تتجه أزمة التعليم الإعدادي والثانوي في تونس إلى منعرجات خطيرة يصعب التنبؤ بتداعياتها على المجتمع، خاصة بعد فشل الجلسة التفاوضية التي جمعت عشية أمس الإثنين، وزارة التربية بنقابة التعليم الثانوي، وتبادل الاتهامات بين الطرفين، منعرجات قد تصل إلى حد إقرار سنة دراسية بيضاء، الأمر الذي يرفضه الأولياء وتلاميذهم الذين دخلوا على خط الاحتجاجات، فما الذي يحصل في المدارس التونسية؟
دروس معطلة
حتى اليوم، لم يرجع أغلب التلاميذ في تونس إلى مقاعد الدراسة رغم انتهاء العطلة الدراسية للثلاثي الأول، نتيجة تواصل الأزمة بين الوزارة والنقابة، ليس هذا فقط بل لا يوجد مؤشر لتاريخ عودتهم، فلا حل للأزمة في الأفق القريب على الأقل.
أمس الإثنين، كان التونسيون على موعد مع مفاوضات جديدة بين طرفي الأزمة، غير أن هذه المفاوضات لم تبدأ حتى أعلن نهايتها وفشلها، وإقرار نقابة التعليم، مواصلة تحركاتها الاحتجاجية ومقاطعة كل أشكال الامتحانات المتعلقة بالثلاثي الثاني والاعتصام بمقر وزارة التربية، فضلاً عن تنظيم يوم غضب وطني يوم الـ6 من فبراير/شباط القادم.
ولا تعتبر هذه التحركات بالجديدة في تونس، بل هي مواصلة لسلسلة من الاحتجاجات التي دأب عليها الأساتذة في الأشهر الأخيرة، فمنذ شهر ديسمبر/كانون الأول من سنة 2017، اتخذ المدرسون في هذا البلد العربي أشكالاً احتجاجية متنوعة بدأت بالتظاهر وحجب نتائج الامتحانات وصولاً إلى تعليق التدريس.
يتهم وزير التربية التونسي الجبهة الشعبية بالسيطرة على نقابة التعليم وتأجيج الوضع
وفي يناير/كانون الماضي، قررت نقابة التعليم الثانوي التابعة لاتحاد الشغل (المركزية النقابية) حجب أعداد اختبارات النصف الأول من العام الدراسي، بينما لم يتبق إلا أسابيع قليلة على اختبارات النصف الثاني من العام الدراسي الحاليّ، على خلفية عدم استجابة الوزارة لمطالبهم المادية والمهنية.
وفي شهر أبريل/نيسان الماضي، نفذ آلاف الأساتذة في المدارس الإعدادية والثانوية التونسية إضرابًا مفتوحًا عن العمل، بعد فشل المفاوضات مع وزارة التربية التونسية والاستجابة إلى مطالبها “التعجيزية” كما وصفها وزير التربية حاتم بن سالم.
وفي شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، قاطع الأساتذة امتحانات الثلاثي الأول لهذه السنة الدراسية بالنسبة إلى المرحلة الإعدادية والثانوية بمختلف المؤسسات التربوية، كما شرع عدد من أعضاء الجامعة العامة للتعليم الثانوي في الاعتصام بمقر وزارة التربية منذ الـ21 من شهر يناير/كانون الثاني الحاليّ، وذلك بالتزامن مع تأكيد الكاتب العام لجامعة التعليم الثانوي سعد اليعقوبي أن هذه السنة لن تكون كسابقتها، متوعدًا باستمرار التصعيد لحين الحصول على مطالبهم رغم مماطلة الوزارة، وفق قوله.
اتهامات متبادلة
قبل فشل المفاوضات الأخيرة، اتهم وزير التربية التونسي حاتم بن سالم سيطرة الجبهة الشعبية التي تعمل على تأجيج الوضع على نقابة التعليم، واعتبر أن الوضع بالفعل بات مقلقًا وعلى كل طرف تحمل المسؤولية والكف عن التصريح بالمغالطات، مؤكّدا أن المشكلة اليوم هي مشكلة ثقة وشفافية.
وقال الوزير في حوار مع جريدة المغرب اليومية: “الجبهة الشعبية كانت حاضرة بقوة خاصة نوابها بمجلس نواب الشعب في الاعتصام داخل بهو وزارة التربية، والوزارة لديها الأسماء وكذلك في الجهات بعض الأشخاص من المنتمين إلى الجبهة الشعبية يرفعون لافتات للشتم والمطالبة باستقالة وزير التربية”، وأوضح أنه أصبح يشكّ فيما يحصل.
وأمس الإثنين، أكد حاتم بن سالم أنه سيتوجه إلى النيابة العمومية لرفع قضية ضد مجموعة من الأساتذة النقابيين إثر اقتحامهم لمكتبه بالوزارة والتهجم عليه وتهديده، وفق تعبيره، وقال بن سالم إن الجامعة العامة للتعليم الثانوي متمردة على الجميع ولا أحد باستطاعته التفاوض معها داعيًا إياها إلى احترام مشاعر الشعب التونسي مهددًا بتطبيق القانون.
ويتهم كاتب عام الجامعة العامة للتعليم الثانوي لسعد اليعقوبي، وزير التربية بضرب قطاع التعليم في البلاد، مؤكّدًا عدم وجود إرادة سياسية لحل الإشكال القائم بين الوزارة والنقابة، وفي خصوص اتهام الوزير نقابة التعليم باقتحام مكتبه، واصفًا كل تصريحات بن سالم بالمغالطات.
وحملّ اليعقوبي وزير التربية مسؤولية فشل المفاوضات، داعيًا رئيس الحكومة ومجلس النواب إلى التدخل في الموضوع لإنقاذ السنة الدراسية، مؤكّدًا في ندوة صحفية عقدت اليوم بمقر الاعتصام بوزارة التربية أن نسبة تعطل الدروس في المؤسسات التربوية تصل إلى 80%، سببها مقاطعة التلاميذ.
وتتمثل مطالب النقابة في حسم مسألة التقاعد الاستثنائي بالنسبة لمدرسي التعليم الثانوي والإعدادي على قاعدة 32 سنة عمل وعمر 57 عامًا مع تأخير بخمس سنوات باعتبارها مهنة شاقة، وتحسين وضعهم المادي بالنظر في المنح الخصوصية خاصة بالمدرسين على غرار منحة العودة المدرسية ومنحة الامتحانات ومنحة العمل الدوري ومنح خاصة بمديري المعاهد.
كما تطالب النقابة أيضًا بإصلاح المنظومة التعليمية إصلاحًا جوهريًا وشاملاً، ورفع ميزانية المؤسسات التربوية التي لم تعد قادرة على إدارة العملية التربوية بشكل مرضٍ، وفق قول القائمين عليها، فضلاً عن سن قانون يجرم الاعتداء على المربين والعاملين بالمؤسسات التربوية.
سنة دراسية بيضاء؟
تواصل أزمة قطاع التعليم الثانوي، عززت مخاوف التلاميذ على مستقبلهم الدراسي، ما دفعهم إلى الاحتجاج ومقاطعة الدروس والخروج في مسيرات غاضبة بمعظم مدن البلاد، وشهدت العديد من المحافظات، شللاً كاملاً في جميع المعاهد والمدارس.
ويخشى التلاميذ أن تصل أزمة التعليم إلى طريق مسدود وتنتهي إلى إقرار سنة بيضاء، الأمر الذي استبعده وزير التربية حاتم بن سالم الذي أكد في وقت سابق أن إقرار “سنة دراسية بيضاء” خلال الموسم الدراسي الحاليّ “أمر مستحيل، ولن يتحقق”، مبرزًا أن الوزارة تبذل كل جهودها لتجنب حصول هذا الأمر.
ويسعى التلاميذ من خلال التحركات الاحتجاجية التي بدأوا فيها مؤخرًا، إلى الضغط على وزارة التربية والنقابة للوصول إلى اتفاق بينهما ينقذ السنة الدراسية، خاصة أنهم لا يعرفون إلى الآن مصيرهم في ظل الخلافات والتجاذبات التي سيطرت على المشهد.
أزمات البلاد المختلفة تضع حكومة يوسف الشاهد في تحدٍ كبير قبل موعد الانتخابات المحدد في الخريف
واعتبر التلميذ ريان بوعجاجة وصاحب موقع “ليسينا” المعني بشؤون التلاميذ، أن تعطل المفاوضات بين النقابة ووزارة التربية بمثابة “خيبة أمل لكل التونسيين من تلاميذ وأساتذة وأولياء لأنه كان نقطة الحسم التي ستقرر مصير السنة الدراسية”، وأضاف في تصريح لنون بوست “التلاميذ أصبحوا يخشون شبح السنة البيضاء الذي يحث خطواته إليهم كلما تقدمنا في السنة الدراسية دون إيجاد حلول لأزمة التعليم الثانوي ودون إنجاز للفروض”.
في غضون ذلك، عبّرت الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ عن رفضها لتواصل العبث بمعنويات التلاميذ وابتزاز حقوقهم والإضرار بمصالحهم والتضحية بمستقبلهم لغايات مادية بالأساس، وجددت الجمعية في بيان لها دعوتها إلى الدولة للتعامل مع الملف باعتباره أزمة وطنية ذات أولوية قصوى.
وطالبت باتخاذ ما يتطلبه الوضع من قرارات سياسية استثنائية وإجراءات قانونية وتنظيمية عاجلة عبر إعادة السير العادي للدروس ومراجعة الروزنامة الدراسية للسنة الحاليّة والتعهد بإبعاد التلاميذ عن كل التجاذبات المستقبلية والانطلاق في إصلاح فعلي ومسؤول للمدرسة التونسية.
وحذرت الجمعية من الحالة الخطيرة وغير المسبوقة التي تعيشها المدارس الإعدادية والمعاهد الثانوية والتلاميذ، بسبب التعنت في التعامل مع الوضع بنفس الطريقة والجر نحو سنة بيضاء، التي أصبحت وفق البيان واقعًا سيتسبب في كارثة وطنية بكل المعاني وسيتحمل الجميع عواقبها الوخيمة في كل المستويات.
مواقع التواصل تتفاعل
تناول أزمة التعليم لم يكن في المدارس والشوارع والبيوت فقط، بل أيضًا في مواقع التواصل الاجتماعي، فهذه الأزمة أصبحت موضوع الساعة في تونس، وكلّ يدلي بدلوه فيها، بين متهم للنقابة باللعب بمصير التلاميذ ومتهم للحكومة بالتلاعب بالجميع.
وانتقد مربي تونسي متقاعد يدعى مصطفى السعيدي، ما وصل له التعليم في البلاد، وكتب في تدوينة على حسابه الشخصي في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك: “اليعقوبي يصعد لتقوية حظوظه انتخابيًا وخدمة جبهته (الجبهة الشعبية)، الشاهد ينحني للعاصفة، التلميذ ينكسر والولي يموت غيظًا”.
من جهته كتب كمال الشارني: “اليوم استفاق ابني (باكالوريا) باكرًا، لكنه لم يتحمس للذهاب: “لا أدري لماذا أذهب أصلاً؟”، كان محقًا، فقد عاد في الثامنة وربع إلى البيت بلا أمل، لم يعد يهمني من هو السبب بقدر ما تدمرني مأساة أن مستقبل أبنائنا، رهاننا الوحيد، يذبح أمامنا”.
بدورها رأت التونسية أسماء البراك أن الحل فيما يحصل حاليًّا في المدرسة التونسية من أزمة كبيرة لها أن تؤثر سلبًا على مستقبل التلاميذ، يتمثّل في “الإيقاف الفوري لجميع الأجور بالنّسبة للأساتذة حتى عودة النسق العادي للدروس والامتحانات”.
ونشرت تونسية تضع اسم “مايا” على حسابها الشخصي في موقع التواصل الاجتماعي تويتر، فيديو يظهر مجموعة من التلاميذ من معاهد مختلفة في تونس، يتحدثون عن رفضهم للوضع الحاليّ، ويطالبون بضرورة إيجاد حل قبل تفاقم الوضع.
تلاميذ المعهد النموذجي بنابل #تونس :
لن نكون وقودًا لمعركتكم . #توانسة_في_تويتر
تلاميذ يحتجون على تواصل أزمة التعليم الثانوي. pic.twitter.com/996nKhiqnX
— Maya 🌟 (@Maya41_) January 23, 2019
أزمة قطاع التعليم ليست الأزمة الوحيدة في تونس هذه الفترة، فالبلاد تشهد أزمات متعددة في قطاعات مختلفة، وفي معظم مناطق البلاد، قبل أشهر من موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقررة في خريف هذه السنة، ما يضع الحكومة في تحدٍ كبير للخروج من هذا الوضع.