قبل النظر بدعوة الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة في تغريدة له عبر تويتر لدعوة المناصرين والمؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية للتبرع عبر عملة “البتكوين” لدعم المقاومة، يجب وضع مؤشرات في سياق الاقتصاد السياسي للمقاومة بصفتها حركة تحرر اتخذت تجربة فريدة مختلفة عن حركات التحرر التاريخية، من طبيعة المحتل بمركزيته، والجغرافيا بجوارها، ونوعية المقاتلين من الناحية الإيديولجية الوسطية تقريبًا، وطبيعة التقسيم الداخلي.
ما قبل البتكوين
هناك أزمة مالية تعاني منها حماس بشكل كبير خصوصًا حماس داخل قطاع غزة، تهدد التنظيم بشكل واضح، مع توقف الموردين للمال عن طريق الحقائب بعد تغير النظام المصري، أو عبر التحويلات البنكية بعد الحصار البنكي ومراقبة التحويلات التي تخرج من غزة أو تدخل إليها.
وقد حاولت حماس إدارة الأزمة عن طريق تجار كبار يتلقون أموالهم خارج فلسطين ويمنحونها لحماس داخل غزة، لكن عمق الأزمة بدا أكبر من ذلك إذ وصلت لموظفي حماس ومقاتلي الجناح العسكري، وقد أحدث موقف حماس في القطاع من إيران إطالة جديدة للحلول المؤقتة التي فشلت جميعها في توفير دعم جيد للحركة التي أرهقت جناحها العسكري بسبب التزاماتها المالية للموظفين المدنيين في حكومة حماس التي حلتها، وكذلك استنزف مشروع الأنفاق القسام وحماس ماليًا.
لا يمكن اعتبار رفض المنحة القطرية مؤشر لعدم رضوخ حماس للمال السياسي، ففي نهاية المطاف دخلت المنحة القطرية بطريقة أخرى في سياق الإغاثة والأمم المتحدة وهذا يخفف الضغط عن حماس
هنا يمكن الإشارة إلى أزمة مالية مركبة، أولها في نقص التمويل لحركة حماس والقسام مع انعدام الموارد الداخلية المالية، وجراء ثورات الربيع العربي تناقص الداعمون بشكل كبير جدًا وهو ما أثر على إستراتيجيات الحركة، ثانيها عجز حماس عن إدخال الأموال لقطاع غزة مع إغلاق غالبية النوافذ المالية عليها وطرق إدخالها، وقد جاء إعلان القسام كاستجداء للتمويل بما تبقى من داعمين للقضية الفلسطينية، ومن تابع علاقة حماس المتصاعدة مع مسؤول التيار الإصلاحي لفتح محمد دحلان يدرك حاجة حماس للمال لإسكات الناس في ظل ارتفاع نسب الفقر المدقع والفقر والبطالة في قطاع غزة.
وهنا لا يمكن اعتبار رفض المنحة القطرية مؤشر لعدم رضوخ حماس للمال السياسي، ففي نهاية المطاف دخلت المنحة القطرية بطريقة أخرى في سياق الإغاثة والأمم المتحدة وهذا يخفف الضغط عن حماس.
العودة للمربع القديم في الخطاب.. لماذا القسام؟
في السياق التاريخي استخدمت العملات الافتراضية للالتفاف على العقوبات الأمريكية وهي حالة مشابهة لما تمر به حماس، فقد أصدت فنزويلا عام 2018 عملة إلكترونية بقيمة 735 مليون دولار من عملة “بترو” المخطط لطرحها بقيمة 6 مليارات دولار، وبدأت البنوك الروسية عام 2018 تجربة تقنية “الإيثريوم” بعد لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع مؤسس التقنية فيتاليك بوتيرين، لكن من قام بذلك دول لها علاقاتها الدولية القوية التي تسمح لها بالتدوال بالشكل المكشوف.
لماذا القسام من أعلن وليس حماس؟ هذا التساؤل يمكن وضعه في سياق فشل حماس في إدارة قطاع غزة من الناحيتين السياسية والإدارية، وعجز قيادة الخارج عن توفير المال باستمرار
في سياق منفصل هناك تساؤل مهم: لماذا القسام من أعلن وليس حماس؟ هذا التساؤل يمكن وضعه في سياق فشل حماس في إدارة قطاع غزة من الناحيتين السياسية والإدارية، وعجز قيادة الخارج عن توفير المال باستمرار، وكذلك عدم القدرة على طرح القضية الفلسطينية ومشروع المقاومة في سياق حداثي تتقبله الشعوب المحبة لفلسطين مع اصطدامه بموجة التطبيع السريعة ومحاولات ربط حماس بالإرهاب والانقسام الفلسطيني، ما أفقد حماس جزءًا مهمًا من جماهيرها الداخلية والخارجية، لتعود إلى المربع الأول (خطاب روح المقاومة) لدى هذه الجماهير، فصيغة الدعوة جاءت من القسام مباشرة وليس حماس.
ساحات جديدة لإدارة الأزمة تدار في الخارج.. هل تأخر الوقت؟
الإعلان بحد ذاته يجعل الأمر غريبًا، ولن أخوض كثيرًا في السياق التقني لآليات التحويل عبر المحافظ النقدية وإرسال المال عبر البتكوين، لكن ما أعرفه أن منصات التداول أصبحت مراقبة بشكل جيد في دول مهمة كأمريكا والصين مثلًا، وعلى المرسل أو المستقبل الإفصاح عن اسمه وتوثيق حسابه، والأمر ليس مطبقًا في جميع الدول.
أما مجرد قبول القسام للتدوال في البتكوين وبهذه الطريقة العلنية أمر مثير للجدل، فمن الناحية الدينية حرّمت دار الإفتاء الفلسطينية التدوال بعملة البتكوين، ومن الناحية القانونية تعتبر العملات الرقمية ملاذًا للعمليات غير القانونية كونها على درجة عالية من التشفير يصعب تحديد هوية المتعاملين فيها في كثير من الدول وليس كل الدول لاستخدامها لطريقة “البلوك تشين” الشهيرة التي لا تحتاج لوسيط بين المرسل والمستقبل حيث تتم العملية مباشرة، ويعرف مستخدمو “Dark Web” مقصد كلامي.
نظرًا لصعوبة تعقب المسار المالي ـ حتى الآن ـ من المرسل إلى المستقبل في حال أعلن القسام الشيفرة الخاصة به لقبول التحويلات التي تتم بعيدًا عن أي بنوك، قد ينجح القسام حاليًّا في جمع تبرعات عبر البتكوين
يعني ذلك أن أزمة حماس المالية قد دفعتها للمبدأ الميكافيلي (الغاية تبرر الوسيلة)، لكنه جاء متأخرًا، فكل الوسائل التي استخدمتها حماس كشفت ولم تتطور بشكل مواكب لتطور عمليات الحصول على المال بشكلها الحديث، بصورة أوضح المصادر المالية للقسام في الخارج تكاد تكون معدومة، فهل هو تحول جديد أكثر ميكافيلية وواقعية؟
خلاصة الأمر نظرًا لصعوبة تعقب المسار المالي ـ حتى الآن ـ من المرسل إلى المستقبل في حال أعلن القسام الشيفرة الخاصة به لقبول التحويلات التي تتم بعيدًا عن أي بنوك، قد ينجح القسام حاليًّا في جمع تبرعات عبر البتكوين، لكن خطوة تحويل العملة النقدية لمال مسال عن طريق البنوك قد يكشف الحساب فورًا، وقد يتجه القسام إلى تحويل الرقمي لنقود سائلة عبر السوق السوداء، ويحل من خلالها عقدة شح التمويل الأولى وتبقى عقدة إدخال الأموال.