“اليوم، يفقد نظام نيكولاس مادورو أي مظهر متبق للشرعية بعد أن استولى على السلطة من خلال انتخابات مناهضة للديمقراطية، وأصبح نظام مادورو راسخًا بالكامل كديكتاتورية، ندعوه إلى التنازل عن السلطة على الفور إلى الجمعية الوطنية المنتخبة ديمقراطيًا حتى يتم إجراء انتخابات جديدة، معاناة الفنزويليين ستزداد سوءًا فقط إذا استمر في التشبث بالسلطة بشكل غير شرعي”.
بهذه الصيغة عبَّرت كندا عن موقفها من نظام مادورو في فنزويلا، لكن من الواضح أن رئيس وزراء كندا جاستين ترودو ووزيرة خارجيتها كريستيا فريلاند يقتضيان درسًا تاريخيًا قصيرًا ومفيدًا في ضوء دعمهما الكبير لمحاولة الانقلاب البطيء في فنزويلا.
مفارقات السياسة الكندية
ليس من المفاجئ على الإطلاق أن ينسى جاستين ترودو وكريستيا فريلاند بشكل ملائم عندما كان كبار السياسيين الكنديين، بمن فيهم والد ترودو رئيس وزراء كندا الأسبق بيير ترودو (1968-1979)، منذ عدة عقود، غاضبين بشكل كبير بعد أن حشر رئيس دولة أجنبية أنفه في شؤون كندا الداخلية، بينما يتجهون نحو حشر أنوفهم الصغيرة الجميلة في الأعمال المتعسرة في فنزويلا.
وزيرة الخارجية الكندية كريستيا فريلاند
بطبيعة الحال، فقدان الذاكرة هذا أمر مطلوب بين المحنكين السياسيين الغربيين الذين لا يزال أسلوب عملهم الدبلوماسي يعكس سلوكًا شبيهًا بسلوك الاستعمار الذي يمليه على البلدان “النامية”، ففي حين يكون هناك مجموعة واحدة من القواعد الدولية، تسير على مجموعة أخرى تناسبها، التي يُحتمل أن تكون عواقبها وحشية.
وفي حين تقبع فنزويلا وشعبها بشكل خطير على حافة الهاوية، فإن ترودو وفريلاند – وهما من الليبراليين المزعومين – قد اُنتخبوا للوقوف جنبًا إلى جنب مع “الشعوبيين” المشهورين مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس البرازيلي الجديد جايير بولسونارو، وهم يدعمون “دميتهم” خوان جوايدو، رئيسًا “مؤقتًا” للبلاد.
موقف كندا يذَّكر بمشهد آخر لا يُمحى عندما أعلنت كندا أن الرئيس الفرنسي شارل ديغول شخصًا غير مرغوب فيه لمحاولته تقسيم البلاد “الهشة” إلى اثنين
الآن، بينما من الواضح أن العشرات من الفنزويليين يدعمون غوايدو، يريد الملايين غيرهم من الكنديين والأمريكيين المتحمسين أن يحزموا محاضراتهم النابية عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعودة إلى ديارهم.
إن مشاهدة ترودو وفريلاند يسخران من حق الفنزويليين في تقرير المصير السياسي لبلدهم دون اللجوء إلى ما يُعرف بـ”تغيير النظام” المألوف والخطاب النازف من واشنطن وأوتاوا، يذَّكر بمشهد آخر لا يُمحى عندما أعلنت كندا أن الرئيس الفرنسي شارل ديغول شخصًا غير مرغوب فيه لمحاولته تقسيم البلاد “الهشة” إلى اثنين.
مناقضة دروس الماضي
عام 1967، زار ديغول الشاهق – مع أنفه البارز بنفس القدر – كندا خلال المعرض الدولي والعالمي عام 1967، في ذلك الوقت، كانت الحركة الانفصالية في مقاطعة كيبيك الكندية الناطقة باللغة الفرنسية التي طال أمدها تجتذب الحشود حولها، ويبدو أن ديغول كان حريصًا على إعطائها دفعة هائلة.
عشية الزيارة، كان رئيس وزراء كندا في ذلك الوقت، ليستر بولز بيرسون، يشعر بالقلق من أن ديجول سيستغل إقامته في الدفاع عن القضية الانفصالية، وعند القيام بذلك، يتدخل في السياسة الكندية القابلة للاشتعال، لذلك أرسل وزير خارجيته للقاء الرئيس الفرنسي في باريس لإصلاح العلاقات الثنائية.
عاد ديغول الذي لم يعتذر إلى فرنسا، تاركًا وراءه بلدًا مدمرًا يتعامل الآن مع حركة انفصالية نشطة في كيبيك تنوي الانفصال عن كندا
لكن العرض الدبلوماسي فشل بشكل مذهل، وفي 24 من يوليو من ذلك العام، وقف ديغول بتحدٍ على شرفة في قاعة مدينة مونتريال أمام حشد من عشاق كيبيك، وفي خطابه، فعل ديغول بالضبط ما لم يرد بيرسون أن يفعله، خطا بحزم وبصوت عالٍ في شؤون كندا الداخلية.
من جانبه، أخبر ديغول صهره رئيس أركان الجيش الجنرال ألان دي بواسيو، أنه “خطط لضربة قوية، وسوف تسوء الأمور وتزداد اشتعالاً، لكن ذلك ضروري”، وعندما أصبحت الأمور ساخنة على ما يرام، ألقى ديغول خطابه التاريخي الذي بُث على الهواء مباشرة، وووصلت حدة خطابه إلى أوجَّها عندما اتكأ على الميكروفون، وقال في صوت جهور لا لبس فيه: “تحيا كيبك، تحيا كيبيك حرة، تحيا كندا، تحيا فرنسا”.
استطرد ديغول في الحديث عن الحرية كما لو كان يلقى قنبلة يدوية على النفس السياسية الكاذبة بالفعل في كندا، وانفجر الحشد بالبهجة، وكذلك العلاقات الكندية الفرنسية.
أمطر الكنديون الغاضبون الناطقون باللغة الإنجليزية الحكومة الليبرالية بالرسائل التي تطالب ديغول بالرحيل على الفور من البلاد، واعترض بيرسون على ذلك، فاختار بدلاً من ذلك أن يصدر بيانًا صاخبًا ينتقد تدخل الزعيم الفرنسي في شؤون كندا، وقال بيرسون للكنديين: “تصريح الرئيس غير مقبول، شعب كندا حر، وستبقى كندا موحدة وسترفض أي جهد لتدمير وحدتها”.
بعد ذلك تساءل وزير العدل بيير ترودو أيضًا عن تبرير رد الفعل الفرنسي إذا ما كان صاح رئيس الوزراء الكندي قائلاً: “بريتاني للبريطون”، في إشارة إلى منطقة بريتاني الثقافية، التي تقع في شمال غرب فرنسان وكانت قديمًا مملكة ثم أصبحت دوقية، ثم اتحدت مع مملكة فرنسا عام 1532 كمقاطعة، ويشار لها أحيانًا ببريطانيا الصغيرة، وعادة ما يتم التنازع على هذه المنطقة الإقليمية، حيث إنها تعد موطن البريطون، وهم مجموعة عرقية يقطنون منطقة بريطانيا الفرنسية.
يُقال إن وزيرة الشؤون الخارجية كريستيا فريلاند كانت مرارًا وتكرارًا على اتصال دائم مع زعيم المعارضة الفنزويلية خوان جوايدو قبل أسبوعين من إعلانه رئيسًا مؤقتًا
بعد أيام، عاد ديغول الذي لم يعتذر إلى فرنسا، تاركًا وراءه بلدًا مدمرًا يتعامل الآن مع حركة انفصالية نشطة في كيبيك تنوي الانفصال عن كندا، تحقيقًا لحلم قديم يراودهم منذ عام 1976، تاريخ وصول الحزب الكيبيكي الانفصالي إلى السلطة في المقاطعة، وسعيًا للانفصال عن كندا، كانت كيبيك على مشارف محاولة انفصالية ثالثة في نوفمبر/تشرين الثاني 2017.
كندا تفعل ما فعله ديجول
يُقال إن وزيرة الشؤون الخارجية كريستيا فريلاند كانت مرارًا وتكرارًا على اتصال دائم مع زعيم المعارضة الفنزويلية خوان غوايدو قبل أسبوعين من إعلانه رئيسًا مؤقتًا، وهنأته على توحيد قوى المعارضة في فنزويلا، وتواصلت “المحادثات السرية” بينهما حتى قبل ساعات من المناورة المدبرة بعناية لانتزاع رئاسة فنزويلا من نيكولاس مادورو.
على نحو منفصل، أبلغت جماعات معارضة ودبلوماسيون سابقون وفنزويليون مهاجرون المسوؤلوين في العاصمة أوتاوا بأنهم يتوقعون إعلانًا رئيسيًا يوم الأربعاء، وهي الذكرى الـ61 لنهاية ديكتاتورية ماركوس بيريز جيمنيز العسكرية في فنزويلا عام 1958.
من المرجَّج أن يتألم عدد لا يحصى من الفنزويليين من اقتراح فريلاند الضمني بضرورة تحريرهم ورفض محاولاتهم الصريحة للتعدي على مستقبلهم
وبحسب ما نقلته صحيفة “جلوب أند ميل” الكندية عن مصادر غير مصرح له بالتحدث علنًا عن هذه المسألة، سمحت تلك المحادثات لكندا بالرد بسرعة بعد أن أعلن رئيس الجمعية الوطنية خوان جوايدو نفسه رئيسًا مؤقتًا في ذلك اليوم، وأصدرت فريلاند بيانًا على الفور للاعتراف بغوايدو كرئيس مؤقت، وقالت: “الكنديون يقفون مع شعب فنزويلا ورغبتهم في استعادة الديمقراطية الدستورية وحقوق الإنسان في بلادهم”.
وبعد اعتراف كندا بغوايدو الذي أصبح زعيمًا للمعارضة في الـ5 من يناير، أُغلقت السفارة الكندية بسبب مخاوف أمنية، وقال مسؤول الحكومة الكندية إنه لا توجد خطة لاستدعاء 6 دبلوماسيين كنديين في فنزويلا، وقالت وزيرة الخارجية الكندية كريستيا فريلاند، إن بلادها ستمنع سفير فنزويلا من العودة إليها بعدما طردت الأخيرة مبعوثين من البرازيل وكندا انتقدوا سجلها الحقوقي.
كما انضمت كندا إلى أعضاء مجموعة ليما – وهي هيئة متعددة الأطراف أنشئت في 8 من أغسطس 2017 في ليما عاصمة بيرو، حيث اجتمع ممثلو 17 بلدًا من أجل إنشاء مخرج سلمي للأزمة في فنزويلا، ويضم التحالف دول أمريكا اللاتينية وكندا، التي من المقرر أن تستضيف الاجتماع القادم لمجموعة “ليما”، يوم 4 من فبراير المقبل، لمناقشة الخطوات التالية في فنزويلا التي تغرق أكثر فأكثر في الأزمة الاقتصادية.
اعترفت كندا برئيس البرلمان المعارض خوان غوايدو كرئيس مؤقت للبلاد
وفي وقت لاحق اعترف معظم دول المجموعة، باستثناء المكسيك، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، برئيس البرلمان المعارض خوان غوايدو السياسي غير المعروف كرئيس مؤقت لفنزويلا بدلاً من زعيم الحزب الاشتراكي الحاكم نيكولاس مادورو، الذي حضته على التنحي عن منصبه بعد أن أدَّى اليمين كرئيس في وقت سابق من هذا الشهر، في حين أن روسيا والصين وتركيا وإيران تدعم مادورو.
وكما فعل ديغول، من المرجَّج أن يتألم عدد لا يحصى من الفنزويليين من اقتراح فريلاند الضمني بضرورة تحريرهم ورفض محاولاتهم الصريحة للتعدي على مستقبلهم، كما سيتأثر بيرسون وترودو الأب، على الأقل، بتدخل فريلاند وتورودو الابن، لكنهم يتدخلون في قارة تركت فيها الحيل الأمريكية السابقة كارثة مؤلمة.
وهذا، بلا شك، سيكون بمثابة المرثية الحاسمة لوزير خارجية كندا المخلص ورئيس وزرائها، وهما “ليبراليان” يتنكران على أنهما “تقدميون” يربطون الأسلحة مع دونالد ترامب ومعاونيه البرازيلين المخلصين لإقالة رئيس اشتراكي في أمريكا الجنوبية.