تزداد حدة التصريحات السلبية ضد النفوذ الإيراني مع مرور كل يوم تقترب فيه الأزمة السورية من التسوية، تصريحات تُشير إلى ضرورة تقليم أظافر هذا النفوذ قدر الإمكان، وتتزعم هذه التصريحات واشنطن و”إسرائيل” وعدد من الدول العربية.
لقد أدت إيران دورًا ميدانيًا كبيرًا في معاونة النظام السوري منذ اندلاع الثورة السورية، حيث وفرت له دعمًا وجيدًا، تجلّت شواهده في جلب الميليشيات الشيعية من أصقاع الأرض كافة، وزجها في سوريا لمحاربة فصائل المعارضة، والقريب من الميدان عادة ما يكون من أسياد الموقف، فبدورها الميداني باتت إيران ترتبط ارتباطًا عضويًا إستراتيجية مع النظام السوري على كل الأصعدة الاقتصادية والأمنية والمؤسسية.
إن مشروع “الهلال الشيعي” الذي يُشير إلى إرساء إيران نفوذ سياسي واقتصادي وأمني على أهم المنافذ البحرية والبقع الجغرافية ذات الأهمية الجيوسياسية في المنطقة، هو الدافع الأساسي لتقديم إيران يد العون للنظام السوري، وقد ركنت طهران إلى عدة أساليب في سبيل ترسيخ نفوذها داخل الأراضي السورية، أبرزها: التدخل المباشر وعبر الخبراء وحرب الوكالة والتغيير الديموغرافي والتوغل المؤسساتي داخل أواصر الدولة السورية والقوة الناعمة القائمة على الدعاية الإعلامية، وغيرها من الأساليب.
وفي ضوء ما بذلته إيران من جهد وتحملته من تكاليف، ما مآل نفوذها في سوريا في ظل ضغط الخصم والحليف عليها؟
مقابل ما قدمته من قروض مالية بلغت 5.6 مليار دولار وتسهيلات مالية للمؤسسات ورجال الأعمال الموالين لنظام بشار الأسد بلغت قيمتها 4.6 مليار دولار، تتحضر إيران لنيل صيدٍ ثمين حُددت قيمته باسثتمارات عامة وصلت إلى 20 مليار دولار، تحصل إيران عليها من خلال منح النظام السوري لها ضمانات سيادية تشمل الموانئ والمرافق والأراضي الزراعية وبعض المعامل، وغيرها من مرافق تعود ملكيتها للدولة.
ولم تكد إيران تُثبت أقدام نفوذها جزئيًا في الجغرافيا السورية، حتى ظهرت أمامها، بالتزامن مع وصول القضية السورية إلى تسوية، عدة تحديات قد تُعيق ما ترنو إليه من تقاسم نفوذ شبه مُطلق مع روسيا، وتكمّن التحديات التي قد تواجها إيران في السطور التالية:
ـ دفع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة (“إسرائيل ودول الخليج)، الولايات المُتحدة لاتخاذ إجراءات “تكاملية” تحفظ مصالحها من خلال تحجيم النفوذ الإيراني.
ـ القناعات الشخصية لأعضاء الإدارة الأمريكية، وبالأخص وزير الدفاع ومستشار الأمن القومي، اللذين يُقيّمان إيران على اعتبارها قوة تضر بالمصالح الأمريكية وحلفائها في المنطقة.
ـ تبني الإدارة الأمريكية إستراتيجية “العصا الغليظة” التي تعتمد بالأساس على سياسة الاحتواء والتطويق عبر تقاسم التكاليف مع الشركاء والتلويح بالعقوبات عند الحاجة بعيدًا عن تحركات “الضربات المُطلقة” باهظة الثمن.
ـ الخلاف الجيوسياسي ـ الجيواقتصادي بين إيران وروسيا، حيث تسعى الأخيرة إلى التحكم في أكبر قدر ممكن من توريدات الطاقة للاتحاد الأوروبي، للإبقاء على ورقة ضغط ضده، بينما توفر إيران ـ صاحب ثاني أكبر احتياطي للغاز الطبيعي في العالم ـ بديلًا إستراتيجيا للاتحاد الأوروبي، ما يدفع روسيا للنظر في آليات تحجيم دور إيران، وإدارة عمليات تصدير الطاقة الإيرانية لأوروبا قدر الإمكان، فضلًا عن تنافسهما على تحقيق سيطرة جيوسياسية أكبر على الموانئ ومصادر الطاقة الطبيعية والمواد الخام والقواعد العسكرية.
ـ انقلاب المعادلة لصالح روسيا بعد تغيّر الإدارة الأمريكية، حيث بدت روسيا أنها تسعى لرسم صورة “الشرطي الجيد” القادر على كبح جماح “الشرطي الإيراني السيء” المزعزع للاستقرار في المنطقة، لاستغلال هذه الظروف في تحجيم القوة الإيرانية التي قد تعيق عملية تنفيذ قراراتها في سورية مستقبلًا، ولفتح الأبواب أمام اعتمادها “كمدير” لعملية إعادة الإعمار، ولموازنة تحركاتها في سورية على نحوٍ يكفل لها، نسبيًا، مصالحها شرقي أوكرانيا وفي محيط البحر الأسود، ويضمن لها كسب الدعم الإسرائيلي في إقناع الإدارة الأمريكية برفع العقوبات المفروضة عليها، وأخيرًا لكسب الأموال الخليجية، والدولية عبر البنك الدولي أو صندوق النقد – الموجهة أمريكيًا – في عملية إعادة الإعمار.
ـ رغبة النظام السوري للموازنة بين النفوذين الروسي والإيراني، بهدف الإفلات من مأزق التبعية الكاملة لإيران.
ـ علمانية التوجه السياسي للنظام قيادةً ومؤسسات، بعيدًا عن التوجه الديني الطائفي لإيران.
سيناريو تحويل سوريا لما يُشبه اليمن الذي استولى حليف إيران فيه على سيطرة شبه مُطلقة، وسيناريو لبنان الذي يُسيطر فيه حليفها على أركان الدولة بصورةٍ شبه كاملة، وسيناريو التوغل الشامل كما الحال في العراق، صعب الوقوع في سوريا
السيناريو الأكثر رجوحًا
أمام هذه التحديات يبدو أن سيناريو تحويل سوريا لما يُشبه اليمن الذي استولى حليف إيران فيه على سيطرة شبه مُطلقة، وسيناريو لبنان الذي يُسيطر فيه حليفها على أركان الدولة بصورةٍ شبه كاملة، وسيناريو التوغل الشامل كما الحال في العراق، صعب الوقوع في سوريا، وعليه يُرجح سيناريو توافق إيران مع نظام المحاصصة الجغرافية.
يُشير هذا السيناريو إلى جنوح إيران للتحرك بواقعية وعقلانية على نحو القبول بنظام المحاصصة الجغرافية الذي بات قائمًا في سوريا من خلال محادثات الأستانة وتحركات الدول الفاعلة، بحيث أصبح الشمال الشرقي يُمثل النفوذ الأمريكي الغربي بوجودها المباشر وغير المباشر عبر قوات سوريا الديمقراطية “قسد” المدعومة أمريكيًا، والشمال الغربي يُمثل النفوذ التركي المباشر وغير المباشر عبر فصائل المعارضة، وربما يمتد هذا النفوذ إلى بعض أجزاء من شمال شرقي سوريا ضمن حدود “المنطقة الآمنة”، وأضحى عموم سوريا تحت السيطرة الروسية الدبلوماسية والعسكرية الجوية، أما النفوذ الإيراني الميداني البائن فيتركّز في وسط سورية، لا سيّما المسار البري الذي يمتد من البوكمال حتى القصير، بالإضافة إلى بعض مناطق محيط دمشق.
وقد يختلف هذا السيناريو عن الحالتين اللبنانية والعراقية في نقطة احتمال انعدام القوة العسكرية “الميليشياوية” الضاربة باسم إيران، ومحدودية النفوذ السياسي والجغرافي في المُستقبل، نتيجة الضغط الروسي عليها لإخلاء الميليشيات من سوريا، وأمام هذه النقطة، قد يظهر للسطح جنوح واضح لإيران نحو الأساليب الناعمة، لا سيّما تحقيق توغل مؤسسي سياسي وأمني واقتصادي في القطاعين العام والخاص، مع الركون إلى تدعيم وجودها بالحفاظ على محوريّة تحركها بين العراق وسوريا ولبنان، وتعزيز هذا المحور بدعم اقتصادي مديد، وتحصينه بخطابات إعلامية تواتي توجه من يدور في فلكه.
تُدرك طهران ضرورة التحرك حيال نفوذها في سوريا بواسطة سيناريو واقعي يتماشى مع المعادلة الدولية الماثلة فيها، تلك المعادلة التي بات من الواضح أنها تقوم على أساس تقليم نفوذها لأقل مستوى
في ظل اتجاه المعادلة الدولية نحو تطويق نفوذها، قد تحذو إيران حذو الميل للواقعية المتكئة على حل الميليشيات الشيعية، والإبقاء على دعم وتسليح بعض المجموعات المحلية، الشيعية وغير الشيعة، الواقعة في نطاق امتداد ممرها البري الممتد من البوكمال “دير الزور” حيث العراق، وحتى القصير “حمص” حيث لبنان، وربما العمل على تشييع بعض سكان المناطق ضمن المسار البري.
مع النظر لآلية توافق مع النظام للتوصل إلى اتفاقات تُبقي على بعض قوات حزب الله في محيط المناطق الحدودية مع لبنان، لتأمين خطها على نحوٍ أفضل، والنظر إلى تأسيس طوقٍ شيعيٍ، أو غير شيعيٍ لكن موالٍ، في محيط دمشق، لتأسيس “طوق دمشق” بصورةٍ تمنع أي خطر عسكري أو أمني أو ديموغرافي ضد نفوذها الأمني والمؤسسي والسياسي في دمشق، حيث بعض مراقد أهل البيت التي لطالما استندت عليها في استقطاب الميليشيات الشيعية لسورية، مع رفع ركائز تطبيق هذا السيناريو من خلال الاستفادة من عملية إعادة الإعمار وفقًا لنظام الاستثمار “بوت” الذي يعني إنشاء ـ تشغيل ـ تسليم، في سبيل الحفاظ على فائدة استثماراتها في سوريا لأطول فترة زمنية ممكنة.
تثبيت إيران نفوذها في سوريا عبر عقد عدة اتفاقيات “شرعية” مع النظام السوري، بالإضافة إلى تثبيت نفوذها في سوريا “كدولة ضامنة”
وما يدعم التوجه صوب هذا السيناريو هو عدة عوامل، يمكن ذكرها على النحو التالي:
ـ الإدراك الإيراني لضرورة التوافق مع وضع التقاسم الجغرافي القائم للنفوذ في سوريا، في ظل عدم قدرة أي دولة فاعلة على تحقيق سيطرة مُطلقة على حساب الدول الفاعلة الأخرى، لذا باتت تعي أن الحلول التوافقية غير الصفرية هي أمرٌ ملحُ، لا سيما في ظل تعرضها لعقوبات أمريكية وضغوط إقليمية ودولية.
ـ الهدف الروسي القائم على الإبقاء على نفوذ جزئي لإيران في سوريا، في سبيل تدعيم تحركها الإستراتيجي في إطار مشروع “الأوراسيانية الجديدة” التي تقوم على التعاون مع “أعمدة” إقليمية ودولية مناوئة لهيمنة القطب الأمريكي الأحادي، في سبيل تسهيل الوصول إلى المياه الدافئة، ورفع مستوى محور تعاونها مع هذه الدول لترأس محور “القوة البرية” ضد محور “القوة البحرية” الذي يشكّله “الناتو” وتترأسه الولايات المتحدة.
ـ تثبيت إيران نفوذها في سوريا عبر عقد عدة اتفاقيات “شرعية” مع النظام السوري، بالإضافة إلى تثبيت نفوذها في سوريا “كدولة ضامنة”.
في الختام، تُدرك طهران ضرورة التحرك حيال نفوذها في سوريا بواسطة سيناريو واقعي يتماشى مع المعادلة الدولية الماثلة فيها، تلك المعادلة التي بات من الواضح أنها تقوم على أساس تقليم نفوذها لأقل مستوى، وإلى جانب المعادلة الدولية، تجدر الإشارة إلى أن الشكل البنيّوي للنظام والشعب السوريين يختلف عن الحالة اليمنية والعراقية واللبنانية، ما يجعلها بحاجة فعلية للنظر في سيناريو المحاصصة الجغرافية الذي بات مرسومًا كآلية واضحة تتقاسم فيها الدول نفوذها ومصالحها في سوريا.