ليلة السبت الـ4 من نوفمبر فوجئ الشارع السعودي بحملة اعتقالات غير مسبوقة، وصفها موقع “INTERNATIONAL POLICY DIGEST” الأمريكي بـ”ليلة السكاكين الطويلة” شملت في مرحلتها الأولى 18 أميرًا وما يقرب من 38 رجل أعمال، كان المبرر حينها “مكافحة الفساد” وذلك بعد ساعات قليلة من إصدار قرار بتشكيل لجنة لمكافحة الفساد.
الأسماء التي شملتها الحملة في ساعتها الأولى وعلى رأسها الأمير متعب بن عبد الله رئيس الحرس الوطني المقال من منصبه والمرشح السابق لولاية العهد، كذلك الوليد بن طلال أحد المعارضين لوصول ابن سلمان للحكم بهذه الطريقة والداعم لمحمد بن نايف، تشير إلى أن للحملة أهدافًا سياسية واضحة حتى إن لم يتم الإفصاح عن ذلك بشكل رسمي.
العديد من وسائل الإعلام الغربية اعتبرت ما حدث جزءًا من مخطط ابن سلمان – الذي يرأس اللجنة – لتعبيد الطريق نحو الكرسي متخلصًا في طريقه من كل العقبات التي تعيقه عن بلوغ هدفه الأساسي، حتى إن استدعى الأمر إعادة تشكيل خريطة المملكة من جديد ضاربًا بمرتكزاتها التاريخية عرض الحائط.
كما كانت البداية مفاجئة جاءت النهاية هي الأخرى أكثر مفاجأة، فبالأمس أعلن الديوان الملكي السعودي انتهاء لجنة مكافحة الفساد بعد 452 يومًا من تشكيلها، أجرت خلالها التحقيق مع قرابة 381 شخصًا، وذلك بحسب البيان الصادر عن الديوان الملكي الذي أكد أن “اللجنة أنجزت المهام المنوطة بها وفق الأمر الملكي وحققت الغاية المرجوة من تشكيلها”، وأضاف أن ولي العهد “طلب من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الموافقة على إنهاء أعمالها.. وقد وجه بالموافقة على ذلك”.
عدد من التساؤلات فرضت نفسها عن دوافع إنهاء عمل اللجنة المفاجئ في هذا التوقيت الذي تتعرض فيه المملكة لضغوطات دولية وإقليمية جراء سجلها الحقوقي المشين، فضلاً عن ردود الفعل بشأن سياساتها في اليمن، هذا بخلاف الصورة المشوهة التي نقلتها حادثة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي في مقر القنصلية السعودية بإسطنبول أكتوبر الماضي.. فهل حققت اللجنة أهدافها فعلاً؟
106 مليارات دولار حصيلة الحملة
التحقيقات التي أجرتها الحملة منذ تشكيلها وحتى الإعلان عن توقف عملها أسفرت عن استعادة أكثر من 400 مليار ريال (106 مليارات دولار) ستوجه إلى خزينة المملكة من خلال إجراءات تسوية مع 87 شخصًا بعد إقرارهم بما نسب إليهم وقبولهم للتسوية، وتمثل ذلك في عدة أصول من عقارات وشركات وأوراق مالية ونقد وغير ذلك، بحسب البيان.
البيان أضاف كذلك أن النائب العام رفض التسوية مع 56 شخصًا لوجود قضايا جنائية أخرى عليهم كما رفض 8 أشخاص التوصل إلى تسوية وظلت تهمة الفساد ثابتة بحقهم، فيما أشار إلى إخلاء سبيل من لم تثبت عليه تهمة الفساد، تلك الحملة التي دافع عنها ولي العهد ووصفها بأنها “علاج بالصدمة” بينما يحاول إصلاح الاقتصاد.
تعاني الرياض من ضغوط دولية وإقليمية غير مسبوقة الفترة الأخيرة عبر ثلاثة ملفات شائكة ساهمت بشكل كبير في تشويه صورة المملكة دوليًا
اللجنة منذ بدايتها كانت مثار جدل ولغط لدى الكثير من المراقبين، لا سيما من خارج المملكة، حيث اعتبرها البعض وقتها مغامرة ربما تكون محفوفة بالمخاطر، خاصة في ظل التحديات التي تواجهها السعودية سواء من بقايا المعارضين في الداخل أو الأجواء الإقليمية الملبدة، بدءًا بالخسائر التي تتكبدها المملكة في اليمن مرورًا بالتراجع خطوة للوراء في سوريا، في مقابل تمديد نفوذ حزب الله وفرض طهران كلمتها في كثير من الملفات، ثم التصعيد مع لبنان وما قد يفتح الباب أمام مزيد من التوتر في العلاقات مع بعض العواصم الأوروبية كبرلين وباريس وغيرها.
فندق الريتز كارلتون ميدان احتجاز المتورطين في قضايا فساد
لماذا في هذا التوقيت؟
منذ احتجاز المتهمين – وفق اللجنة السعودية – بقضايا فساد في فندق الريتز كارلتون بالرياض، ذهبت الترجيحات إلى أن حملة الاعتقالات لن تتوقف في القريب العاجل، والقوس سيظل مفتوحًا لفترة ليست بالقليلة وحتى تنصيب ابن سلمان ملكًا، وهو التفسير الأقرب للواقع حينها بعدما أحكم ولي العهد قبضته على مفاصل المملكة كافة.
ورغم الإجراءات الإصلاحية التي قام بها ابن سلمان فيما يتعلق بتخفيف القيود على دور السنيما وقيادة النساء للسيارات والسماح للأنشطة الترفيهية بالوجود في مناطق مختلفة من المملكة بعضها بجوار الأماكن المقدسة، هذا بخلاف تقليم أظافر التيار الديني والزج بمئات العلماء والدعاة داخل السجون، فإن تأثير كل هذه الخطوات تلاشى سريعًا مع صعود بعض الأحداث على الساحة خلال الأشهر القليلة الماضية.
تعاني الرياض من ضغوط دولية وإقليمية غير مسبوقة الفترة الأخيرة عبر ثلاثة ملفات شائكة ساهمت بشكل كبير في تشويه صورة المملكة دوليًا وتهديد مستقبل ولي العهد بها خاصة وهو المتحكم الرئيسي في خط سير تلك الملفات، وعليه كان العودة خطوة للوراء كإحدى إستراتيجيات الخروج من المأزق.
الرياض وعبر هذه الخطوة تود أن تخطب ود العالم بأنها ماضية قدمًا في مسار معالجة بعض السلبيات التي كانت مثار انتقاد وهجوم عليها طيلة الأشهر الأخيرة الماضية
الملف الأول يتعلق بالسجل المشين لحقوق الإنسان داخل السعودية، حيث حملات الاعتقالات الكبيرة التي شملت مختلف ألوان الطيف السياسي والمجتمعي والثقافي، حتى من داخل الأسرة الحاكمة، فضلاً عن ملاحقة عشرات المدونين داخل المملكة وخارجها وهو ما عزز من تلك الصورة السلبية.
ثم جاءت حادثة اغتيال خاشقجي لتعمق الجرح السعودي دوليًا، خاصة بعدما كشفته أجهزة التحقيقات التركية بشأن تورط ولي العهد وعدد من رجالاته في الجريمة، وهو ما أقرته الرياض بعد إنكار دام طويلاً، وقدمت بعض المتهمين لمحاكمات عاجلة أحيط بها الكثير من الريبة وعلامات الاستفهام.
وفوق هذا كله يأتي الملف اليمني وما به من خروقات فاضحة، حيث استهداف الأطفال والمدنيين، فضلاً عن استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا، حتى بات اليمن الذي كان سعيدًا واحدًا من أكثر مناطق الأرض بؤسًا وفقرًا واضمحلالاً، وفرض هذا الملف نفسه على موائد النقاش الدولي في عدد من برلمانات العالم التي أدانت حكوماتها بشأن التعامل مع السعودية وتسليحها أو دعم تحركاتها في اليمن.
الأمير الوليد بن طلال
تحسين الصورة
وفي ظل المستجدات السابقة كان التحرك لوقف لجنة مكافحة الفساد وتعطيل حملة الاعتقالات ولو مؤقتًا في محاولة لتحسين الصورة خارجيًا، وهو ما ذهب إليه علي شهابي رئيس معهد الجزيرة العربية في واشنطن، الذي يؤيد السياسة السعودية، بأن إنهاء الحملة عكس محاولة من جانب الحكومة لمعالجة الانتقادات الدولية للافتقار للإجراءات القانونية السليمة وللشفافية.
شهابي في حديثه لـ”رويترز” قال: “سيعبر المنتقدون الآن عن استيائهم من غياب الأسماء ونقص التفاصيل بشأن كل قضية لكن علينا أن نتذكر أن الأفراد أنفسهم لا يرغبون في ذكر أسمائهم”، وهو المبرر الذي وإن هدف إلى تبييض ساحة الرياض غير أنه في حقيقته أكثر إدانة وتشويهًا.
الرياض وعبر هذه الخطوة تود أن تخطب ود العالم بأنها ماضية قدمًا في مسار معالجة بعض السلبيات التي كانت مثار انتقاد وهجوم عليها طيلة الأشهر الأخيرة الماضية، لكن يبدو أن مثل هذه التحركات لم تقنع الكثيرين من المهتمين بالشأن الحقوقي وعلى رأسهم كارين يونج الباحثة المقيمة بمعهد أمريكان إنتربرايز في واشنطن التي قالت إن من الصعب القول ما إذا كانت الحملة ناجحة.
يونج في تصريحات صحفية لها أضافت “النبأ السار هو أن الحكومة تشير فيما يبدو إلى أنها تريد المضي قدمًا… أما بخصوص السياسة الخارجية للسعودية وسياساتها الداخلية، خاصة تجاه النشطاء المدنيين، فلا تزال هناك مخاوف شديدة في الغرب”.
ولي العهد محمد بن سلمان
مواصلة الابتزاز
فريق آخر ذهب إلى أن أبرز مهام اللجنة الأساسية بجانب البعد السياسي لها يتمثل في محاولة ابتزاز كبار رجالات الدولة في محاولة لإنعاش خزينة المملكة المنهكة جراء سياسات ولي العهد الخارجية لا سيما تجاه الولايات المتحدة التي نجحت في اقتناص ما يزيد على تريليون دولار من الرياض في أقل من عام.
علاوة على ذلك الكلفة الباهظة للحرب في اليمن التي أنهكت الاقتصاد السعودي طيلة الفترة الماضية وهو ما تكشفه أرقام ومعدلات العجز خلال الأعوام الأربع الأخيرة على وجه التحديد، كذلك الثمن التي تدفعه المملكة للإبقاء على حضورها في الملف السوري، سواء عن طريق تحمل نفقات الوجود الأمريكي الذي تعده الرياض حليفها القوي في هذا الميدان، أم عن طريق ابتزازها في إعادة إعمار سوريا ملاحقة للنفوذ الإيراني هناك بعدما نجح الأخير في كسب عدد من الجولات في لبنان والعراق واليمن.
وبحسب مسؤول سعودي في ذلك الوقت فإن السلطات أفرجت عن الأمير متعب بن عبد الله بعد أسابيع من احتجازه بعد موافقته على دفع ما يربو على مليار دولار لتسوية مزاعم فساد ضده، وبعد شهرين، سوى الوليد قضيته بعدما وصفه “بالتفاهم المؤكد مع الحكومة”، ولم ترد أنباء بشأن الأمير تركي منذ ذلك الحين.
هذا بخلاف عدد من كبار رجال الأعمال في المملكة على رأسهم وزير الاقتصاد المقال عادل فقيه الذي من المتعقد بأنه لا يزال قيد الاحتجاز، ورئيس الديوان الملكي السابق خالد التويجري، فيما أفرجت عن وليد الإبراهيم وصالح كامل بعد فترة وجيزة، لكن آخرين منهم عمرو الدباغ ومحمد حسين العمودي لم يخرجوا سوى هذا الشهر، بعد تسوية تم إبرامها مع لجنة التحقيق.
ومع بقاء المستجدات التي دفعت ابن سلمان لإنهاء عمل اللجنة في الوقت الذي لا تزال نسبة كبيرة من دوافع إنشائها على قيد الحياة، تبقى العديد من التخوفات قائمة بشأن استمرارية عملية الابتزاز ومواصلة موجة الاعتقالات وإن لم تكون تحت مسمى لجنة مكافحة الفساد.