في الآونة الأخيرة بمصر ارتفعت أسعار السيارات وعقّب البعض أن هذه الزيادة سببها جشع التجار بشكل رئيسي ولم يحدث ما يستوجب غلاء أسعار السيارات الجديدة، فدشن بعض نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي حملة “خليها تصدي” ردًا على جشع التجار ولتوعية المواطنين بهذا الأمر حتى يتفادوا جميعهم شراء السيارات الجديدة حتى تتلف وتصدأ بسبب وجودها لدى التجار وعدم تشغيلها أو بيعها، ولاقت الحملة نتائج طيبة.
كان من ضمن نجاح هذه الحملة ظهور حملة أخرى مشابهة وهي حملة “خليها تعنس” استغل الشباب المصري فيها نجاح الحملة الأولى ليعبروا عن مطالبهم وحقوقهم في الزواج وتكاليفه، لاقت الحملة تفاعلًا كثيفًا على وسائل التواصل الاجتماعي، فهناك من أيدها وتفاعل معها وهناك من انتقدها وعلى رأسهم الفتيات اللاتي دشن عدة حملات مشابهة للرد على استيائهن من هذه الحملة مثل “خليك في حضن أمك” و”ربنا نجدها نوسة” و”خليه يخلل” وأصبحت هذه الحملات أشبه بالحرب الإلكترونية من الجهتين.
إن تحدثت بلغة وسطية سأجد أن تدشين حملة “خليها تعنس” كان خطأ من الأساس، ابتداءً من كلمة “تعنس” التي تحتوي مدلولًا مهينًا تجاه الفتيات المصريات على اعتبار أن المكان الأساسي للفتاة بيت زوجها وهذا خطأ، فمع كل التقدم الذي يشهده الوطن العربي في مختلف المجالات، حتى إن كان بطيئًا بعض الشيء، نجد أن المجتمع ما زال متدنيًا في نظرته للفتاة بشكل عام، رغم أننا في عصرنا هذا شهدنا فتيات يقدن طائرات ويدخلن في مجالات علمية نادرة وتقريبًا أثبتت الفتاة العربية كفاءتها في كل المهن بجانب دورها البيولوجي ورعاية أطفالها.
في هذه الحملة تطلع الشباب إلى إثارة الرأي الجمعي ولفت أنظار العامة إلى مشكلة موجودة بالفعل وهي غلاء المهور وتكاليف الزواج
وما زال المجتمع لا يتقبل وجود فتاة عزباء وما زال العرب يفضلون “سترة البنات” على العمل في أي مجال حتى وإن كانت “عالمة ذرة” لأن البنت “ملهاش غير بيت جوزها” مهما حدث، لهذا ما زلنا مستمرين في وضع اعتبارات لألفاظ عديدة تصنف الفتاة أو المرأة العربية بناءً على حالتها الاجتماعية، فنقول فلانة المطلقة أو فلانة العانس أو فلانة الأرملة، بينما الرجل مهما كان لديه من صفات أو ألقاب مناظرة لما نُطلقه على المرأة ففي النهاية هو رجل وليس هناك أي صفة أخرى يمكن أن يُشار له بها.
في هذه الحملة تطلع الشباب إلى إثارة الرأي الجمعي ولفت أنظار العامة إلى مشكلة موجودة بالفعل وهي غلاء المهور وتكاليف الزواج وغيرها من المتطلبات التي يعلم بها الجميع، ولكن رغم واقعية المشكلة فإنهم لم يزيدوا إلا “الطين بلة” كما يقول المثل المصري، وبالتالي كان رد الفعل الرئيسي هو الاستهجان والاستنكار من هذه الحملة من الفتيات، لأن وصف الحملة الأساسي كان يُشّبه الفتاة بالسيارة التي تصدأ، ولكن السيارة سلعة يمكنك أن تشتريها أو تتركها وكان هدف تلك الحملة اقتصادي في المقام الأول.
ورغم أن الدافع لحملة العنوسة هذه كان اقتصاديًا كذلك، فإنه قدم إساءة وإهانه كبيرة للفتيات، بتعامله مع الفتاة على اعتبار أنها سلعة وأن الشاب المصري من بيده الحل، وهو الآمر والناهي وفي لحظة يمكن أن ينتشلها من شبح العنوسة وعدم الزواج.
إن نظرنا للأمر من زاوية أخرى، وبعيدًا عمن يبحثون عن التباهي بين أقرانهم، سنجد أن الأسر تفكر بطريقة أخرى إذ إنها تحتاج إلى رابط أو ضمان يكفي لأن تكون ابنتهم سعيدة ومُؤمنة
فإما أن “اشتريكي” بسعر مناسب أو تجلسين في بيت والدك ولن أرأف بك وسأتركك للعنوسة التي ستحيط بك من كل جانب، وتصبحين “بايرة” كما يقول المصريون، فابتداءً من لفظ العنوسة الذي تحدثت عنه وقلت إنه لم يستطع المجتمع ولا حتى مدشني هذه الحملة إلى الآن تغيير هذا اللفظ مثل وصف الفتاة بأنها “عزباء” أو “مستقلة”، نجد أن الكل يؤمن على هذا المصطلح ويتداوله، والشيء الثاني هو اعتبار أن المكان البديهي لأي فتاة هو بيت زوجها، وهذا غير حقيقي، فالأهم في حياة أي فتاة أن تكون سعيدة وتعيش حياتها بشكل طبيعي لا أن تكون في بيت زوجها، فكثيرات تزوجن ولم يفلح زواجهن وأخذن لقب آخر مثل “مُطلقة”، وهو لقب أدهى وأقسى من اللقب الأول.
وفي الوقت الذي أتحدث فيه عن الإهانة وحملة العنوسة هذه أجد أن كثيرين يتزوجون ولا يبالون بما يحدث في الواقع، وأي شاب مشارك في هذه الحملة ويعتنق رأيها سيُفضل مصلحته إن وجد الزيجة المناسبة له ولن يتركها تعنس كما يدعي أو كما يقولون، ومن جهة أخرى لا أنكر مغالاة الكثير من الأسر المصرية في تكاليف الزواج من المهور والذهب وتكاليف الزفاف.
ولكن إن نظرنا للأمر من زاوية أخرى، وبعيدًا عمن يبحثون عن التباهي بين أقرانهم، سنجد أن الأسر تفكر بطريقة أخرى، إذ إنها تحتاج إلى رابط أو ضمان يكفي لأن تكون ابنتهم سعيدة ومُؤمنة، فكثيرين يرون أنهم طالما أجبروا العريس على دفع مهر عالٍ وتكاليف باهظة لن يفرط في ابنتهم بسهولة ويتركها، وهذا تفكير خاطئ كذلك، والحقيقة أن المشكلة قائمة بين الشباب والأسر وليس الفتيات أنفسهن، ومهما حدث أو كان لا يجوز أن نتعامل مع الفتيات من هذا المنطلق مهما حدث، فبسهولة إن كنت غير قادر على تكاليف الزواج فلا تتزوج، لا أن تُهين الفتيات بما تقول وبتسليعهن، والجزء الأهم أن من تتحدث عنهن يمكن أن تكون أختك أو أمك أو ابنتك فلا تهين الفتيات لمجرد أنك غير قادر على دفع المهر المناسب وبالتأكيد ليست كل الفتيات والأسر يتعاملن بهذا المنطلق، فاختر الفتاة المناسبة التي ستكون شريكة حياتك وليست من تتنمر عليها وتهددها بأنك “هتخليها تعنس”.