يأتي فيلم نوري بيلجي جيلان “شجرة الأجاص البرية The Wild Pear Tree” ليصبح عاشر أعماله السينمائية التي استطاعت أن تأخذ باسم صاحبها إلى العالمية، حاملةً معها قضايا الإنسان والمجتمع التركيّ والناس البسطاء الذين استطاع “جيلان” أنْ يحوّل قضاياهم إلى أعمال فنية تستحق المشاهدة. فالإنسان هو محور أفلامه، يتجذّر من خلاله في اهتمامات المجتمع التركيّ الحديث، ويغوص في مشكلاته ويحلّلها بأسلوبٍ رقيقٍ ودقيقٍ.
ولم يبتعد جيلان في فيلمه هذا عن أفلامه السابقة، مثل “سبات شتوي” الذي نال السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 2014، وما سبقها من أفلام أخرى. إذ يستمرّ بتعزيز نهجه السينمائيّ الواقعيّ والقائم على اكتشاف جماليّات العاديّ وتصوير الطبيعة والحياة اليومية وتحليل العلاقات الإنسانية والطبقية في المجتمع.
نوري بيلجي جيلان أثناء تصوير فيلم “شجرة الأجاص البريّة”
عوضًا عن ذلك، يحضر الأدب كموضوعة أساسية في أفلام جيلان، فهو غالبًا ما يستعير ويتأثر ويستلهم من الأدب الروسيّ في بعض آلياته السردية ليعكس من خلالها بحساسية بصرية عالية واقعًا إنسانيًا متماثلًا بين الشعوب. وهو ما عبّر عنه مرةً حين قال في إحدى مقابلاته: “قد يكون للأدب الروسي التأثير الأكبر في أفلامي. فهو صالح للإنسانية جميعها. ولو لم أكن أرى فيه انعكاسات المجتمع التركي، لما كنتُ لأستخدمه”.
واقعية شديدة تحكي تناقضات المجتمع التركي
يحاول جيلان في “شجرة الأجاص البرية” أنْ يرسم مشهدًا واضحًا وشاملًا للمشهد الاجتماعيّ التركي، حيث يتداخل معه جميع المشاهد السياسيّة والدينية والنفسية في البلاد. وعلى امتداد ثلاث ساعات تقريبًا، يتنقّل جيلان مع شخصيات فيلمه في حواراتٍ –على بساطتها وكثرتها- إلا أنها تصلح لأنْ تكون فلسفيةً ووجدانية تحكي عن أنفسنا وعن شخصيّاتنا على الرغم من اختلاف اللغة التي تتحدّث بها.
يطرح الفيلم من خلال نقده الاجتماعي كيف تداخلت سياسة البلاد بتناقضاتها التي تمتدّ إلى جميع جوانب الحياة فيها تقريبًا، ما بين المجتمع والدين والتاريخ والفردانية والروحانية والمادية
وباختصارٍ شديد، ترتكز قصة الفيلم أساسًا حول “سنان”، طالبٌ تركيّ قد تخرّج حديثًا من إحدى جامعات مدينة تشاناكالي ليجد نفسه في معركة البحث عن وظيفة يستطيع من خلالها إعالة نفسه وعائلته وتمويل روايته الأولى. وإلى جانب طموحه الأدبيّ الذي يأخذ جزءًا كبيرًا من حياته، نجد أنّ طموحات سنان تمتدّ إلى أبعد من ذلك، فهو يطمح في الخروج من القرية إلى المدينة، وفي العمل كمدرّس في بلدٍ تكثر فيه أعداد المدرّسين وتشحّ فيه الفرص، وهو يطمح في الزّواج من فتاةٍ تناسب أفكاره ورؤيته للحياة، تمامًا كما يطمح في الخروج من حالة الفقر التي لم يعرف غيرها وفي الاستقلال عن عائلته وأبيه المقامِر.
وفي حين يتجنّب الفيلم وشخصياته الحديث السياسيّ الواضح، إلا أنه يطرح من خلال نقده الاجتماعي كيف تداخلت سياسة البلاد بتناقضاتها التي تمتدّ إلى جميع جوانب الحياة فيها تقريبًا، ما بين المجتمع والدين والتاريخ والفردانية والروحانية والمادية، وغيرها من القضايا والتناقضات ممّا تعيشه وتواجهه تركيّا وإن كانت غير واضحة وبادية للآخرين.
ما يجعلنا نتأكّد ثانية أنّ جيلان ينتمي لمجموعة قليلة من المخرجين ممّن يراقبون أوضاع بلدانهم وقضايا مجتمعاتهم بحساسية عالية لينتجوا من ورائها أعمالًا سينمائية تحكي الكثير عن الناس والبشر والطبيعة والتاريخ والأوضاع السياسية ومشاكل الأفراد في المدن والتناقض الطبقي القاسي أحيانًا والمضحك أحيانًا أخرى. وعلى اختلاف آرائنا بأفلامه، إلا أنه لا يختلف اثنان على أنّ جيلان هو رائد المدرسة السينمائية التركية بأسلوبه المتميز وقدرته الإخراجية الفذة.
يتناول جيلان في الفيلم أيضًا، وبانسيابية شديدة وعمقٍ دقيق، موضوعات عديدة تناولها سابقًا، مثل التوترات الأسرية والتناقض الشاسع بين الحياة والعادات الريفية والحضرية، والبحث عن المعنى والمسار في الحياة، والخلاف مع الدين التقليديّ والصواب والمسؤولية، والطفولة والعودة للقرية والبلدة الأصلية، بالإضافة إلى العديد من المشكلات الوجودية والاجتماعية والدينية والسياسية والفرديّة.
سينماتوغرافيا الخريف والريف التركيّ
لم يبتعد جيلان في “شجرة الأجاص البرية” عن ثيمته المشهورة في أفلامه السابقة، حيث الإطارات الجميلة والكادرات الواسعة، لكن هنا طغت الألوان الخريفية ثمّ المشاهد الشتوية والثلجية التي يشهدها الريف التركيّ على الفيلم بأكلمه، والذي احتوى على العديد من الصور السينمائية المذهلة وبالغة الجَمال. وهكذا، يكون الفيلم برمّته الفيلم درسٌ سينمائيّ جيّد للغاية فيما يتعلّق بكيفية تكوين أو تشكيل الكادر السينمائي الذي يأخذ من الطبيعة أو التصوير الخارجيّ موضوعًا له.
طغت الألوان الخريفية ثمّ المشاهد الشتوية والثلجية التي يشهدها الريف التركيّ على الفيلم بأكلمه
فمع التكوينات التشكيلية للفيلم، يلمس المُشاهِد على الشاشة العديد من عناصر الطبيعة والريف التركيّ بألوانه المختلفة بجَمال مرصود وتناسقٍ محكَم، وكأنّ جيلان يحاول تطويع الطبيعة بين يديه والتحكّم فيها كيفما يشاء لا العكس أبدًا. ولعلّ أهمّ ما ركّز عليه في الفيلم كان حضور حصان طروادة الذي اشتهر في الأساطير الإغريقية القديمة، حيث أنّ طروادة هي نفسها مدينة تشاناكالي التركية.
فيلم “شجرة الإجاص البرية”، وهو عنوان الكتاب الذي يطبعه سنان بنقوده الخاصّة ولا يبيع نسخة واحدة منه؛ إنه عن علاقة الفرد بأسرته ومجتمعه، عن القدرة على الحب والبغض، وعن الأحلام والخيبات، عن التناقضات التي يعيشها المجتمع بفعل الدين والسياسة والعادات واالتاريخ الثقيل، وجميعها متصلة بواقع مرصود بعناية شديدة لا يعرفها الكثيرون لكنّ جيلان يعرفها بكلّ تأكيد.