رسالة مغلفة بالتهديد بعثت بها الولايات المتحدة الأمريكية، لكل من الاتحاد الأوروبي وألمانيا، لوقف بناء خط أنابيب الغاز الروسي المعروف باسم “السيل الشمالي – 2“، فأمريكا ترامب، وبما أنها من يحدد مصالح العالم وترى ما لا يرونه لأنفسهم، قالت إن المشروع لا يصب في مصلحة الاتحاد الأوروبي على المستوى الأمني، وكل لبيب بالإشارة يجب أن يعي جيدًا مخاوف أمريكا من “التدخل الروسي” في القارة العجوز، وإلا فالعقوبات يمكنها الحديث جيدًا، لتُسمع الحلفاء الأوروبيين ما لا يريدون سماعه.
كيف بدأ المشروع؟
بدأت تصاميم المشروع في أكتوبر 2012، وتم الانتهاء منه أبريل 2017، وعلى الفور وقعت شركة “Nord Stream 2 AG” الألمانية، عقد اتفاق لتنفيذ المشروع، وأبرمت بدورها اتفاقيات أخرى مع كبرى شركات الطاقة الأوروبية.
إدارة أوباما ورغم انتقادها آنذاك هذا المسعى، كانت تتعامل مع الحلفاء بنبرة أكثر احترامًا، ولكن مع تولي دونالد ترامب، كثف ضغوطه لوقف المشروع، وهاجم ألمانيا بسبب تحديها سياساته، ومضيها قدمًا في بناء المشروع، ومع عدم الاكتراث من برلين، ألمح المسؤولون في البيت الأبيض، باستهداف واشنطن للشركات الأوروبية المشاركة في هذا المشروع بعقوبات قاسية، وهي مجرد خطوة لوقف المشروع بكل السبل.
رغم ترحيب الكثير من البلدان في أوروبا بمشروع خط الأنابيب، فإنه حظى بمعارضة مصحوبة بتخوفات عدة، أهمها اعتماد أوروبا على روسيا في الطاقة، بما ينزع عنها المخلب الأمريكي
في نوفمبر 2017، دخلت المفوضية الأوروبية على خط الأزمة، واقترحت تمديد قواعد الطاقة في أوروبا، عبر إنشاء خط أنابيب غاز روسي، يمر عبر بحر البلطيق ويصب في ألمانيا، وتوصل الأوروبيون إلى تدشين مشروع “نورد ستريم ـ 2” مناصفة بين شركة غازبروم الروسية العملاقة وخمس شركات أوروبية، لتقديم 55 مليار متر مكعب “1.9 تريليون قدم مكعب” من الغاز الطبيعي الروسي سنويًا إلى الاتحاد الأوروبي.
خطة الإفشال تأخذ وضع الاستعداد
رغم ترحيب الكثير من البلدان في أوروبا بمشروع خط الأنابيب، فإنه حظى بمعارضة مصحوبة بتخوفات عدة، أهمها اعتماد أوروبا على روسيا في الطاقة، بما ينزع عنها المخلب الأمريكي ويضعها بين مخلب أشد شراسة ومع طرف معاد تمامًا للقيم الأوروبية، وهي الثغرة التي قفز منها الرئيس الأمريكي، ليستغل حالة الجدل الدائرة في أوروبا وعدم التوحد خلف المشروع، لإجبار روسيا على الخروج من سوق الطاقة الأوروبية حتى تتمكن من ضرب عصافير عدة بحجر واحد، تطرد روسيا من ناحية، وتزرع استثمارها بديلاً بالقوة لبيع المزيد من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، لا سيما أن خط أنابيب بهذا الحجم، لن يكون تجاريًا فقط، بل سياسيًا أيضًا.
انتقلت أمريكا من مرحلة الضغوط إلى التلويح صراحة بفرض عقوبات على الشركات الألمانية المشاركة في بناء المشروع، بزعم وقف النفوذ المتوقع لروسيا على أوروبا التي لن يكون أمامها أي مساحة للمناورة أمام موسكو في الخلاف الدائر بينهما، والتباين الرهيب في رؤية كل منهما لقضايا العالم والإنسانية والليبرالية والحقوق والحريات.
اعتمدت روسيا على القوى الناعمة لها، وعن طريقة اللغة التي تحبها أوروبا، لعبت وسائل الإعلام الروسية دورًا كبيرًا في الأزمة، من خلال استضافة الكتاب والخبراء من البلدان الأوروبية كافة، للتعبير عن آرائهم
لجأت أمريكا إلى طرق عدة لتوصيل رسالتها، منها تسريب رسالة للسفير الأمريكي في ألمانيا ريتشارد جرينيل، كان قد بعث بها إلى الشركات المحلية لإخافتهم من المشروع، وهي الرسالة التي نشرتها مجلة “دير شبيجل” واسعة الانتشار، وتشير إلى إيحاءات أمريكية واضحة بـ”إجراءات جزائية محددة في المستقبل”.
فجاجة الرسائل واحتوائها على تهديد بعمل مسلح، أحدثت موجة من الانتقادات من الشركات الأوروبية، وتبارى الجميع في الاستنكار، وكان الرفض الأعلى حدة من شركة OMV النمساوية التي وصفتها بالتهديد غير المقبول.
موسكو من ناحيتها تجاهلت التهديدات الأمريكية، واتبعت نوعًا من الضغط والمناورة من نوع آخر، لا سيما أنها تعلم جيدًا هدف الضغوط الأمريكية على الاتحاد الأوروبي لمنع الغاز الروسي عن أوروبا، وإغرائها بالغاز الأمريكي.
اعتمدت روسيا على القوى الناعمة لها، وعن طريقة اللغة التي تحبها أوروبا، لعبت وسائل الإعلام الروسية دورًا كبيرًا في الأزمة، من خلال استضافة الكتاب والخبراء من البلدان الأوروبية كافة، للتعبير عن آرائهم بشأن رد فعل الولايات المتحدة وتصعيدها والضغط المكثف منها على الاتحاد الأوروبي والشركات، في محاولة واضحة لتعطيل المشروع، وكان لافتًا استضافة وكالة سبوتنيك الروسية الشهيرة، لعدد من علماء أوروبا والخبراء والصحفيين لتشكيل رأي عام مناهض للسياسة الأمريكية، وعلى رأس هؤلاء البريطاني جوستين دارجين خبير الطاقة العالمي والأستاذ في جامعة أكسفورد، والصحافي الإيطالي سيرجيو ماتالوتشي أحد أشهر الصحافيين في إيطاليا.
تشعر القيادة الألمانية بالقلق من فرض واشنطن عقوبات على شركات البناء الأوروبية المشاركة في المشروع، خاصة بعد التهديد الواضح والمعلن للبيت الأبيض، بالمواجهة المسلحة للمشروع إذا استلزم الأمر
تحركات موسكو لخلق رأي عام قوي في أوروبا، يحمي المشروع من الهجوم الأمريكي المكثف، تعلم أنه مؤثر سياسيًا، ولكنه على أرض الواقع لن يكون عامل التأثير الأقوى على متخذي وصناع القرار بشركات البناء الأوروبية المتخصصة في مثل هذه المشروعات، التي تعد حساباتها من منطلقات الواقع، ولن تصمد كثيرًا حتى تستقبل عقوبات أمريكية محتملة، ولهذا لجأت إلى مسار موازٍ، بالترويج للمنافع الاقتصادية للمشروع، فالاستجابة بهذه البساطة ودون مقاومة للتهديدات الأمريكية، يساوي تعرض مصالح هذه الشركات إلى مخاطرة تفويت فرصة استثمارية ضخمة لا تتكرر كثيرًا، وتقديمها هدية إلى الشركات الأمريكية المنافسة.
ألمانيا.. بوابة تحجيم المارد الأمريكي
تشعر القيادة الألمانية بالقلق من فرض واشنطن عقوبات على شركات البناء الأوروبية المشاركة في المشروع، خاصة بعد التهديد الواضح والمعلن للبيت الأبيض، بالمواجهة المسلحة للمشروع إذا استلزم الأمر، وفقًا لقانون مكافحة أمريكا للعنف، الذي أصبح قانونًا ملزمًا منذ توقيعه من ترامب في أغسطس 2017.
كما تتخوف ألمانيا من المصالح السياسية المتضاربة في القارة الأوروبية، تجاه الشبكة الاقتصادية الجديدة، وهي مشكلة قديمة تعاني منها القارة العجوز، فكل مشروع جماعي للأوربيين، يجد المشاركون فيه حوافز مالية وسياسية تعادي بعضها غالبًا، وهو ما دعا وزير الخارجية الأمريكي الأشهر هنري كيسنجر إلى التهكم عليها في أحد خلافاتهم قائلاً لهم: “مع من أتحدث عندما أريد الاتصال بأوروبا؟”.
وتقف بعض الدول الأوروبية بجانب أمريكا في رفض خط أنابيب الغاز الروسي الجديد، فدولة مثل بولندا تتخوف منه، وتراه خطوة كبرى نحو تعزيز الشهوة الاحتكارية لروسيا، بينما ترفضه أوكرانيا لأسباب مختلفة، على رأسها أنه يقلل من أهميتها كدولة عبور رئيسية للغاز إلى أوروبا، بجانب صراعتها من روسيا والأزمة القائمة معها في البحر الأسود، التي دعت الأخيرة للمطالبة بعدم تضمين أوكرانيا بالاتفاقية، بينما ترفض الدنمارك لأسباب أمنية وبيئية.
تحاول ألمانيا تزعم سياسة لا تلين بسهولة أمام لغة التهديد المتعالية حاليًّا من الولايات المتحدة ضد أوروبا، التي تخطاها ترامب إلى تهديد مصالح القارة بشكل مباشر
تتمسك ألمانيا بالمشروع لأنه سيضمن لها تنويع مصادر الطاقة، وخاصة بعد إلغائها تشغيل الفحم والمحطات النووية ضمن خطتها للاعتماد على الطاقة البديلة بحلول عام 2022، بجانب الابتعاد عن الدوران في فلك الولايات المتحدة التي توحشت وأظهرت نواياها تجاه أوروبا مع سلطة ترامب، كما أنها تطمح بشدة أن تكون مركزًا للطاقة في أوروبا، اعتمادًا على خط الأنابيب الروسي الذي سيصب في برلين، ومنها إلى دول أوروبا الغربية.
محاور الدفاع الألماني ضد ترامب
ترفض برلين الاتهامات الأمريكية والمزاعم التي تثيرها داخل الرأي العام العالمي، بسبب التوغل الروسي في أوروبا، لا سيما أن صادرات الطاقة الروسية إلى القارة العجوز بدأت في وقت مبكر وتحديدًا منذ عام 1973 خلال الحرب الباردة، كما أن هناك سببًا آخر يدعم خط الأنبايب الجديد وهو أن واردات الغاز الطبيعي المسال الأمريكية، حال الاعتماد عليها ـ لو فشلت الصفقة الروسية ـ ستكون أكثر تكلفة من غاز خط الأنابيب الروسي ولن تتحملها الولايات المتحدة بالطبع.
تحاول ألمانيا تزعم سياسة لا تلين بسهولة أمام لغة التهديد المتعالية حاليًّا من الولايات المتحدة ضد أوروبا، التي تخطاها ترامب إلى تهديد مصالح القارة بشكل مباشر، بداية من استئناف العقوبات ضد إيران وتأييد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والنزعات الأحادية الأمريكية والاستكبار الذي تمارسه على حلفائها، بما يلزم الاتحاد الأوروبي بضرورة السعي جاهدًا بكل قوة، للابتعاد عن البنية المالية العالمية التي تقودها الولايات المتحدة، وعزل شركاته عن أي تأثير اقتصادي سلبي قد تتعرض له، كلما تعارضت مصالحها مع القانون الأمريكي.
وترى ميركل أنه آن الأوان، وبعد ما يقرب من ثلاثة عقود على تدشين الاتحاد الأوروبي، لقيادته في الاتجاه الصحيح، واتباع أطر مشتركة في صياغة سياسة الطاقة بين دول القارة، وتستند المستشارة الألمانية على فرنسا التي تدعمها بقوة وتشاركها المخاوف والنزعة التحررية من الهيمنة الأمريكية وتنسيق سياسات الطاقة بين برلين وباريس، ما دعا قيادة البلدين إلى توقيع معاهدة آخن “الفرنسية الألمانية” للدفاع المشترك في يناير الحاليّ.
كما يدرك كل من ماكرون وميركل أن ترامب يصعد من تهديده في قضية الغاز الروسي، لاسترجاع قبضته الحديدية على أوروبا، بعدما شكل الموقف القوي للبلدين، حالة معقولة من الطمأنة للأسواق، بجانب سعيهما لإعادة تنسيق الجهود مع الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وإبصار الجميع بضرورة الرد بشكل قوي على أي عقوبات أمريكية جديدة، حتى يعلم ترامب جيدًا أن هناك ثمنًا فادحًا سيتكلفه، بما في ذلك، التضحية بالعلاقات كاملة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إذا ما أقدم على تنفيذ تهديداته الجديدة.