبقية بالضرورة، فيرى بورديو أنّ الانتماء الاجتماعي لطبقة معينة هو الذي يحدد ذوق كل فرد على حدة، وبالتالي فالذوق الفني كنشاط ثقافي يبقى بعيدًا عن التحديدات الذاتية ولا يُعتبر الفرد مسؤولًا عنها، بل إنها سلوكيات اجتماعية استلهمها الفرد من محيطه الاجتماعي. كما يشير بورديو في نظريته إلى أنّ العامل الاقتصادي له دور حاسم في تحديد الذوق الفرديّ نظرًا لأنه هو ما يحدّد موقع الفرد داخل السلّم الاجتماعيّ والثقافي.أصبحت الموسيقى الكلاسيكية بفعل العديد من الأيديولوجيات الرأسمالية والاجتماعية حكرًا على نخبة اقتصادية معيّنة
فما نسميه ذوقًا فنّيًا، وفقًا لورديو، هو مجرد مجموعة من الارتباطات الرمزية التي نستخدمها لنميّز أنفسنا ونثبت تفرّدنا عن أولئك الذين نعتقد أنهم أدنى منّا اجتماعيًا. وعلى الرغم من أنّ قاعدة استهلاك الثقافة قد اتسعت وتمت ديموقراطيتها في السنوات الأخيرة، إلا أنها لا تزال تمثل نشاطًا طبقيًا بطريقةٍ أو بأخرى.
النسق التقليدي الطويل للحفلات الموسيقية الكلاسيكية لا يتناسب مع تفضيلات الاستماع للأجيال الشابة
وبذلك، يمكننا القول أنّ الموسيقى الكلاسيكية قد أصبحت بفعل العديد من الأيديولوجيات الرأسمالية والاجتماعية حكرًا على نخبة اقتصادية معيّنة. فعلى سبيل المثال، درس بورديو ذائقة المجتمع الفرنسي في ستينات القرن الماضي ليتوصّل إلى وجود ارتباط ملحوظ بين الانتماء للطبقة البرجوازيّة وبين الميل للموسيقى الكلاسيكيّة، بينما يرتبط الانتماء للطبقة العاملة باستهلاك أصناف موسيقيّة تعتبر اجتماعيًّا أدنى في قيمتها الجماليّة. أي أنّ الذائقة الفنية والاستهلاك الرفيع للموسيقى الكلاسيكية تحوّل أيضًا إلى رأسمال معنويّ أو سلعة تجارية تؤكّد على تميّز الطبقة البرجوازية وتميّزها عن غيرها من طبقات الهرم الاجتماعي.
على صعيدٍ آخر، يمكن طرح العديد من الأسباب الأخرى التي تحول بين جيل الألفية والموسيقى الكلاسيكية إلى جانب التفسير الاقتصادي الرأسمالي، بما في ذلك النسق التقليدي الطويل للحفلات الموسيقية الكلاسيكية والتي لا تتناسب مع تفضيلات الاستماع للأجيال الشابة، عوضًا عن الجو الرسميّ الذي تمتاز به تلك الحفلات، وهو مخالف لما يبحث عنه أبناء الألفية.
هل تعود الموسيقى الكلاسيكية للذوق العام؟
مع التطور المستمر في الموسيقى وصناعتها والذي يأتي جنبًا إلى جنب مع التطوّر التكنولوجيّ والتقنيّ، فمن الطبيعي أن يكون هناك أيضًا تحول مستمرّ في تفضيلات الأشخاص والمجتمعات، وهذا بطبيعة الحال يحدث مع الموسيقى الكلاسيكية تمامًا كغيرها من أشكال الفنون المتتوّعة والمختلفة.ينظر العديد من أبناء جيل الألفية الموسيقى الكلاسيكية بمثابة هروب من ضجيج الحياة العصرية وصخبها
ففي واحد من الاستطلاعات الحديثة، أظهرت الأرقام مؤشّرات واضحة لبعض الاتجاهات الجديدة في التفضيلات الموسيقية، حيث يرى 45% من الشباب المشاركين بالاستطلاع أنّ الموسيقى الكلاسيكية تعدّ بمثابة هروب من ضجيج الحياة العصرية وصخبها. ويمكن إرجاع الأمر لعدم احتواء تلك الموسيقى أيضًا على كلماتٍ أو جُمل، وهو ما يبحث عنه عددٌ كبير من محبّي الموسيقى بعيدًا عن تعقيدات العالم من حولهم.
كما يهتمّ عددٌ من الباحثين في دور السينما والأفلام الأعمال الدرامية التلفزيونية في إعادة توجيه مسامع الشباب وجيل الألفية نحو الموسيقى الكلاسيكية العريقة والتي تحضر بشكلٍ كبيرٍ وملحوظ في تلك المنصّات، سواء الموسيقى القديمة منها مثل السيمفونيات، أو تلك الحديثة التي يؤلّفها ملحّنو الأفلام والسينما المشاهير أمثال إنيو موريكوني وهانس زيمر وغيرهما.
أصبحت الأفلام والألعاب ووسائل الإعلام الاجتماعية تُعنى بنشر الموسيقى الكلاسيكية أكثر من غيرها من الوسائل كالحفلات الموسيقية أو دروس التعلّم
ومن جهةٍ ثانية، أوضحت واحدة من الدراسات أنّ المستمعين الصغار يكتسبون تجاربهم الأولى مع الموسيقى الكلاسيكية من خلال ألعاب الكمبيوتر والفيديو، بحيث أنّ الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و 15 سنة قد “اكتشفوا الموسيقى الكلاسيكية كموسيقى تصويرية لأحد ألعاب الكمبيوتر التي يلعبونها”.
مقطع من موسيقى لعبة الفيديو Horizon Zero Dawn التي ترشحت لجائزة الأكاديمية البريطانية لألعاب الفيديو (بافتا)
وخلصت الدراسة إلى أن الأفلام والألعاب ووسائل الإعلام الاجتماعية باتت تُعنى بنشر الموسيقى الكلاسيكية أكثر من غيرها من الوسائل كالحفلات الموسيقية أو دروس التعلّم، ما يعني أنّ الأطفال في هذا العصر قادرون على الحصول على العديد من الفرص لاكتشاف هذا النوع من الموسيقى عن طريق وسائل الإعلام المرئية والإلكترونية المختلفة.
ويرجع الاثر الذي تلعبه الموسيقى التصويرية الكلاسيكية سواء في الأفلام أو البرامج التلفزيونية أو ألعاب الكمبيوتر إلى أنها قادرة على خلق واستحضار بعض المشاعر والعواطف التي يمكن أنْ يختبرها الشخص أثناء مشاهدته للفيلم أو انشغاله في العبة. ما يعني أنّ الموسيقى التصويرية تستثمر بالعواطف والمشاعر والتي تتحوّل لاحقًا إلى ذكريات يتم استحضارها والتفاعل معها.