“الشراكة بين الصين و”إسرائيل” ليست طبيعية، فهما تختلفان إلى حد كبير في الحجم الاقتصادي والديموغرافيا والتوجه الجيوسياسي، فالصين لديها 10 مدن أكبر من مجموع سكان “إسرائيل”، ولا يوجد في الصين جالية يهودية، ولا في “إسرائيل” جالية صينية، كما تتوافق “إسرائيل” بشكل عميق مع منافس الصين الرئيسي، الولايات المتحدة الأمريكية”.. إليوت أبرامز نائب مستشار الأمن القومي السابق في إدارة الرئيس الأمريكي الراحل جورج دبليو بوش.
لم يكن أحد يتوقع أن بعد 26 عامًا من العلاقات الدبلوماسية الهادئة بين البلدين أن تصبح الصين أكبر شريك تجاري لدولة الاحتلال الإسرائيلي في آسيا وثالث أكبر شريك تجاري لها في العالم، لا سيما أن “إسرائيل” الحليف الثابت والأساسي للولايات المتحدة الأمريكية ومن المفترض أن تساندها في حربها التجارية مع الصين، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان يشجع بسعادة وحماس على قبول الاستثمارات الصينية، في الوقت الذي كان يفرض فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسومًا جمركية على الصادرات الصينية.
العلاقة بين الصين و”إسرائيل” توسعت بسرعة وشهدت زيادة كبيرة في الاستثمارات والتبادل التجاري والتعليمي والسياحي، فعلى ما يبدو أن المصالح الاقتصادية حسمت الموقف وقررت توثيق العلاقات مع ثاني أكبر دولة في العالم وأكبر مصدر عالمي للبضائع بغض النظر عن التحالفات السياسية.
المثير للفضول في هذه العلاقة هو الاهتمام الصيني بدولة لم يتعد ترتيبها العالمي للتصدير المركز الـ45، ولذلك نبحث في هذا التقرير عن حجم الاستثمارات المتبادلة والمتمركزة في قطاع التكنولوجيا والأسباب التي جمعت بينهما، وما إذا كانت واشنطن تشعر بالراحة تجاه هذه الشراكة.
بعيدًا عن التعاون العسكري والتحالف السياسي.. ماذا الذي يجمع بين البلدين؟
قبل عامين تقريبًا، زار نتنياهو الصين وأبرم نحو 25 صفقة تجارية بقيمة ملياري دولار، مصطحبًا معه 90 رجل أعمال لدراسة طبيعة السوق الصينية وأدائها في مجالات تشمل العلوم والتكنولوجيا والموارد البشرية والنقل الجوي والرعاية الصحية والزراعة.
أبهجت هذه الزيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي قال: “الصين و”إسرائيل” تتمتعان بمزايا تكميلية والتعاون في مجال الابتكار سيحقق فوائد قوية للمواطنين في بلدينا”، وذلك ضمن خطة “حزام واحد وطريق واحد” التي تهدف إلى بناء شبكة للتجارة والبنى التحتية لربط الصين بشكل أفضل في أوروبا وجنوب شرقي آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا.
ورغم كثرة الاهتمامات الاقتصادية المشتركة بين البلدين، فإن التبادل التكنولوجي حظي بالحصة الأوفر من هذه الاتفاقيات، فبحسب تقديرات مركز معلومات شبكة الإنترنت الصيني (CNNIC)، فإن الصين لديها 772 مليون مستخدم إنترنت، وتملك ثلثي الاستثمارات العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، ولديها نحو 14 شركة ناشئة تبلغ قيمتها مليار دولار أو أكثر في هذا القطاع الذي من المتوقع أن تصل قيمته لنحو 146 مليار دولار بحلول عام 2030، ما يجعلها بالتالي نقطة بداية موفقة لدولة الاحتلال، فخلال السنوات الـ3 الماضية، تم استثمار 325 مليون دولار في 2018، مقارنة بـ308 مليون دولار عام 2017، و274 مليون دولار عام 2016.
يرى البعض أن السوق الصينية العملاقة وارتفاع عدد مستهلكيها يجعلها محط اهتمام “إسرائيل” وشركاتها
علمًا أن العلاقات الاقتصادية شملت السياحة التي تضاعفت بشكل ملحوظ، حيث أصبحت “إسرائيل” الوجهة المفضلة للصينين بعد أمريكا وكندا، وذلك عدا عن التبادل التعليمي الذي غالبًا ما يستهدف التخصصات والدراسات التي تهتم بالتكنولوجيا، بالجانب إلى استقدام العمالة الصينية إلى “إسرائيل” كجزء من خطوة إعادة الإعمار التي وقع عليها مجلس الوزراء الإسرائيلي عام 2015 لإدخال نحو 20 ألف عامل صيني لـ”إسرائيل”، يضاف إلى ذلك التعاون العسكري المحدود بسبب التدخلات الأمريكية.
ولذلك، يرى البعض أن السوق الصينية العملاقة وارتفاع عدد مستهلكيها يجعلها محط اهتمام “إسرائيل” وشركاتها، فبحسب تود دولنغر من شركة تريند لاينز المتخصصة في الاستثمار، تقول: ” نحن مخترعون جيدون وبارعون في تطوير الأشياء، ولكن إمكاناتنا الإنتاجية لا تضاهي تلك التي تتمتع بها الصين، ونحن بعيدون جدًا عن الأسواق الكبيرة ونحن في الحقيقة جزيرة ونبدع عندما يكون لدينا شركاء”.
كلا الطرفين يسعيان إلى الخروج عن حدودهما واستغلال الأسواق الجديدة وما فيها من فرص تجارية، فقد تجاوز حجم الاستثمارات بين البلدين 11 مليار دولار
في المقابل، تسعى الصين لأن تكون قوة عالمية رائدة في الابتكار والإبداع، ولا شك أن الاقتصاد الإسرائيلي الذي حاول على مدى العقدين الماضيين أن يروج لنفسه كمركز للابتكار وريادة الأعمال والبحوث استطاع أن يلفت أنظار الصين إليه، إذ يقول هاجاي تال الرئيس التنفيذي لشركة “تابيتيكا” للإعلانات الجوالة: “الصينيون يستغلون التكنولوجيا الإسرائيلية لتزويد اقتصادهم بالوقود، و”إسرائيل” تحظى بتقدير كبير كمركز للابتكار”.
ففي نظر الصين التي اشتهرت بالتقليد والبضائع متدنية الجودة “إسرائيل” هي منقذها من هذه السمعة، وذلك تبعًا لإنجازات “إسرائيل” العلمية ونمو الشركات الناشئة فيها وازدياد عدد الحائزين فيها على جائزة نوبل.
باختصار كلا الطرفين يسعيان إلى الخروج عن حدودهما واستغلال الأسواق الجديدة وما فيها من فرص تجارية، فقد تجاوز حجم الاستثمارات بين البلدين 11 مليار دولار، وهو رقم متواضع بالمقارنة مع التجارة الصينية مع الولايات المتحدة أو أوروبا ولكنه أكبر بمرتين مما كان عليه قبل عقدين وأكثر.
جدير بالذكر أن الاهتمام المتبادل بين البلدين حدث بعدما تحطمت الاقتصادات الغربية عام 2008 وأعلنت الصين رسميًا نيتها لجعل الابتكار المحرك الجديد لاقتصادها، وفي الوقت ذاته، قرر وزير الاقتصاد آنذاك، نفتالي بنت، أن تنوع “إسرائيل” تجارتها وتتجه إلى المحور الآسيوي – الصين واليابان والهند -، دعمًا للاقتصاد الإسرائيلي ولدعوة رئيس وزراء “إسرائيل” الأول ديفيد بن غوريون الذي أراد دومًا “التعرف على الكنوز الفكرية والثقافية لشعوب آسيا”، معبرًا عن ذلك في مقال كتبه عام 1953 عن أهمية علاقة “إسرائيل” بآسيا الذي أشار فيه إلى ازدهار آسيا المتنامي، واصفًا الصين بالدولة العريقة القديمة.
ما الذي قد يعرقل تقدم هذه العلاقة؟
يشهد العالم العلاقات الصينية الإسرائيلية المتنامية، ولكنه في الوقت ذاته يراقب التحديات التي تلوح في الأفق وقد تؤثر عليها، آجلًا أم عاجلًا، لأسباب عدة، وأهمها:
اختلاف التوجه السياسي
في عام 2017 حين وقعت الصين اتفاقية تنص على استقدام 6 آلاف عامل بناء صيني إلى “إسرائيل” رفضت أن يعمل مواطنوها في المستوطنات في الضفة الغربية على اعتبار أنها أراضي فلسطينية محتلة، فقد صرح الناطق باسم الوزارة الخارجية الصينية جينغ شوانغ، قائلًا: “موقف الصين بشأن مسألة فلسطين – إسرائيل ثابتة، واضحة ولم تتغير، نحن نعارض بناء المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما يشمل القدس الشرقية والضفة الغربية، ولدى القرار 2334 الذي تبناه مجلس الأمن الدولي مؤخرًا بنود واضحة عن ذلك”.
ما يعني أن العلاقة الصينية الإسرائيلية ستلتزم حدودها داخل المصالح والاتفاقيات التجارية وليس أكثر، ولن تتطور إلى صداقة وتحالف سياسي على حساب الشراكات القديمة، فمن الواضح أن الصين لن تتخلى عن موقفها تجاه الفلسطينيين.
التخوف الأمريكي
في مطلع الـ2000، كانت كل من الصين و”إسرائيل” على وشك عقد صفقة بيع طائرات وقطع إلكترونية إسرائيلية للصين، لكن أمريكا عرقلت هذه الاتفاقية، ومنعت استكمال صفقة بيع أخرى تضمنت أنظمة الإنذار المبكر على أساس أنها تهدد أمن القوات الأمريكية في حال نشوب حرب بين الصين وتايوان، وتوالت هذه العراقيل حتى عام 2005 عندما أوقفت واشنطن صفقة بيع أسلحة مصنوعة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والمستخدمة في جمع المعلومات الاستخبارية والمراقبة.
وبذلك تبقى واشنطن الشريك الأساسي في هذا المجال، ففي عام 2016 توصل الطرفان إلى تفاهم يقتضي توفير 3.8 مليار دولار من المساعدات العسكرية الأمريكية لـ”إسرائيل”، بالجانب إلى 500 مليون دولار إضافية لنظام الدفاع الجوي/الصاروخي، وذلك على أساس سنوي ولمدة 10 أعوام قادمة.
ثقة متزعزعة
نشرت صحيفة “إيكونوميست” تقريرًا يفيد بتزايد قلق مسؤولي الأمن الإسرائيليين من الدور المتزايد للصين في الاقتصاد، لا سيما دورها في مشاريع البنية التحتية الكبرى وشرائها للتكنولوجيا المتطورة، حيث يقع جزء من هذا القلق في قدرة الصين على التجسس والجزء الآخر على سيطرتها على البنية التحتية واستغلالها ذلك بتحسين مكانتها الإستراتيجية.
فمنذ أن قررت شركة “شانغهاي إنترناشونال بورت جروب” الصينية بناء منشأة شحن تجارية في حيفا، أكبر قاعدة بحرية إسرائيلية وأكثرها ازدحامًا بالغواصات، بدأت المخاوف من قدرة الصين على إطلاق صواريخ نووية منها أو إغلاقها ببساطة في وقت الحرب دون أن تستأذن “إسرائيل”.
جدير بالإشارة إلى أن هذه المخاوف طالت الولايات المتحدة أيضًا التي ترى أن التطور الصيني على السواحل سيؤدي حتمًا إلى تآكل القوة العسكرية الأمريكية في المنطقة، وعلى الرغم من أن علاقات الصين الوثيقة مع إيران ستمنع التعاون الأمني مع “إسرائيل”، فمن غير المؤكد إلى متى سيستمر هذا الحذر والهدوء في المنطقة التي على ما يبدو أنها تزيد من حجم التوترات السياسية والاقتصادية.