قبل عشر سنوات، استقبل رجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا آنذاك، الرئيس السوري بشار الأسد لقضاء عطلة عائلية في منتجع بودروم في بحر إيجه كجزء من علاقة متصاعدة بين تركيا وسوريا إلى آفاق جديدة، وبعد عقود من عداء الحرب الباردة، قامت حكومة أردوغان التي تولت السلطة عام 2002 ببناء روابط جديدة مع جارتها الجنوبية (سوريا)، وازدهرت العلاقات التجارية والدبلوماسية.
استند الكثير من هذا التقارب إلى الصداقة الشخصية بين قادة الدولتين، ففي هذا الوقت تبادل أردوغان والأسد ذهابًا وإيابًا الكثير من الزيارات الودية، لكن لا يبدو الأمر الآن كما كان قبل سنوات قليلة، أمًَا الشؤال الذي يفرض نفسه: كيف ستبدو العلاقات بين الصديقين السابقين بعد إنهاء حالة الحرب في سوريا؟
ما قبل الثورة ليس كما بعدها
في أواخر التسعينيات ازدادت حدة التوتر كثيرًا بين تركيا وسوريا، لدرجة قيام تركيا بحشد قواتها على الحدود بين البلدين، بحجة قطع الدعم المتواصل الذي كان يقدمه نظام حافظ الأسد لتنظيم حزب العمال الكردستاني، وإيوائه زعيمه عبد الله أوجلان والسماح له بإقامة معسكرات على الأراضي السورية.
وكاد الأمر أن يتحول لصدام عسكري مباشر وسط تهديد تركي حينها بالاجتياح، قبل أن يتم توقيع الاتفاق في ولاية أضنة جنوبي تركيا بوساطة مصرية إيرانية، وهو الاتفاق الذي أرعب الأسد الأب، وظلّ طي الكتمان منذ التوقيع عليه وحتى قيام أردوغان أردوغان بإعادة إحيائه منذ أيام قليلة.
شهد اندلاع الحرب الدموية في سوريا انقسامًا هائلاً بين البلدين حيث أيدت تركيا انتفاضات الربيع العربي عبر شمال أفريقيا والشرق الأوسط دعمًا للمعارضة الشعبية في هذه الدول
لم يكن ذلك الاتفاق الذي يسمح لتركيا بدخول الأراضي السورية عندما تواجه أنقرة تهديدات إلا رد فعل على ممارسات النظام السوري المتواصلة ضد السوريين العاديين -والعديد منهم من المسلمين السنة- الذين شعروا بالإقصاء من قبل الحكومة العلوية.
وفي عام 2011، خرج هؤلاء إلى الشوارع،.ومنذ ذلك الحين، شهد اندلاع الحرب الدموية في سوريا انقسامًا هائلاً بين البلدين حيث أيدت تركيا انتفاضات الربيع العربي عبر شمال أفريقيا والشرق الأوسط دعمًا للمعارضة الشعبية في هذه الدول.
نصح أردوغان الأسد بالاستماع إلى مطالب المتظاهرين، لكن قوات الأمن ردت بوحشية على الاحتجاجات، وارتفعت خطابات أردوغان ضد الأسد الذي كان في يوم من الأيام صديقه المقرب، وبلغ التنديد ذروته حيث وصف الرئيس التركي الأسد، في 27 ديسمبر/كانون الأول 2017، بأنه “إرهابي بالتأكيد، يمارس إرهاب الدولة”.
وفي مؤتمر صحفي بعد اجتماعه مع الرئيس التونسي، الباجي قايد السبسي، قال أدروغان: “من المستحيل أن نستمر مع الأسد. وكيف نفتح أذرعنا للمستقبل مع وجود الرئيس السوري الذي قتل ما يقرب من مليون مواطن. ومن المستحيل أن تقبل تركيا بذلك. لأننا بذلك سنكون غير عادلين” بالنسبة إلى السوريين الذين قتلهم”.
تعامل أردوغان مع موقف النظام السوري من الثورة بشكل شخصي عندما نصح بشار الأسد بعدم التعامل بشكل مبالغ فيه مع المتظاهرين ولم يأخذ بشار بمشورته؛ ولأن النصيحة كانت من صديق إلى صديق أخذها أردوغان بشكل شخصي، لقد كسر شيء ما.
على مدار الصراع الذي دام ثماني سنوات، دعمت تركيا الجماعات المتمردة ضد الحكومة السورية، مع إصرار أردوغان أنه لا يمكن أن يكون هناك حل سياسي في سوريا بينما “رئيس سوريا الذي قتل ما يقرب من مليون من مواطنيها” في السلطة.
تحوّل القوى
دعت تركيا، كالعديد من القوى الإقليمية والغربية، إلى الإطاحة بالأسد، لكن عندما تقدمت روسيا لمساعدة حليفها القديم في سبتمبر 2015، تحول المد إلى صالح الأسد، ومع تراجع الغرب وغيره من القوى عن مطالبتهم الأسد بالتنحي، استمرت تركيا في التعبير عن معارضتها، لكن تحول تركيزها إلى ما اعتبرته تهديدًا أمنيًا فوريًا، تمثل في وحدات حماية الشعب الكردي (YPG).
في حين أن أنقرة لم تتراجع عن عدائها للأسد، فقد تم تخفيف حدة الخطابة حيث أن المعركة ضد وحدات حماية الشعب قد احتلت مركز الصدارة
المجموعة مترابطة بشكل وثيق مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي قاتل الدولة التركية منذ عام 1984، وبحلول عام 2015، قامت وحدات حماية الشعب ببناء جزء كبير من الأراضي في شمال شرق سوريا على طول الحدود مع تركيا، في حين تورطت أمريكا في دعمهم ضد العرب السنّة.
وفي صيف ذلك العام، عادت المعارك مع حزب العمال الكردستاني في جنوب شرق تركيا إلى الظهور مرة أخرى بشراسة لم تشهدها البلاد منذ تسعينات القرن الماضي، مما زاد من تأكيد التهديد، في حين أن أنقرة لم تتراجع عن عدائها للأسد، فقد تم تخفيف حدة الخطابة حيث أن المعركة ضد وحدات حماية الشعب قد احتلت مركز الصدارة.
وفي فبراير/شباط، عندما كانت تركيا في طريقها للإطاحة بوحدات حماية الشعب من معقلها الشمالي الغربي في عفرين، دعت صحيفة “يني شفق” المؤيدة للحكومة إلى إعادة إرساء العلاقات مع سوريا.
وخلال زيارته إلى موسكو يوم الأربعاء الماضي، قال أردوغان إن “هدف تركيا الوحيد” هو محاربة جماعات مثل الدولة الإسلامية في العراق والشام (المعروفة أيضًا باسم داعش) ووحدات حماية الشعب.
وفي أواخر العام الماضي، قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ردًا على سؤال عما إذا كانت تركيا ستعمل مع الأسد، إن تركيا ستدرس إعادة العلاقات مع الأسد إذا فاز في انتخابات ديمقراطية، وجاءت تعليقات جاويش أوغلو على الأسد قبل أيام من إعلان الولايات المتحدة انسحابها من شمال شرق سوريا، حيث كانت قواتها تتعاون مع وحدات حماية الشعب في المعركة ضد تنظيم الدولة “داعش”.
وقد أدى هذا إلى قيام وحدات حماية الشعب بالبحث عن صفقة مع الأسد حيث هددت الدبابات والقوات التركية أراضيها على الحدود، في حين يدعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحوار بين وحدات حماية الشعب -التي تسعى إلى الاحتفاظ بحكمها الذاتي في سوريا اتحادية جديدة- ودمشق.
وبالنسبة للنظام السوري، الذي لا يريد أي نوع من الاستقلالية لأي شخص، فإن ذلك يعني عودة الأجهزة الأمنية السورية حتى لا تكون وحدات حماية الشعب، مع احتمال استمرار وجودها، بنفس الشكل ولا يمكن أن تهدد تركيا، وفي حال استعاد الأسد السيطرة على شمال شرق سوريا، تأمل تركيا أن تقل تهديدات وحدات حماية الشعب إذا لم يتم القضاء عليها.
أهداف تركيا “تغيرت بشكل كبير” منذ بداية الحرب، وفي الوقت الحالي كل ما يستطيعون تحقيقه هو جعل حدودهم آمنة والتأكد من أن وحدات حماية الشعب لا تشكل تهديدًأ.
على الرغم من العداء الشخصي بين الأسد وأردوغان، يمكن لبوتين أن يلعب دورًا في جعلهما يعملان معًا
وفي اجتماع موسكو، ذكر أردوغان وبوتين “اتفاقية أضنة 1998” بين تركيا وسوريا اللتين رأيا أن تطرد الأخيرة زعيم حزب العمال عبد الله أوجلان وتغلق معسكرات جماعته، وفي وقت لاحق، وصف جاويش أوغلو إشارة أردوغان إلى المعاهدة، التي تقول إن سوريا لن تسمح بأي نشاط من أراضيها يهدد أمن تركيا على أنه “إيجابي بالنسبة لتركيا”.
عداء “لا رجعة فيه”
على الرغم من العداء الشخصي بين الأسد وأردوغان، يمكن لبوتين أن يلعب دورًا في جعلهما يعملان معًا، فأردوغان يتمتع بالذكاء الكافي ليتمكن من وضع مشاعره الشخصية جانبًا إذا رأى منفعة سياسية، ولا أحد يستطيع أن يقول إن أردوغان لن يجتمع أبدًا مع الأسد.
من المقرر أن تعتمد العلاقات ما بعد الصراع بين القوتين بشكل كبير على شكل الحكومة في دمشق بعد الانتخابات الرئاسية في غضون عامين
ومن المقرر أن تعتمد العلاقات ما بعد الصراع بين القوتين بشكل كبير على شكل الحكومة في دمشق بعد الانتخابات الرئاسية في غضون عامين، ومن المرجح أن يكون تشكيل الإدارة مماثلاً للحكومة الحالية، ربما مع إدراج بعض شخصيات المعارضة “المحظورة بشدة.
أما بالنسبة لموقف تركيا من حكومة الأسد بعد الحرب، فإن سينر أكتورك، مؤلف كتاب “دور تركيا في الربيع العربي والنزاع السوري” ، يرى أن “تركيا قد لا تعترف بشرعيتها ولكن عليها أن تقبلها، تمامًا كما تفعل مع الحكومة القبرصية اليونانية. والسيطرة الأرمنية على ناغورني كاراباخ والاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية”.
سؤال آخر يُطرح بالنسبة لسوريا ما بعد الحرب، ماذا سيحدث للأراضي التي تسيطر عليها تركيا في شمال سوريا بعد عمليتين للجيش السوري الحر ضد “داعش” وقوات حماية الشعب؟ المنطقة، التي تمتد على طول الحدود التركية من عفرين إلى نهر الفرات، يمكن أن تستخدم “كورقة مساومة” لتعزيز يد أنقرة بينما تسعى إلى تحييد وحدات حماية الشعب.
أما العلاقة بين الرئيسين التركي والسوري، فيشعر معظم المراقبين بأن العلاقات التي كانت قريبة بين أردوغان والأسد قد تضررت بشكل يتعذر إصلاحه، فقد انهارت العلاقة بعد أن أطلق نظام الأسد سياسة القتل الجماعي والترحيل القسري، وعلى هذا فإن هذه الهدنة تبدو لا رجعة فيها.